الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

وقائع موت دنجوان القرن.. الأيام الأخيرة فى حياة فتى عائلة الأباظية (1)

رشدي أباظة
رشدي أباظة

- رشدى أباظة دخل حربًا ضد الموت والمرض بأسلحة فاسدة ارتدت فى صدره

- عندما احتاج إلى نقل دم أجبر طبيبه لشراء الدم على اسم خادمه حتى لا يعرف أحد بمرضه

- أشهر جراح أورام فى العالم قال: مع هذا الرجل لا أستطيع أن أطبق قوانين الطب 

- اشترط رشدى على فريد شوقى أن يلغى موته فى سيناريو البؤساء حتى يوافق عليه وفريد يرد: هنغير رواية فيكتور هوجو يا رشدى؟

«بعد عودتى لمصر سأبدأ حياة جديدة دون هرجلة ولا بوهيمية سأعيشها باتزان ووضوح».

جاءت تلك الجملة التى تتأرجح بين القرار والأمنية على لسان رجل مريض منهك القوى ينام داخل حجرة باردة فى جناح أمراض المخ والأعصاب بمستشفى «ميديل سكس» فى شتاء لندن القارس منتصف يناير ١٩٨٠.. كان هذا الرجل خارجًا لتوه من عملية بالغة الخطورة لاستئصال ورم شرس اكتشفه بالصدفة قبل أيام، لكن بعد أن كان قد أطبق على فصوص مخه بمخالبه الشيطانية.

الرجل لم يكن سوى رشدى أباظة، دنجوان السينما المصرية الأوحد منذ الخمسينيات وفتى عائلة الأباظية المدلل الذى عاش ٥٤ عامًا من حياته بالطول والعرض كالقطار الجامح لا يألو على شىء ويطوى أمامه كل الرغبات الممكنة والمستحيلة وكأنه رأس حربة للحياة فى سباقها الأزلى مع الموت.

الجملة قالها رشدى بصوت منهك لصحفى الكواكب سيد فرغلى الذى زار رشدى بعد خروجه من العمليات وسماح الأطباء له بمقابلة محبيه وأصدقائه.. والجملة على صغرها وبساطة معناها الظاهر كانت على ما يبدو تلخيصًا لحالة عظمى من ندم يعترى رشدى فى تلك اللحظة بعد شعوره أن العمر تسرب من بين يديه وهو ابن الحياة البار.. وها هو يقف على أعتاب الموت ينظر بيأس إلى خط النهاية الوشيكة.

لم يكن ندمه إلا على انتهاك صحته والفتك بها على مدى سنوات عمره القليلة نسبيًا.. وكأنه كان يسارع الخطى نحو السرطان وترك ملعب صحته مفتوحًا للخمر والتدخين المفرط، ما دمر خلايا معدته وأصابها بقرحة مزمنة لم يعالجها رشدى لأنه يمقت مجرد الإحساس بالمرض فصدرت المعدة المتقيحة آلافًا من الخلايا المسرطنة إلى باقى أعضاء الجسد بدأتها بالمخ الذى أجرى فيه عملية إزالة الورم ذلك اليوم.

رشدى قال جملته أو قراره لصحفى الكواكب «سأبدأ حياة جديدة دون هرجلة ولا بوهيمية» وهو يعرف أنها أمنية جاءت متأخرة بعد أن كان السيف قد سبق العزل وصار خط النهاية أمامه أوضح من شمس القيلولة حتى لو رفض قلبه الشغوف بالحياة الاعتراف بتلك الحقيقة، فإن عقله يدركها جيدًا.. وهو العقل الذى تخلص لتوه من حصار الورم السرطانى على يد البروفيسور الإنجليزى الأشهر «جون أندرو» لذلك استقر فى يقينه أنها النهاية وكل ما سوف يأتى طال أو قصر هو حلاوة روح كانت محبة للحياة بشكل جنونى.. لكن أوان رحيلها قد حان.

كبرياء ضد الموت.. الإمبراطور لا يمرض

بالتأكيد عندما أقول إن رشدى أباظة كان يكره المرض فأنا لم آت بجديد، فمن الذى يحب المرض، لكن الجملة فى حالة الدنجوان محملة بمعانٍ أكبر، لأن رشدى كانت علاقته بالمرض علاقة عداء كامل وحرب شعواء، لكن للأسف إاستخدم فيها أسلحة فاسدة تخدم الخصم وكأنه يساعد غريمه للتغلب عليه، وأهم تلك الأسلحة هو الاستهتار بمسببات المرض ذاته، حتى عندما جاوز الخمسين وبدأت كفة الحرب تميل ناحية العدو وصار دور الطبيب هو الدور الأهم، تعامل معه بمنطق طفولى أرهق معه أطباءه.. كما حكى صحفى الكواكب فوميل لبيب وصديق رشدى عن واقعة طريفة ومحزنة فى نفس الوقت حكاها له الدكتور جمال العرقان، طبيب رشدى الخاص وصديق الأباظية منذ سنين طويلة.. والرجل الذى عانى الأمرين من سلوك رشدى غير المسئول تجاه مرضه.

