حلبة مصارعة
إيـران.. كتاب جديد: التوازن المفقود فى الشرق الأوسط

- الخمينى هو عبدالناصر الفارسى الذى تطلع لقيادة الشرق الأوسط
- رحبت إيران بغزو أمريكا لأفغانستان ثم العراق وساعدت على تورطها
يصدر قريبًا عن دار روافد للنشر كتاب «إيران»، للكاتب الصحفى الكبير أنور الهوارى، بالتزامن مع ما يجرى فى المنطقة من أحداث ترتبط بطهران بشكل أساسى.
وتنشر «حرف» مقدمة هذا الكتاب المهم التى تحمل عنوان «نحن وإيران مقدمات تمهيدية»، حيث يشير الكاتب إلى أنه «من الطبيعى أن تكون العلاقات طبيعية وكاملة بين مصر وإيران، مهما تكُن تقلبات السياسة، وتغيرات الأنظمة، فقبل أن تكون كل منهما دولة كانت كل منهما على فترات طويلة من التاريخ مهد حضارة... وهما من ركائز الشرق الأوسط الحديث».

مثلما كانت مصر الناصرية، هى محور الأحداث فى الشرق الأوسط، كذلك فإن إيران الخمينية حلت مكانها؛ لتكون محور الأحداث فى الشرق الأوسط، وبقدر ما كان عبدالناصر فى مواجهة الاستعمار هو الطبعة المصرية من مصدق الفارسى الذى واجه الاستعمار، وأعلن عن تأميم صناعة النفط الإيرانى، فكذلك كان الخمينى هو عبدالناصر الفارسى الذى تطلع لقيادة الشرق الأوسط فى مواجهة الصهيونية والاستعمار، تمامًا مثلما كان الشاه محمد رضا بهلوى هو السادات الإيرانى، ومثلما كان السادات هو الشاه المصرى، تصرف عبدالناصر- فى مواجهة القوى الكبرى- باعتباره الوريث التاريخى لإمبراطورية محمد على باشا، ومن قبلها إمبراطورية صلاح الدين، ومن أعقبها من عظماء المماليك، لم يكن أمام القوى الكبرى من خيار غير القضاء على زعامة عبدالناصر، حتى يخلو لهم النفوذ فى الشرق الأوسط، حاولوا فى ١٩٥٦م، وأخفقوا، ثم حاولوا فى ١٩٧٦م، وظفروا بالنجاح، انكسرت زعامة عبدالناصر، وبات الطريق ميسرًا لقيادة مصر، ثم العرب، ثم الإقليم فى طريق معاكس ومضاد تمامًا، طريق التوافق، ثم التطبيع، ثم الخضوع الطوعى للإملاءات العامة للقوى الكبرى.

تم إجهاض الناصرية على مراحل:
١- الدعم الغربى للدول العربية المحافظة، التى بدورها دخلت مع ناصر فى حروب باردة مخفية؛ فأجهضت مشاريعه للوحدة العربية، ثم استنزفت قدراته العسكرية فى حرب اليمن.
٢- سياسة الضربة الشاملة القاضية عام ١٧٦٧م.
٣- تصفية المشروع الناصرى من داخله- بنجاح منقطع النظير- من خلال الرجل الثانى الذى حل مكان عبدالناصر فى قيادة الدولة، وتمكن فى عشر سنوات من تحويل الدفة من النقيض إلى النقيض، ومثل بذلك نموذجًا فعالًا لتصفية المشاريع المضادة للغرب؛ فجاء بعده جورباتشوف الذى نجح فى تفكيك الاتحاد السوفيتى، ثم جاء محمود عباس أبومازن الذى نجح فى تصفية الثورة الفلسطينية من داخلها. وبهذا خرجت مصر من أن تكون محور السياسة فى الشرق الأوسط، صارت بلدًا عاديًا، قدم تنازلات ضخمة من دوره ووضعه ومكانته، دون مقابل إلا معونات تتناقص مع الأيام، وإلا مشاكل داخلية تتفاقم، وتراجعًا فى التأثير الإقليمى لا يتوقف.
