السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الرواية تعيش موتًا إكلينيكيًا ومستقبلها غامض

الرواية
الرواية

ربما كانت كتابة د. جابر عصفور عن زمن الرواية إعلانًا عن وصول النهر إلى مصبه الأخير، فقد كان فيما قبل قويًا وعفيًا ومنحدرًا من السماء، لا يتوقف أمام الجزر التى تعترض مجراه، ولا يهدأ ليلتقط أنفاسه فى أى من المدن التى يمر عليها، وكان الجميع منبهرًا بهذا الجريان العفى، خائفًا فى كثير من الأحيان من الاقتراب منه، لكنه مع بدء وصوله إلى المصب، حيث الأرض المستوية التى تطؤها كل الأقدام، أصبح النهر ألعوبة الصغار والكبار، وصار بقدرة الكل العوم والسباحة والاغتسال والاستحمام فيه، وباتت مياهه راكدة آسنة لا شىء يغيرها، وكثرت المستنقعات، ونبتت الحشائش، وظهرت مسابقات البط والأوز على سطحه، وسعت الفئران والقوارض لعبوره والعراك فيه.

هكذا أصبح حال الفن الروائى الذى كثرت العلامات القائلة بنهايته وفى مقدمتها: 

جوائز لاتهدف إلى القصة

كثرت الجوائز التى أصبحت معنية بالنص الروائى، سواء كجوائز قومية تمنحها الحكومات، أو كجوائز خاصة تمنحها مؤسسات وأفراد، وساد طابع مدهش على هذه الجوائز أنها فى أغلبها لا تستهدف الفن الروائى بالدرجة الأولى، أى أنها لا تبحث فى تحقق القيمة الفنية لدى الكاتب، بقدر ما تبحث فى مدى جماهيرية الكاتب، ومدى قدرتها على صناعته كنجم، ومدى مقروئية هذا النص لدى أكبر عدد من الناس، وليس مدى تعدد مقروئية النص، فضلًا عن فكرة المحاصصة بين البلدان، البحث عن القضايا المثيرة والمربكة. وهو ما يجعل الهدف من الجائزة خارج لفن وليس داخله، ويجعل أجيالًا مقبلة ترى أن الكتابة على هذا النحو هى النهج الصحيح، والقادر على تحقق صاحبه وانتشاره. فضلًا عن أنه يشكك فى مشاريع روائية وفنية كبيرة ومهمة قدمت، أو ما زالت قيد الإنجاز، ما يضرب الفن الروائى فى مقتل، ويجعل قليلى الموهبة هم الأكثر انتشارًا، وأكثر سيادة وأكثر تحققًا، وأكثر طلبًا.

رأسمالية الإبداع

منذ أعلن فوكوياما عن وصول البشرية إلى نهاية التاريخ فى مقالته التى أصبحت كتابًا شهيرًا، التى لاقت ذيوعًا وانتشارًا لافتًا مع انهيار الاتحاد السوفيتى وسيطرة الغرب وأيديولوجيته الرأسمالية كقطب واحد فى العالم، منذ ذلك الحين وقد سادت أفكار الرأسمالية المتوحشة على كل شىء، وأصبحت قيمة الربح والخسارة هى المبدأ الأول فى كل المجالات، بما فيها العملية الإبداعية التى تحولت من عمل فردى إلى عمل جماعى، ليس فقط فى فنون السينما والمسرح وغيرها من الفنون الجماعية، ولكن أيضًا فى الفنون الفردية مثل الشعر والرواية والسيناريو وكتابة النص المسرحى، ومثلما بتنا نسمع عن وجود ورش لكتابة السيناريو، والدراما المسرحية، وصرنا مؤخرًا نسمع عن ورش لكتابة النص الروائى، ليس فقط لتعليم كيفية كتابة النص الروائى، ولكن للمشاركة فى الكتابة.