ماذا يقول الدكتور العرقان لفوميل بنص ما حكاه الأخير فى عدد الكواكب بتاريخ ٥ أغسطس ١٩٨٠:

«رشدى كان يصاب فى بعض الأحيان بنزيف حاد فى المعدة من قرحة متمكنة، وكان الأمر يستدعى نقل الدم له، وهنا كان رشدى يصيح فى الدكتور بعنف: الدم ليس باسمى ويفسر الدكتور جمال الأمر: فى ثلاث مرات خلال ثلاثة أعوام أجريت له عمليات نقل الدم وكنا نشترى الدم باسم حسين خادمه الأمين وكان حسين هو الذى يذهب ليشترى الدم بنفسه ويهز الأطباء رءوسهم مشدوهين وهم يرون المريض يشترى دمه بنفسه وهو فى قمة الصحة».

ليس المرض فقط هو العدو، لأن عدوه الأكبر كان هو الموت، ومثلما كره سيرة المرض فقد مقت ذكر الموت. ويحكى فوميل قصة أخرى دالة وكان الطرف الثالث فيها هو فريد شوقى الصديق الصدوق لرشدى ورفيق العمر والشباب والفحولة، حيث قرر فريد إنتاج فيلم عن رائعة فيكتور هوجو «البؤساء» وقال فريد لفوميل إن هوجو بالتأكيد عندما قرر كتابة البؤساء لا بد أنه تخيل رشدى فى دور الضابط من فرط لياقة الدور لرشدى، وبالفعل تعاقد رشدى على أداء الدور لكنه عندما قرأ السيناريو بعد تمصيره اتصل بفريد معنفًا «دورى فى البؤساء أموت والإمبراطور لا يموت».

قال فريد ملطفًا «هذه قصة كلاسيكية يا رشدى من روائع الأدب العالمى لا يمكن أن نجرى فيها التعديل.

فرد عليه رشدى زى ما إنت ملك السينما يا فريد أنا الإمبراطور والإمبراطور لا يموت» وبالفعل رفض رشدى الدور المهم لمجرد أنه سيموت طبقًا لأحداث الفيلم والرواية وأدى الدور عادل أدهم.

لاحظ أن هذا الفيلم كان سنة ٧٧، أى فى سنوات الدنجوان الأخيرة بعد أن بدأ المرض يراوغه بهجماته بين الحين والآخر.

قصة أخرى تبرز فى آخر أيامه تدرك معها نظرة رشدى للموت وتهيبه من مجرد الاقتراب منه ولو وضعنا للقصة عنوانًا فسيكون «صفقة الموت» وهو نفس اسم المسلسل التليفزيونى الذى كان نذير شؤم عليه.. رشدى كانت لديه نظرية مؤمنًا بها إيمانًا قاطعًا أن التليفزيون يرخص الفنان لذلك لم يستجب لتطور العصر ولا ضغوط العروض التى جاءت له من التليفزيون الذى أنشئ مطلع الستينيات وكان يردد أن السينما تجعل للفنان سعر الكافيار، والتليفزيون يجعل له سعر الفول المدمس.. لكن على ما يبدو أن المخرج عادل صادق استطاع أن ينزل رشدى من علياء السينما إلى أرض الدراما التليفزيونية، وتلك معجزة أولى، أما المعجزة الثانية فهى إقناعه ببطولة مسلسل تليفزيونى يكون عنوانه مقترنًا بعدوه اللدود وهو الموت.. حيث عرض عليه صادق سيناريو بعنوان «صفقة الموت».. توقف رشدى فزعًا عندما رأى السيناريو وقال للمخرج التليفزيونى: لماذا لا يكون اسمه الصفقة فقط؟

فقال عادل صادق بدهشة لماذا؟

فأجاب رشدى لأننى لا أحب الموت 

.. وكان المنطقى فى تلك الحالة أن يرفض رشدى تمثيله، مثلما ترك دور البطولة فى ملحمة البؤساء أمام صديق عمره فريد شوقى قبلها بسنتين، لكن هنا تحققت المعجزة الثانية وهى إقناع عادل صادق لرشدى بعدم تغيير الاسم، لأن هناك مسرحية شهيرة باسم الصفقة ومضى رشدى إلى العمل التليفزيونى الأول له وهو مثقل القلب بالتشاؤم، حيث قال لمن حوله: أشعر أننى سوف أخسر الصفقة