فى حالة الخمينى ونظام الثورة الإسلامية فى إيران؛ فإن الأمر يلزمه إيضاح عدة نقاط:
١- بعد خروج مصر من سُدة القيادة الإقليمية بعد عبدالناصر، صارت فى الإقليم قوتان أخطر من بعضهما: إيران سواء قبل الثورة أو بعدها وسواء تحت قيادة الشاه أم الخمينى، ثم عراق صدام حسين والبعث العربى الاشتراكى، وقد حرصت أمريكا على إقامة توازن دقيق بينهما، بحيث تشغل كل منهما بالأخرى، وحيث لا تسمح لواحدة منهما بهزيمة الأخرى، ورغم أن أمريكا كانت حليفة الشاه، وكان الشاه رجلها التابع المخلص الأمين، ورغم أنها ضمنت له مثلما ضمنت لإسرائيل ماكينة عسكرية متقدمة ومتفوقة، رغم ذلك كله، فإن أمريكا- لحفظ التوازن بينه وبين العراق، لم تتردد فى إذكاء الخلافات بين البلدين، بما يستنزف قدرًا من طاقة حليفها القوى، ويجعله فى حالة احتياج دائم إليها، كان هذا قبل الثورة، وقبل سقوط الشاه، وقبل تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية فى إيران.
٢ – رغم أن عراق صدام حسين كان حليفًا لموسكو، أى ضد أمريكا، ورغم أن إيران الخمينى كانت ضد الأمريكان بصورة عنيفة، وضد الروس بصورة أقل، رغم هذا وذاك، فإنها شجعت الحرب بينهما، ثم وزعت تأييدها ودعمها- فى الخفاء- بالتساوى بينهما، بحيث لا ينتصر أحدهما على خصمه، وبحيث يطول أمد الحرب أطول فترة ممكنة، وبحيث يتم استنزافهما معًا بالقدر الذى يقلل من خطرهما لفترة طويلة.

٣ – المقصود بالتوازن هنا، هو إشغال هذين البلدين الكبيرين كل منهما بالآخر، بحيث لا يجد أى منهما وقتًا ولا قوة؛ ليفكر فى السيطرة على منابع البترول والغاز فى الجزيرة العربية، فمنذ شقت أمريكا طريقها إلى البترول العربى وعندها استراتيجية ثابتة، وهى أنه: من مصلحة أمريكا بقاء منابع بترول الجزيرة العربية فى يد العائلات العربية الحاكمة وهى آل سعود، وآل نهيان، وآل الصباح، وآل ثان، وآل خليفة، وأن كلًا من إيران والعراق لدى كل منهما المقدار من القوة الذى يغرى، ويكفى للاستيلاء على بعض أو كل البترول العربى، وأن مصلحة أمريكا تقتضى إبعاد هذين الخطرين، كما تستلزم حماية حكم العائلات الخمس، وضمان استمرارها وكفالة استقرارها.
٤ – فائدة التوازن بين قوتى إيران والعراق، وتوزيع الدعم بينهما، وخلق النزاعات بينهما، وإطالة أمد الحرب بينهما، واستنزاف طاقة كل منهما، كانت فائدة ذلك كله أمرين: أن تضمن أمريكا بقاء البترول العربى فى يد العائلات العربية الحاكمة، دون أن تضطر لدخول حرب مباشرة مع أى طرف منهما، ثم الأهم هو ألا تضطر أمريكا للحل المر المذاق، وهو أن تضطر بنفسها لاحتلال الجزيرة العربية احتلالًا مباشرًا بالقوة المسلحة، وقد حدث شىء من ذلك بصورة جزئية عدة مرات، مرة اضطرت لحرب العراق بعد غزوه الكويت، فلو لم تحاربه؛ لكان الطريق أمامه مفتوحًا للسيطرة، على ما يشاء من بترول الجزيرة العربية.
٥- بقى هذا التوازن قائمًا، حتى مطلع الألفية الراهنة فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، وأخطأت أمريكا جملة أخطاء، صبت كلها فى صالح الجمهورية الإسلامية فى إيران، وكانت خلاصة الأخطاء الأمريكية، هى تقديم الشرق الأوسط هدية على طبق من فضة إلى إيران. قبل ذلك عاشت إيران من الثورة ١٩٧٩، حتى غزو أفغانستان ٢٠٠١م، ثم العراق ٢٠٠٣، عاشت فى محيط من الخصوم التقليديين، حيث أهل السنة فى أفغانستان وباكستان، وحيث العراق العلمانى البعثى تحت قيادة العرب السنة، وحيث عرب الخليج، وحيث مصر، وإن كانت قد انسحبت طواعية من قيادة العرب، إلا أنها ظلت وفية لانتمائها العربى، تبرعت أمريكا، وتطوعت وأزاحت كل هذه الحواجز من طريق التسلل، ثم التوسع، ثم مد نفوذ وهيمنة إيران على الإقليم.
