السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

حوار عمره 20 عامًا

العقاد.. مخرج «عمر المختار» يتحدث عن حروبه السينمائية (1)

مصطفى العقاد
مصطفى العقاد

تصادف أن تمر أمس، 20 أغسطس، 166 سنة على ميلاد المجاهد الليبى عمر المختار. وأول الشهر الماضى، مرت الذكرى الرابعة والتسعون لميلاد مصطفى العقاد، والرابط بين الرجلين هو أن الثانى قام بتخليد ذكرى الأول، بفيلم أظهر للعالم كيف كنا، نحن العرب، نحارب دفاعًا عن أرضنا بشرف ضد غزاة مارسوا كل أنواع الخسة والبشاعة ضدنا، وكيف كنا شرفاء فى خصومتنا حتى لو كانت مع المحتل. وفى هذا الحوار، الذى جرى فى أكتوبر 2003، أى منذ أكثر من 20 سنة، تحدث العقاد عن هذا الفيلم، وعن فيلم الرسالة، وعن مجمل مشواره السينمائى، وعن مشروعات أفلامه التى تعرقلت، والتى كان من بينها فيلم عن صلاح الدين الأيوبى، وعن مشروعات أخرى، وهمية، تم استغلال اسمه فى الترويج لها، كما تحدث، أيضًا، عن الحروب السينمائية، مؤكدًا أن التسليح السينمائى هو فرصة العرب الأخيرة.

العقاد

من حلب إلى هوليوود.. من الجنون إلى العالمية

الفتى العربى فى هوليوود. كيف وصل إلى ما وصل إليه؟ وما المشكلات والصعوبات التى واجهته؟ حتى يصبح صاحب ذلك الاسم الذى يستقبله السامعون بالاحترام الشديد؟ وكيف استطاع هذا الذى يحمل اسم مصطفى أن يثبت تفوقه فى هوليوود؛ حيث يفرض اللوبى اليهودى الصهيونى هناك تفوقه وسيطرته؟ وقبل ذلك كله كيف تعلق المولود فى حلب عام ١٩٣٣ بالسينما؟ وكيف شق طريقه إلى الولايات المتحدة عام ١٩٥٤؟ 

كانت كل تلك الأسئلة عالقة فى ذهنى وأنا فى طريقى إلى مصطفى العقاد، لكننى أرجأتها حتى أسأله عن آخر مشروعاته وحول ما إذا كان هناك جديد بشأن فيلم صلاح الدين الأيوبى الذى نسمع عن إعداده منذ أكثر من عشرين عامًا.

 والدى كان قاسيًا جدًّا فى تربيتى الأخلاقية والدينية والبيئية وهو ما خلق منى رجلاً قادرًا على تحمل المسئولية

أيًّا كانت النقطة التى انطلقت منها فى حوارى مع الرجل، فقد طرحت عليه أسئلتى التى أجاب عليها بمنتهى الهدوء الممزوج بدفء الذكريات العزيزة على رجل قرر أن يكون هو، وألا يتخلى عن أصوله.

بدأ العقاد من حبه للسينما الذى أرجع الفضل فيه إلى جار لهم كان يمتلك قاعة عرض صغيرة يعرض بها أفلامًا سينمائية. وقال: لم أكن أترك هذا الرجل، وكنت أستمتع وأنا جالس إلى جواره وأتابعه وهو يقوم بقص المشاهد الممنوعة، وكيف كان يضع الفيلم فى آلة العرض، كانت هذه أكثر متعة فى حياتى وبالتدريج أصبحت مولعًا بالسينما، وكبر حلمى بأن أكون ممن يصنعون الأفلام، ولما أصبحت فى الثامنة عشرة بدأت أعلن عن حلمى فى أن أكون مخرجًا، وليس أى مخرج، بل مخرجًا فى هوليود وكانت نكتة يتداولها أهالى حلب ويضحكون عليها. ويؤكد العقاد أنه لم يكن يلوم جيرانه ولا يلومهم الآن لو اعتبروه وقتها مجنونًا، فالحلم- فى رأيه- كان فى تلك الفترة نوعًا من الجنون. ويفسر العقاد ذلك بقوله: «إلى جانب أن العمل بالسينما كان فى ذلك الوقت مرفوضًا اجتماعيًّا، فإن والدى كان رجلاً فقيرًا، آخر ما يستطيع عمله من أجلى هو أنه أدخلنى إحدى المدارس الأمريكية، لكننى لم أتنازل عن حلمى رغم سخرية الكثيرين، وبدأت أتخذ كل الخطوات التى تمكننى من تحقيقه، والتى كان من بينها أننى تقدمت بطلب إلى جامعة «يو سى إل آى»، وكانت المفاجأة حين ردت الجامعة على الطلب بالقبول!.