صورة ضمن حواره الأخير مع مجلة الشبكة ينفي مرضه بالسرطان

نبوءة الشؤم.. بداية الهزيمة أمام المرض

دخل رشدى الاستديو للتصوير فى عز برد ديسمبر ١٩٧٩ وكان يرتدى جلبابًا فضفاضًا داخل اللوكيشن طبقًا لطبيعة دوره بعد أن يكون متدثرًا بمعطف ثقيل يقيه برودة الأجواء.. وهنا يصاب رشدى بدور شديد من الإنفلونزا، لكنه كان هبة ربانية له لكى يكتشف ذلك الضيف الثقيل أو السرطان الكامن داخل جسده دون أن يدرى.. فبعد أن بدأت أعراض الإنفلونزا تنزاح ببطء، شعر رشدى أن الأمر أكبر من دور برد فلسانه قد ثقل ويده اليسرى لم يعد يشعر بها وتوقفت عن الانصياع لأوامر عقله.. وهى نفس اليد التى كانت تكيل اللكمات قديمًا فى الأربعينيات عندما كان بطلًا للملاكمة والآن لا تستطيع حمل كوب ماء فارغ.

لم يفزع رشدى أو على الأقل لم يبد فزعًا لأنه لا يحب أن يظهر ضعيفًا، فالإمبراطور لا يفزع ولا يمرض.. لكنه أدار قرص التليفون للرجل الوحيد المسموح له بالاطلاع على نقاط ضعفه.. وهو الدكتور جمال العرقان وأسرى له بما يشعر به بعد أن أخذ عليه الوعود والمواثيق ألا يعرف أحد بمرضه.. وعندما سمع الطبيب الصديق فزع من تلك الأعراض وتمنى ألا تكون توقعاته صحيحة فاضطر بدافع الصداقة الحميمة مع رشدى أن يجاريه فى رغباته بالحذر الشديد فى تسريب أى خبر بمرضه دون أن يتركه لنفسه الأمارة بالإهمال و«الطناش».. كعادته.. فجهز له سيناريو محكمًا للكشف عليه داخل مستشفى جديد جدًا فى حى المهندسين فى ذلك الوقت واسمه «مستشفى الدكتور فاهم عبدالرحيم» تصل إليه بصعوبة عبر شوارع جانبية من شارع السودان ومكث هناك رشدى أيامًا دون أن يعرف أحد منتظرًا نتيجة الأشعات التى أجريت على كل أجزاء جسده لتفك لوغريتمات ما حدث للبطل الرياضى القديم .. فجاءت الحقيقة المفزعة مثلما توقعها الدكتور العرقان تمامًا.

ورم كبير فى المخ يضغط على مركز الأعصاب ويصنع الشلل النصفى، وبأسرع من البرق رتب الدكتور العرقان كل الأمور للسفر السريع إلى لندن لإجراء الجراحة فورًا وإزالة هذا الضيف بالغ الثقل والذى تزيد خطورته كل دقيقة عن الدقيقة السابقة.

حتى تلك اللحظة كانت خطة السرية تسير على أكمل وجه بين رشدى وطبيبه إلى أن وصل رشدى إلى مستشفى «ميديل ٦» مع خمسة مرافقين، أمه وزوجته نبيلة أباظة التى تزوجها قبل السفر مباشرة بعد خروجه من مستشفى فاهم عبدالرحيم وصديق عمره فتحى الفضالى وولده شريف الفضالى وزوجته مريم فخر الدين.

لكن السر لم يعد سرًا فور ولوج رشدى ورفقته إلى باب المستشفى ليكتشفوا وجود المذيعة اللامعة المحبوبة أمانى ناشد تصارع الموت فى إحدى غرفها وكانت مصر كلها مكلومة عليها لمرضها الضارى الذى هاجمها وهى فى ريعان شبابها.. وكانت حينها خارجة منذ أيام من تحت يد الدكتور أندروز، نفس الطبيب الذى سيستأصل ورم رشدى.. وكان غريبًا ومفاجئًا على مرافقى أمانى ناشد رؤية رشدى بحالته المتأخرة ولم يكن صعبًا حينها أن يعرفوا أن رشدى سيدخل فى اليوم التالى لوصوله إلى نفس غرفة عمليات أمانى متلمسًا التخلص من ضيفه الثقيل على يد جراح الأورام الأشهر أندروز، وما هى إلا دقائق حتى تحطمت كل حصون السرية التى صنعها رشدى وطبيبه وعرفت مصر كلها الخبر المشئوم الصعب

رشدى أباظة فى لندن يزيل ورمًا على المخ. 