٦ – إذا كانت أمريكا بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١م قد تحولت من جمهورية إلى إمبراطورية غير محكومة بدستورها الداخلى الذى يعبر عن جمهورية، وليست إمبراطورية، كما هى غير محكومة بالقانون الدولى، فكذلك تحولت إيران إلى إمبراطورية إقليمية، تمددت فى ربع القرن الأول من القرن الحادى والعشرين، بما يجدد صلتها بتراثها الإمبراطورى من الأخمينيين فى القرن السادس قبل الميلاد، حتى الصفويين فى القرن السادس عشر الميلادى، كانت نقطة البداية: إسقاط السنة فى أفغانستان ٢٠٠١، ثم إسقاط البعث العربى العلمانى فى العراق ٢٠٠٣.

٧ – مثلما سعت أمريكا لاستنزاف إيران، وإطالة أمد حربها مع العراق، فكذلك رحبت إيران بغزو أمريكا لأفغانستان، ثم العراق، وساعدت على تورطها بمعلومات استخباراتية مضللة حتى تم الغزو، ثم بعد الغزو، بدأت تدعم المقاومة سواء من الشيعة أو السنة وسواء من خصومها أو من توابعها، ثم ساعدت على إطالة أمد حربها سواء فى أفغانستان أو العراق، ثم فى إفشال نماذج الحكم التى اصطنعها الأمريكان فى البلدين، وفى الخلاصة: ساعدت إيران- بكفاءة عالية- على فشل الأمريكان سواء فى أفغانستان أو العراق.
٨ – بقدر هزيمة أمريكا الإمبراطورية الجامحة فى العراق وأفغانستان، كان صعود إيران إلى مركز إمبراطورى صاعد فى الشرق الأوسط، حدث ذلك فى العقد الأول من القرن، ثم بدأ العقد الثانى بثورات الربيع العربى التى وقفت منها أمريكا- فى البداية- موقف الدعم والتأييد، كان الحاصل هو انكشاف العالم العربى بكامله أمام النفوذ الإيرانى الذى تمدد، كلما ضعفت الدولة الوطنية، لذا فهو يبلغ ذروته فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث ضعفت الدولة ومؤسساتها، وفقدت الكثير من مناعتها الذاتية وتماسكها الداخلى وحصانتها الوطنية، وقد اضطرت عائلات النفط العربى إلى مزيج من القهر والرشوة الاجتماعية، حتى تمنع الأقليات الشيعية من التجاوب مع تسلل النفوذ الإيرانى، كما سعت هذه العائلات، بموافقة أمريكية، إلى نوع من الثورات المضادة فى كل أنحاء العالم العربى؛ لإجهاض ثورات الربيع العربى، وتجريسها ونزع كل غطاء أخلاقى عنها.

٩ – طوفان الأقصى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وما أعقبه من حرب طويلة، تمددت من غزة إلى جنوب لبنان وإلى اليمن وإلى العراق وإلى سوريا، هى- فى تعريفها الصحيح- حرب مزدوجة وذات مسارين: ١- حرب بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. ٢- كما هى حرب غير مباشرة أو حرب عبر الوسطاء والوكلاء بين الإمبراطورية العالمية والإمبراطورية الإقليمية، لهذا طالت الحرب، لأنها ليست إلا محطة حاسمة من حرب نفوذ طويلة، بدأت مباشرة عقب ١١ سبتمبر ٢٠٠١م، حرب ربع قرن، خسرت فيها أمريكا، ولا تزال تخسر، وكسبت فيها إيران، ولا تزال تكسب.