زاد الأمر صعوبة بدخول فئات من المتربحين من النص الروائى، متمثلين فى جروبات القراءة، ونوادى القراءة، والناشرين الراغبين فى الأعمال الأكثر مبيعًا، ومانحى الجوائز التى تنقل الكاتب من حالة الفقر المدقع إلى الثراء العظيم، وأصحاب الصالونات، ومنظمو المؤتمرات والمعارض والندوات التى تجعل من يشارك فيها ثريًا، هكذا أصبح الفن الروائى ليس عملًا فرديًا، لكنه عمل جماعى، يفكر فيه مجموعة من الناس، ويعكف على نشره وتروجيه مجموعة أخرى، ويربح من ورائه فيالق من البشر سواء إعلاميين أو نقادًا أو أصحاب دور نشر ومكتبات أو حتى رعاة ومترجمين وغيرهم. كل هذا كان ضد فكرة الرهان على الفن كقيمة خالصة، والسعى خلف فكرة الكسب والربح، وأصبحت قيمة الكاتب وأهميته ممثلة فى قدر رأس المال الذى يستثمره فى مهنته هذه، بدءًا من كونه ماذا يعمل، أو ابن مَن، أو على علاقات وتقاطعات بمَن، مرورًا بمدى قدرته على الإنفاق على كتابته، ومدى قدرته على إدارته نشاطه الثقافى، وتجنيده إعلاميين ومروجين ثقافيين، وأحيانًا محكمين ومفكرين. ومدى قدرته على توصيل نصه إلى بوابة الدراما أو السينما، حيث الانتشار الأعظم والأكثر ربحية. بما يعنى أنه بقدر ما يستثمر فى مهنة الكتابة بقدر ما يكونه عائده منها، وتأتى الموهبة غالبًا فى نهاية قائمة الاستثمار، لأنه إن وجد المال أمكنه إيجاد الموهبة أو استئجارها.

الذكاء الاصطناعى

لم يعد أحد ينتظر الموهبة، فيمكن لأى قارئ أو هاوٍ أو عابر سبيل أن يحدد مواصفات الرواية التى يطمح إليها، ويكتب هذه المواصفات على أحد برامج الشات المتقدمة، وينظر إلى الشاشة وهى تعرض له صفحات النص الذى طلبه، هكذا لم يعد العالم بحاجة إلى الكاتب، وأصبح بإمكان كل شخص أن يكون كاتبًا، يمكن لدار النشر أن تعدل أو تحرر فى النص كما تريد، وتنشره بأى اسمه تراه، ويمكن للقارئ أن يقرأ النص الذى طلبه من الآلة دون طباعة أو إخراج فنى، ويمكن أن يطلب منها أن تخرجه فنيًا كما يريد أيضًا.

اليوتيوبر وغيرهم

كان من المدهش أن ظاهرة لم تتحقق فى غالبية معارض الكتب لأى من الفائزين بجوائز نوبل للآداب، وهى أن تقف الجماهير الغفير فى انتظار أن يوقع لها كاتب لم يسمع به أحد فى الوسط الثقافى، وربما يتدافعون من أجل الحصول على هذا التوقيع الثمين، ليجلس الذين أمضوا حياتهم فى مهنة الكتابة يتساءلون عمن يكون؟، وسوف تصدمهم الأخبار بأنه مذيع فى برنامج ليلى، أو نجم كرة سابق، أو مغنية معتزلة، أو يوتيوبر له قناة على النت، وأنه قرر أن يكتب مذكراته أو ذكرياته أو أى شىء ورد على خاطره، وأنه بمجرد الإعلان عن هذا العمل وزع عدة طبعات منه، وحقق مبيعات قياسية، وأن جماهيره والمقتنعين به من الشباب أو الأرامل أو غيرهم جاءوا ليحصلوا على توقيعه.

غياب الوعى النقدى

أصبح من قبيل العنقاء والخل الوفى أن تجد ناقدًا يمكنه أن يقول إن هذا نص سيئ، فقد اعتاد النقاد على حالة وصفية، وساعدتهم مناهج النقد الغربية على الحديث عن أشياء يمكن الحديث عنها فى مقالات الجرائد وكراسات الأطفال، مثل الوقوف أمام عتبات النص أو لوحات الأغلفة، وساعدتهم البنيوية على إحصاءات غريبة ومدهشة لا علاقة لها بالمعنى، كما ساعدتهم الشكلانية الروسية على عمل خرائط ومثلثات ودوائر وأسهم، وساعدهم أساتذة التناص على تبريرات مدهشة لعمليات السرقة. هكذا أصبح دور النقد إشادة ومديحًا أو فى أضعف الإيمان وصفيًا تبريريًا لا يؤدى إلى شىء، وتساوت كل النصوص والعوالم، وأصبح كل البيض فى سلة واحدة، فضاعت القيمة والهدف والجهد الإبداعى، وحتى فروق الموهبة، وأصبح الكل كتّابًا، والكل تقريبًا ليسوا كتّابًا، ما يجعلنا أغنى الأمم بالكتّاب، وأفقرهم بالإبداع ذاته.