الصورة الأخيرة مع طبيبه وصديقه جمال العرقان قبل دخوله مستشفى العجوزة مباشرة

أيام رشدى فى لندن: ماذا حدث داخل غرفة العمليات

أيام رشدى داخل مستشفى لندن كانت كاشفة لشخصيته المفعمة بالكبرياء والأنفة، لم تتغير شخصيته المرحة ولا انخفضت نبرة صوت ضحكاته المجلجلة داخل ردهة المستشفى والتفسير المنطقى أن ذلك كام هروبًا إضطراريًا من التفكير فى مرضه وعملية الموت التى هو على مشارف خوضها، وظل رشدى فى تلك الحالة حتى دخل فى غيبوبة البنج داخل الغرفة الرهيبة غرفة الحياة والموت وهى عرين الدكتور أندروز المعروف فى العالم كله بمدى قسوته وجديته لذلك لا يمكن أن يسمع فى غرفة عملياته صوتًا غير صوت الآلات التى تفتح الضلوع أو الجماجم لتلتقم الأورام الخبيثة من مخابئها، لكن فى ذلك اليوم حدث الشىء الأغرب فى حياة الجراح الأشهر، حيث سمع فجأة فى وسط انهماكه فى العملية الخطيرة صوت همهمات بكاء شديد من إحدى الممرضات المساعدات.. والغريب أن الدكتور أندروز لم يعنفها ولا يطردها مثلما هو متوقع، بل أصابته هو الآخر عدوى التأثر بحالة ذلك الرجل الشرقى الوسيم مليح القسمات والفنان العربى الشهير، كما أخبروه .. وترك الطبيب لمساعديه استكمال بعض الخطوات ريثما يهدأ قليلًا مستعينًا بقرص مهدئ حتى يعود لطبيعته الجامدة التى لا تتأثر بحالة مرضاه.

ومرت الساعات ثقيلة حتى خرج رشدى أباظة مسجى على فراش أبيض وخلفه الممرضات وكأنهن فرقة نحيب فرعونية، لأن نتيجة تحليل الورم الأولى ظهرت قبل أن يخرج رشدى من العمليات وتبين أنه سرطانى من النوع شديد الخبث والضراوة.

مرت الساعات طويلة حتى أفاق رشدى فى صباح اليوم التالى ليجد كل من حوله فى حالة يرثى لها ما بين إرهاق شديد نتيجة عدم النوم وحزن وكمد أشد بعد معرفتهم بخطورة الورم.. لكن رشدى حبيب الحياة لم يحب تلك الحالة حوله، فما إن استرد قليلًا من وعيه حتى سخر منهم وضحك على حالتهم البالية وشحوبهم القلق ومارس هوايته فى الضحك والمزاج الذى لم ينجو منه حتى ممرضات المستشفى الجميلات اللاتى وقعن فى حبه.

ويحكى صديق رشدى الصحفى فوميل لبيب موقفًا كاشفًا لغضبه من المرأة آخر أيامه، فبعد ساعات من إفاقته أراد رشدى أن يذهب إلى دورة المياه فقفز المساعدون ليسندوه فرفض بطبيعة الحال وهنا حاولت الممرضة الجميلة مساعدته على النهوض على اعتبار أن هذا من صميم عملها، لكن رشدى قال جملة قاطعة سمعها كل من كان حوله: أنا لا أعتمد على امرأة.

رنت الجملة فى أذن الجميع وكأن رشدى يعلن موقفه بوضوح من جنس النساء لأسباب سيأتى ذكرها فى سياق الموضوع.. ووقف الجميع بمن فيهم الممرضة ينظرون إلى رجل المستحيل أمامهم الذى خرج منذ ساعات قليلة من أخطر عملية جراحية ممكن أن تجرى لإنسان ومع ذلك يتسند على الحائط ويمشى ببطء لا يخفى الكبرياء إلى الحمام رافضًا أن تكون هناك يد تساعده حتى لو كانت الممرضة ليتخلق مشهد سينمائى درامى بديع فى ردهة المستشفى لو مثله رشدى فى فيلم لأتهم بالمبالغة.. وتصادف أن مر فى نفس اللحظة الجراح القاسى المتجهم طول الوقت والذى لا يدهشه شىء، الدكتور أندروز، لكنه للعجب اندهش من ذلك المشهد البديع فتوقف وصاح مندهشًا: 

مستر أباظة

فقال رشدى ضاحكًا: نعم هو بعينه وليس الدوبلير

واستطرد الطبيب: وتمشى لوحدك 

فقال رشدى: هذه شهادة لك أنك جراح ممتاز

وضحك أندروز وكانت الممرضات قد تجمعن حول طبيبهم المشدوه ناحية الرجل الذى كان بين يديه مفتوح الرأس منذ ساعات وقال لهم: وددت لو حللت كل ذرة فى جسم هذا الرجل لأعرف سر قوته