١٠– أمريكا بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١، تحولت إلى إمبراطورية دون قصد منها، لكن أخطاءها الاستراتيجية الفادحة؛ فتحت أوسع طريق أمام إيران؛ لتكون إمبراطورية إقليمية، دون قصد منها، كما دون قصد من أمريكا، لكن واقع الحال، كما أن أمريكا ربع اقتصاد العالم وسلاحها، يحيط بالكون فى كل المحيطات، كما فى أجواء الفضاء، فكذلك إيران لها جذور إمبراطورية ضاربة فى عمق الإقليم، جذور كانت من العمق بحيث تحتاج مثل الإسكندر لاقتلاع الإمبراطورية الأخمينية أو الكيانية ٣٣١ قبل الميلاد، أو مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه لاقتلاع الإمبراطورية الساسانية ٦٤١م.
فى الظاهر، فإن الحرب هى بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية.
وفى الباطن، هى حرب بين إمبراطورية عالمية وإمبراطورية إقليمية.
طالت الحرب، وسوف تطول؛ لأنها حرب بين قوى وسيطة بما فيها إسرائيل.
حسم الحرب يستدعى أن تكون مباشرة بين الطرفين المعنيين بالدرجة الأولى: أمريكا وإيران.
وهذا لن يحدث، ما دام، أمريكا عندها أدوات لتجريد إيران من نفوذها الإقليمى، دون حرب مباشرة بينهما.

الصراع الإيرانى - الإسرائيلى
الصراع التقليدى بين إيران وجيرانها فى المنطقة هو- فى جوهره- نوعان: صراع فارسى- عربى، قبل أن تتمذهب إيران بالمذهب الشيعى الاثنى عشرى عند مطلع القرن السادس عشر، ثم أضيف إليه صراع آخر، هو الصراع السنى- الشيعى منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا، وهما صراعان أبديان مزمنان، قبل الإسلام، وبعد الإسلام، وقبل التشيع، وبعد التشيع، وحتى اليوم، والغد القريب والبعيد.
أما الصراع الإيرانى- الإسرائيلى، بالشكل القائم منذ قيام الجمهورية الإسلامية عقب الثورة الإيرانية ١٩٧٩، فهو صراع طارئ مستجد، فهو فى الأصل صراع عربى- إسرائيلى، منذ ظهرت الفكرة الصهيونية وقبل قيام دولة إسرائيل، لكن العرب منذ زيارة القدس فى نوفمبر ١٩٧٧، ثم اتفاق السلام فى كامب ديفيد ١٩٧٨، ثم مفاوضات أوسلو ١٩٩٣، ثم الاتفاقات الإبراهيمية ٢٠٢٠، يخرجون- بالتدريج من الصراع- ويدخلون السلام مع إسرائيل، وقد تزامن ذلك مع الثورة الإيرانية، ثم قيام نظام الجمهورية الإسلامية، ثم سعى إيران لدور إقليمى مهيمن فى الشرق الأوسط، بينما كانت الحكومات العربية ترى مصلحتها الوطنية فى الخروج من الصراع والدخول فى السلم، كانت إيران الإسلامية ترى مصلحتها فى الخروج من السلم والدخول فى الصراع، حيث ألغت العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، والتى تعود إلى عام ١٩٥٠، وأغلقت السفارة الإسرائيلية، وأعلنت خطابًا سياسيًا عدائيًا تجاه إسرائيل على النقيض، مما كانت عليه العلاقات قبل الثورة، بينما كانت سفارة إسرائيل فى طهران يجرى إغلاقها، كانت الترتيبات على قدم وساق لتدشين أول سفارة لها فى العالم العربى. ورغم الخطاب الإيرانى الصاخب ضد إسرائيل، فيما يقرب من نصف قرن فإنه- من الناحية العملية- كان الصراع فى أكثره مع العرب، وفى أقله مع إسرائيل، حيث: أطول حرب فى تاريخ القرن العشرين، كانت بين إيران والعرب ١٩٨٠– ١٩٨٨، وحيث كان النصر الاستراتيجى الذى أحرزته إيران منذ مطلع القرن الحادى والعشرين هو نصر على العرب، وليس على إسرائيل فقد تمددت وتسللت، وأحاطت بالمشرق العربى كله من العراق والشام والجزيرة العربية بكاملها؛ فباتت تحيط بعرب المشرق من كل الجهات إحاطة السوار بالمعصم، وحتى وهى- فى هذه الفترة- تواجه إسرائيل بقوة، فإنها تواجهها بأدوات عربية، بتنظيمات من الشيعة العرب المتحالفين معها والموالين لها فى اليمن والعراق ولبنان وسوريا وفلسطين، أدوات إيران فى صراعها الحالى مع إسرائيل هى أدوات عربية وكوادر بشرية عربية وأراض عربية، وربما لهذا السبب لا تكتفى إسرائيل بضرب الأدوات العربية فى يد إيران، وتسعى- فوق ذلك- لنقل الحرب إلى الأرض الإيرانية بما عليها من سيادة وبشر وقدرات وإمكانات. تنظيمات مسلحة من الشيعة العرب، هم وقود الصراع بين إيران وإسرائيل.