لم يكن هذا المشهد الوحيد الذى أثار عجب ودهشة جراح لندن فما رآه بعد ذلك فى أيام إقامته داخل المستشفى يثير العجب أكثر، حيث حوّل رشدى سريره إلى غرفة مكتب وصارت مائدة الطعام أمامه هى الطاولة التى يفترش عليها ورقه وسيناريوهاته المقترحة ويدون ملاحظاته عليها، كما لو كان منغمسًا فى مكتبه فى القاهرة تمامًا.. وقبل نهاية فترة علاجه التى حددها له الأطباء داخل المستشفى اتخذ قراره بالخروج من المستشفى قائلًا لمن حوله: كرهت المظاهرات وأريد العودة إلى القاهرة لأنجز ما تأخر من أعمالى 

وهنا «وضع الدكتور أندروز يديه فى الشق» كما يقول المثل المصرى الصميم ووافق على خروجه قائلًا: 

مع هذا الرجل لا أستطيع أن أطبق قوانين الطب

العودة إلى القاهرة.. تشبث بالحياة

عندما عاد رشدى إلى القاهرة فى يناير لم يصدق الجميع ما وصل إليهم بالخطأ من مرافقى أمانى ناشد المذيعة الجميلة من أن رشدى مصاب بسرطان مميت وهو فى أيامه الأخيرة .. لأنهم رأوا أمامهم رجلًا صلدًا لم يفقد حيويته ولا شغفه بالحياة حتى وإن بدا الإرهاق على ملامح وجهه الشاحبة.. فها هو فى جلسته الأولى مع الأصدقاء والتى حضرها محمود ياسين ومدحت السباعى وفوميل لبيب، صحفى الكواكب، تحدث رشدى كثيرًا عن مشروعاته الفنية والشخصية المقبلة وكأنه سيعيش ألف عام.

يقول فوميل لبيب إن رشدى كان منطلقًا فى الحديث بروح معنوية عالية عن المستقبل، ويعدد المشروعات وكأنه يضع خطة خمسية مثل الدول، فقد قال إن عليه أن ينهى مسلسل صفقة الموت تحديًا للموت ويبدأ فيلمًا جديدًا من إخراج سعد عرفة وسيناريو يوسف فرنسيس، يستعجل العودة إلى الاستديوهات لينسى أنه مريض، وأخرج صكوك ممتلكاته، مثل أرض الهرم وأرض المقطم، وبدأ يتحدث عن المشروعات الصالحة لكل منهما، وكان يردد خططه بحماس شديد أمام الأصدقاء وكأنه يريد أن يصدقها أو أن يطرد بها شبح الموت الذى يطارده أو أن يبنى بتلك الأمانى جسرًا طويلًا يبعده عن مخالب الموت المتربص به.

إذن رشدى كان يتعامل مع المرض كأن لم يكن، وأحب أن يعامله المحيطون به بنفس الطريقة، لا يريد أن يرى فى أعينهم أنه مريض.

وليس أدل على تلك الحالة من الإنكار من الحوار الذى أجراه مع مجلة «الشبكة»، اللبنانية، فى عددها الصادر يوم ٣ مارس ١٩٨٠، والذى أجراه معه محرر «الشبكة» فى المينا هاوس وخلفه الأهرامات، وكان شغل رشدى الشاغل أثناء الحوار هو التأكيد على أنه بخير، وأن ما حدث فى لندن قبل شهرين لم يكن أكثر من عملية بسيطة جدًا متعلقة بجلطة صغيرة فى إحدى شعيرات المخ هى التى تعرقل الأوامر الصادرة من جهاز الحركة فى المخ إلى الأعصاب التى تلبى الأوامر، وهو ما يفسر تعطل يده اليسرى عن العمل.. هكذا ببساطة هى حالة رشدى المرضية كما وصفها بالنص لصحفى الشبكة.

وإمعانًا فى تصديق كذبته على نفسه رد رشدى على السؤال الصحفى الذى يقول: مَن أطلق شائعة السرطان؟ 

فأجاب: لا أعرفه.. ولا أريد أن أعرفه، سامحه الله، فقد أفزع الناس.

ولما سأله: لماذا لم تنشر تكذيبًا؟ قال رشدى:

رأيت ألا ألقى بالًا للأمر، ما يهمنى هو أن يقرأ الناس كلمة صدق. واستطرد: طمن أحبابى أننى بألف خير.

ولم ينسَ رشدى بالطبع فى الحوار أن يشكر كل من سأل عليه، وعلى رأسهم الرئيس السادات الذى كان يرسل إليه باقات زهور عن طريق السفارة، وقال بالنص: مصر بكرمها وسخائها أرادت أن تدفع حساب العملية، ولكننى رفضت قائلًا إننى قادر ومصر مثقلة بالأعباء. 

ثم قال رشدى: كنت أتلقى مكالمات تليفونية لا تنقطع، أكثرها دفئًا وإنسانية مكالمات نادية لطفى التى كانت تصيح بصوتها العالى حتى يسمعها جيرانى فى الغرف الأخرى. ثم استطرد: «نادية هذه الإنسانة ليس لها مثيل فى أسرتنا الفنية».

إذن فالشاهد فى الموضوع أن رشدى أراد أن يصدق أن علاقته مع المرض انتهت باستئصال طبيب لندن الورم من رأسه.. والباقى تحصيل حاصل.. ودخل الدنجوان فى حرب مع الموت والمرض بالتجاهل والانغماس فى الحياة، يريد أن يحيط نفسه بكل مظاهرها، فهذا صديق حميم يدعوه إلى السهر فى مينا هاوس فيذهب سعيدًا منتشيًا؛ لأن المينا هاوس هو ملعب صبا الدنجوان الذى شهد جل مغامراته مع الحياة والنساء، وكان له مكان مقدس معروف باسمه بجوار حمام السباحة القديم داخل الفندق الشهير، كان يقول مداعبًا لأصدقائه: «أنا فى المينا هاوس إذن أنا أعيش»، وظل فى تلك الحالة من مراوغة المرض وخداع النفس لأسابيع وشهور بعد التعافى المؤقت من آثار العملية الخطيرة والانغماس فى العمل أمام الكاميرات ومجالسة الأصدقاء، إلى أن وجد رشدى نفسه أمام الحقيقة وجهًا لوجه، ليأتى شهر أبريل بعد ثلاثة أشهر من الهروب، وتسوء حالة رشدى الصحية، ويئن هذه المرة صدره بالألم بعد أن نسى آلام رأسه.

أمى على فراش موتى.. هل كره رشدى والدته؟

الطبيب والصديق جمال العرقان حكى للكواكب لحظة الحقيقة عند رشدى، قائلًا: فى شهر أبريل ساءت حالة رشدى، فطلبت أن نجرى له صور أشعة على الصدر لأن الشكوى هذه المرة كانت من آلام فى صدره، وقد رفض فى البداية قائلًا: «ويرانى الناس مريضًا ويكشفون مرضى من صدرى؟.. يفتح الله».. لكن الذى يتحدث هنا هو الصديق وليس الطبيب، فشدد العرقان على صديقه أن يلتقيه عند الباب الخلفى لمستشفى قصر العينى الجديد فى الخامسة، وهو توقيت مناسب لرغبة رشدى فى التخفى، حيث إن الشوارع تكون شبه خالية فى هذا التوقيت، والباب الخلفى لقصر العينى من ناحية فندق الميريديان، وهى منطقة غير مأهولة بالمارين.

وانتظر الدكتور العرقان صديقه رشدى على ميعادهما، وانتظر ساعة، لكن رشدى لم يحضر، وغضب الطبيب من صديقه وعنفه، قائلًا: لا بد أن نجرى الأشعة على الصدر، فاستجاب رشدى لضغط طبيبه على مضض بعد أن تأكد أنه لن يراه أحد.. لكن الغريب، والذى لاحظه الدكتور العرقان وحكاه، أن هروب رشدى فى الواقع لم يكن خوفًا من أن يراه الناس مريضًا، بل هو هروب من معرفة الحقيقة كاملة هذه المرة، فقد كان يريد أن يصدق أنه تعافى تمامًا بعد عملية الدكتور أندروز فى لندن، وهو ما يتنافى مع الأعراض والآلام المبرحة التى تهاجمه فى صدره هذه المرة، فيقول الدكتور العرقان إنه لم يسأله بعد ذلك عن الأشعة ولا حام حتى حول نتائجها، بل إنه تعامل مع معاناة المرض ببطولة نادرة تعجب لها صديقه وطبيبه، حيث اقتصر الأمر على أنه يطلب منه حقنة لتسكين الآلام المبرحة عندما تعاوده وكفى، دون أن يقترب بسؤاله عن ماهية تلك الآلام.