استثمرت إيران فى ضعف العرب أولًا؛ فأخذت موقعهم التاريخى، ثم استثمرت فى أخطاء أمريكا ثانيًا، إذ سقط عراق صدام الذى كان حائط صد وتوازن فى الإقليم مع النفوذ الإيرانى، ثم استثمرت فى حاجة التنظيمات العربية المسلحة- شيعية وسنية- للتمويل والسلاح؛ فصنعت لنفسها كماشة حديدية ملتهبة، تطوق بها العالم العربى، وتواجه بها إسرائيل، وتشاغب بها أمريكا وأوروبا، ثم استثمرت فى إحباطات الشعوب العربية اليائسة من حكوماتها، ثم الساخطة على إسرائيل، ثم الغاضبة من أمريكا وأوروبا.

إيران الشاه كانت الحليف الحبيب لإسرائيل وأمريكا، فمن طبيعة الأشياء ومنطق الأمور، أن تكون الثورة التى أسقطت الشاه، ثم الجمهورية الإسلامية التى ورثت دولة الشاه، أن تكون هذه وتلك على نقيض ما كان عليه الشاه، أى تكون ضد إسرائيل كما تكون ضد أمريكا، وهذا توجه حقيقى وغير مفتعل وغير تمثيلى وغير مسرحى، فقبل عشرين عامًا من قيام الجمهورية الإسلامية كان الخمينى معارضا جادًا وأصيلًا، بل وعنيفًا ضد الشاه وضد العلاقات الودودة التى تربط الوثاق الحميم بين الشاه وكل من إسرائيل وأمريكا، كما أن توجهات الخمينى فى هذا الشأن، لم تكن فقط شأنًا شخصيًا يميزه، لكن كانت عاطفة سياسية عامة لدى عموم الشعب الإيرانى على اختلاف توجهاته السياسية، هذه العاطفة هى القاسم المشترك الأعظم، ليس عند الشعب الإيرانى وحده، لكن عند كل الشعوب العربية والإسلامية، هذه العاطفة تجعل الصراع ليس فقط بين العرب وإسرائيل، وليس فقط بين إيران وإسرائيل، ولكن هو صراع عربى إسلامى شامل من جهة فى مواجهة إسرائيل وأمريكا ودول أوروبا الكبرى من الجهة الأخرى، هذه العاطفة تحاول إيران بكل جهدها الاستثمار فيها، فهى تكسر عزلتها المذهبية، كما تغطى على ديكتاتوريتها الداخلية، كما تلفت الأنظار بعيدًا عن تناقضاتها الداخلية الكامنة وأهمها: أن حياة المواطن الإيرانى الاقتصادية والاجتماعية لم يطرأ عليها أى تحسن مادى أو أدبى، كما أن مجمل الحريات والحقوق السياسية والدستورية التى يتمتع بها المواطن، لا تختلف عن السقف المتدنى للحريات والحقوق فى أى بلد شرق أوسطى متخلف، ولا يملك إمكانات إيران الطبيعية وثرواتها المادية، كما لا يملك ميراثها الحضارى الرائع والثقافى المتفرد، ثم هذه العاطفة الشعبية بين كل شعوب العروبة والإسلام، إنما هى قيمة أدبية تزدهر لحظات اشتداد المواجهة، ثم لا تلبث أن تخبو بعدها، ولا قيمة عملية لها إلا فى حالة استثمارها على نحو صحيح، فقد سبق الرئيس عبدالناصر، وبلغ الذروة فى كسب عواطف شعوب هذه البلدان وخاطبهم حتى من فوق ومن تحت رءوس حكامهم ودخل قلوبهم، حيث يمكن القول- دون تجاوز- أن عبدالناصر، ما زال هو الزعيم الأكثر شعبية فى العالمين العربى والإسلامى، لكن ذلك لم ينفعه فى شىء حين قررت إسرائيل وأمريكا الانقضاض الشرس عليه، ثم افتراسه فى ساعات معدودة من صباح الخامس من يونيو ١٩٦٧.