ومضت الأشهر تتذبذب بالدنجوان، لا هو يعود إلى الاستديو ولا هو يخرج إلى الطريق ولا هو يلتقى بالناس، ومضت الأيام ورشدى فى فراش المرض مرغمًا، وهو حتى الآن نظريًا لا يعرف بحالته، إلى أن جاءت لحظة المواجهة بين الفنان وطبيبه عندما اشتدت الآلام على الدنجوان، فسأله العرقان: هل فرطت فى أخذ الدواء؟

فرد رشدى رده غير المبالى موضحًا أنه شعر بدبيب العافية فى جسده، فتركه ٣ أيام لأنه لا يحب الدواء.

رد عليه الطبيب بنفس هدوئه: إذن يحسن أن تنتقل إلى المستشفى لأن آلامك سوف تتزايد.

هنا فقط على ما يبدو وجد رشدى نفسه وصل إلى النقطة التى ينبغى أن يواجه فيها الحقيقة القاسية، فاعتدل فى مقعده وسأله: دكتور جمال ما حقيقة ما بى؟.. قل لى ما أسفرت عنه أشعة أبريل الماضى.

هنا سأله الطبيب سؤالًا آخر ردًا على سؤاله، وكأنه قرر أن يضعه فى مواجهة كاملة مع نفسه وقال له: 

هل قرأت تقرير طبيب لندن ذاك الذى تلقته أمك ووضعته لك تحت عقب الباب.

هنا وهنا فقط، على عهدة الدكتور العرقان، بكى الإمبراطور وسالت دموعه ونكس رأسه وهو ينهض كالأطفال.. وكأن الطبيب قد نكأ جرحه العميق من أمه، المرأة الأقوى والأهم فى حياته. 

وهنا ينبغى أن نشير إلى أن الأستاذ ماهر زهدى حكى فى حلقات درامية رائعة لسيرة حياة رشدى أباظة، بعنوان «الرجل الأول» نشرت قبل عشر سنوات فى جريدة «الجريدة» السعودية، عن تلك اللحظة التى تحدث عنها الدكتور العرقان، والتى لعبت فيها الأم دورًا قاسيًا فى حياة رشدى جعلته ينزلها من برجها العاجى فى خياله، والذى لم تقترب منه امرأة غيرها على كثرة النساء فى حياته.

الذى حدث أن الأم قد كتبت نصف ثروتها لرشدى والنصف الآخر لابنته قسمت.. لكن بعد عملية لندن واطلاعها على تقرير طبيب لندن، الذى يقرر بشكل دقيق أن أيام رشدى معدودة فى الدنيا لأن السرطان كان قد توغل فى أعضاء أخرى غير المخ الذى استؤصل منه الورم، وهو الأمر الذى حرص الجميع على إخفائه عن رشدى حتى لا تتأثر حالته النفسية، لكن الأم الإيطالية نحّت الحزن جانبًا وفكرت بمنطق عملى أوروبى، ورأت أن ثروتها بهذا السيناريو ستذهب إلى إخوة رشدى من أبيه، مثل فكرى ورجاء، فطلبت منه الرجوع فى الوصية واسترداد ثروتها التى منحتها له. 

وعندما سألها عن السبب لأنه لم يطلب منها أصلًا فلماذا تقرر سحبها الآن، فما كان منها إلا أن وضعت تقرير الطبيب الإنجليزى المفزع تحت عقب الباب لكى يراه رشدى ويعرف سبب إصرارها على استرجاع ثروتها.. وهو الأمر الذى كسر رشدى على ما يبدو وجعل نفسيته فى الحضيض حتى عندما أخفى ذلك بمحاولاته المضنية لتعاطى الحياة كما قلنا.. لذلك عندما فاتحه الدكتور العرقان فى الأمر انهارت كل خطوط دفاعاته، وبكى كالأطفال، ليس من وطأة المرض والمصير المحتوم بقدر ما كان من قسوة الأم.

ودخل رشدى إلى الجناح الخاص فى مستشفى العجوزة وحوله قلة من الأهل وأقرب الأقربين، وهم فكرى أخوه وزوجته حياة قنديل وأخته رجاء وشريف الفضالى، ابن صديقه الذى يناديه بابا رشدى، وأخيرًا ملاك الرحمة كما أطلق عليها صحفى الكواكب، وهى نادية لطفى، وتشممت الصحافة الخبر، ونُشر فى اليوم التالى خبر بعنوان «رشدى أباظة فى مستشفى العجوزة»، وهو الأمر الذى جعل الكل يخفى الجرائد عن رشدى.. وجاءت إلى المستشفى الأم القاسية بعد أن منعها رشدى من الحضور إلى البيت، وعندما دخلت عليه أصبحنا أمام مشهد درامى بامتياز رصده فوميل لبيب، وحدث كالتالى.