السؤال: هل ينتهى الصراع الإيرانى- الإسرائيلى على النحو الذى انتهى به الصراع العربى- الإسرائيلى؟
بين حرب ١٩٦٧م، وزيارة القدس ١٩٧٧ عشر سنوات فاصلة، انكسرت فيها شرعية عبدالناصر، بل انكسرت هيبته، وانكسرت معه أفكار الحركة الوطنية المصرية من ثورة عرابى، ثم ثورة ١٩١٩، ثم ثورة الضباط الأحرار، أى أفكار الاستقلال الوطنى ومعادة الاستعمار ومواجهة النفوذ الأجنبى، انكسر كل ذلك دفعة واحدة فى ١٩٦٧م، ثم مع زيارة القدس ١٩٧٧م، بدأ تدشين نموذج قيادى جديد فى العالم العربى، نموذج رفضه العرب فى البداية وقاطعوه وحاصروه، لكن هو الآن بات النموذج المثالى الذى يؤمنون به ويتبعونه، مات السادات، وهو يعانى القطيعة والحصار العربى، ولكنه الآن حى نابض بالحياة فى كل عواصم العرب تقريبًا، دون استثناء، بعضهم ظاهر وأكثرهم خفى، وكلهم يستعد للظهور بوجه ساداتى فى الوقت المناسب، مع فارق أن السادات هو القائد العربى الوحيد الذى قاتل إسرائيل فى حرب حقيقية فى البر والبحر والجو، قاتلها بجيشه وشعبه، قاتلها بعد سنوات معدودة من هزيمة، لم يكن منها تعاف قريب، قاتلها وانتصر، هذا فارق ضخم بين السادات، وكل من يسير على طريقه فى السلام من العرب الآن، سلام السادات كان سلام مقاتل، كان سلام أمة مقاتلة، وهذا ما لا وجود له فى حالة سلام بين دول عربية، ليس لها مع إسرائيل حدود، ولا قامت بينهما يومًا حروب، ولا خوف لأحدهما من غزو الآخر له، بل هو سلام غير مفهوم إلا من زاوية، أنه سعى وراء الأمان فى إقليم، تقوده إسرائيل تحت كفالة أمريكا، ثم لا يمكن فهمه إلا من زاوية نظم حكم عائلية، تنشد البقاء باسترضاء أمريكا عبر التودد لإسرائيل، ثم لا يمكن فهمه إلا من زاوية الأمان تحت قيادة إسرائيل للإقليم خير من وضع مكشوف، تتعدد فيه المخاطر من الأشقاء الكبار، فتجربة الحرب بين العراق وإيران، تقول إن المسلمين بعضهم خطر على بعض، وغزو العراق للكويت معناه، أن العرب بعضهم خطر على بعض، كما أن دول الخليج الصغيرة لا تفرق فى حسابات المخاطر بين غزو محتمل من إيران أو العراق أو السعودية، ومعروف أن الكويت طلبت- من تلقاء نفسها عام ١٨٩٩- أن تفرض عليها بريطانيا حمايتها والحماية شكل صريح من أشكال الاستعمار؛ خوفًا من الغزو السعودى الوهابى، كما أن الكويت تعرضت لغزو من الشقيق العربى فى العراق، كل ذلك معناه، أن إيران ليست هى الخطر الوحيد، الذى جعلها الخطر الأكبر الآن هو أخطاء الغزو الأمريكى لأفغانستان، ثم العراق، حيث أزاحت اثنين من أكبر قوى التوازن السنية فى وجه إيران.
لهذا لن يتكرر مع إيران ما تم مع مصر عبدالناصر، سوف يتم استنزاف إيران، لكن دون إسقاطها.