عندما دخلت الأم كان رشدى ينام على جنبه مواجهًا للحائط لكى يخفى آلامه عن الحضور، فلما نادته استدار على وهن، وحين رآها أشاح بوجهه وشتم فكرى أخاه الذى فتح لها الباب لتدخل، فقال فكرى للأم: لو سمحتِ لا نريد له إزعاجًا يكفيه ما به.

قالت الأم: أنا أمه وأولى الناس بالبقاء إلى جانبه. 

هنا تدخل وجيه أباظة بحزم تعرفه الأم جيدًا: ستخرجين فورًا بناء على طلبه وسننفذ تعليماته، ولا شأن لنا بما بينكما. 

وخرجت الأم عنوة فى مشهد دراماتيكى يبدو أنه أجهز على ما تبقى من حوائط دفاع رشدى وأصاب حالته بالتدهور، وهو ما أجبر الأطباء على نقله للعناية المركزة.

رشدي أباظة مع أمه

هل طلق بنت الأباظية لتكون سامية رفيقة النهاية؟

قبل دخول رشدى مستشفى العجوزة بأيام، وعلى مستوى الأسرة الأباظية، اتخذ رشدى قراره بتطليق نبيلة كنوع من أنواع الإحسان والمعروف عليها، فهى لم ترَ معه يوم سعادة، فقد تزوجها قبل السفر إلى لندن وتحملت معاه مشقة الرحلة المهلكة هناك، ولما شعر بأن الرحلة ستتكرر فى مستشفى العجوزة قرر تطليقها، وعندما قال لها «فكرى» قرار رشدى نكست رأسها حزينة لكنها لم تقل شيئًا، لأن بنات الأباظية يمتثلن لقرارات الرجال دون نقاش.

لكن السؤال الشائك: هل كان طلاق رشدى لنبيلة شفقة عليها فقط أم كان بداخل الرجل رغبة أخرى أو رسالة يريد إيصالها لشخص ما؟.. الحق أن فوميل لبيب سأل هذا السؤال فى الكواكب، وهذا نصه:

هل يحس رشدى بأن المرأة التى يجب أن تكون بجانبه هى سامية جمال، رفيقة ثلث العمر وصاحبة لمسات الحنان؟

جاء الجواب غامضًا كما يحكى فوميل: «أسأل رشدى عن سامية فيبدو العتاب فى عينيه لأنها لم تزره، وأسأل سامية أجدها فى ملحمة بكاء لا ينقطع، وتقول: (لا أريد أن أرى من كان عملاقًا وهو على الفراش لا حول له ولا قوة، من كان يشخط ويضحك الضحكة فتسمعها الضفة الثانية من النيل، لا أريد أن أسمع أهاته وأنينه.. لو أستطيع أن أفتديه بعمرى فإننى أذهب.. لكن ما قيمتى وأنا منزوية فى بيتى.. رشدى هو صاحب المكانة والقيمة أعطوه من عمرى.. هكذا أذهب)».

ومن الواضح أن كل محاولات الأصدقاء فى إحداث تلك الزيارة التى يحتاجها رشدى لحبيبة العمر لم تنجح، وانهارت الآمال حتى بعد طلاق نبيلة التى كان وجودها عائقًا لزيارة سامية التى كانت عزيزة النفس وترفض أن تفسر زيارتها لحبيبها القديم خطأ فى وجود زوجته الأباظية الجديدة، وهو المبرر الذى كانت تسوقه باستمرار لمن يحاول أن يلعب دور الوسيط لإقناعها بزيارة رشدى من بداية فترة مرضه بعد رجوعه من لندن، وأشهر الوسطاء كانت هند رستم ونادية لطفى المرافقة الدائمة لرشدى فى المستشفى.

سامية المرأة الوحيدة التى تمنى أن يموت بين ذراعيها

وعلى ما يبدو أن وفاة رشدى أصابت سامية بحالة قاتلة من الندم الممزوج بالحزن على حبيب العمر، وتمنت لو أنها استجابت لرغبتها ورغبته فى زيارة الوصل الأخير.. عبّر عن هذه الحالة صحفى «آخر ساعة» ثروت فهمى، الذى نشر موضوعًا بعد وفاة رشدى بعنوان «مأساة سامية جمال أكبر من الدموع»، سرد فيه ثروت ما حدث لسامية من دمار نفسى برحيل حبيبها رشدى، ونوه الصحفى فى المقدمة بأنه تردد كثيرًا فى نشر هذا الموضوع، ولو عرفت سامية به لرفضت نشره، لكنه رأى أن من واجبه أن يكشف تلك المشاعر الصادقة التى كانت تعيشها سامية فترة مرضه وتضاعفت بعد رحيله.. واعتبر أن ما شاهد عليه سامية هى قدوة ورمز للوفاء والإخلاص والحب.