■ توقعت أن يقول ما اعتدنا أن نسمعه من أغلب الممثلين والممثلات، توقعت أن يقول إنه لاقى معارضة شديدة من الأسرة، وإن والده حاول أن يثنيه عن فكرته، فهل اعترض والده بعد موافقة الجامعة؟

- سألته فرد بشكل قاطع: إطلاقًا، فقد ربانى على أن أكون معتمدًا على نفسى؛ لذلك كان تعليقه هو افعل كل ما تريد، واختر حياتك بالشكل الذى يرضيك، لكن كل ما هنالك هو أننى لا أستطيع أن أقدم لك أى مساعدة مادية، وبهذا الشكل لم يكن أمامى ما أفعله غير أن أعمل لعام كامل حتى أستطيع أن أوفر قيمة تذكرة السفر، ولما تمكنت من توفيرها، أخبرت والدى بأننى قررت أن أسافر فوضع فى جيبى ٢٠٠ دولار وفى الجانب الآخر مصحفًا، وقال لى بالحرف الواحد: هذا هو كل ما يمكننى أن أعطيه لك. لكن والدى كان قد أعطانى قبل ذلك الكثير، فقد كان قاسيًا جدًّا فى تربيتى الأخلاقية والدينية والبيئية، وهو ما خلق منى رجلاً قادرًا على تحمل المسئولية، وأنا الآن عندما أتذكره أشكر الله على هذا الأب الذى جعلنى أذهب لأمريكا فقيرًا معدمًا ماليًّا، لكنه جعلنى غنيًّا دينيًّا وأخلاقيًّا وتراثيًّا، وهذا ما جعلنى أحافظ على شخصيتى بسبب هذه التربية الجادة.

■ عربى فى أمريكا، واسمك مصطفى، ألم يسبب لك ذلك مشكلات؟

- طبعًا، كانت هناك مشكلات كثيرة، لكنها لم تكن ممن يحيطون بى، بل كانت المشكلة فىّ أنا فقد ذهبت وأنا أعانى من بعض مركبات النقص التى حملتها معى من حلب، كنت أعتقد أننى أقل ممن حولى، وأنهم أفضل منى بكثير، وأنه من الصعب إن لم يكن مستحيلًا أن أكون مثلهم، لكن بمجرد جلوسى على مقاعد الدراسة ومع الاختلاط بعدة جنسيات اكتشفت أنه لا ينقصنى شىء لأننى مسلم وعربى، بل على العكس، فأنا منذ الحصة الدراسية الأولى أدركت أنه لا فرق بينى وبين أى طالب غربى آخر، وأننى أمتلك كل المقومات التى تجعلنى أتفوق عليهم، وعندما عرفت المجتمع هناك أدركت أننى أفضل منهم وقدّرت قيمة الأخلاقيات التى ربّانى عليها والدى... وبعد هذا الاكتشاف حدث انقلاب فى تفكيرى ومركبات النقص تحولت إلى ثقة، ومن هذه النقطة بدأت أدرس حضارتنا العربية لأعمق الإحساس فى داخلى بأننى الأفضل، وبأننا كنا نتسيد العالم فيما كانوا هم عبارة عن مجموعة من الهمج وأننا كنا متقدمين فى فروع العلم فيما كانوا هم يعانون الجهل والتخلف، وتلك هى الأشياء التى حلمت من وقتها بأن أقدمها على الشاشة فى أفلام سينمائية، أن أقدم الأيام التى حكمنا فيها الأندلس وعلمنا «الهمج» والجهلاء الأوروبيين وقتها الفلك والطب ووضعنا أقدامهم على سلم الحضارة.

تحدث العقاد عن العقدة التى ترافق العربى حين يذهب إلى الولايات المتحدة أو إلى الغرب عمومًا، فأرجع الخطأ إليهم أو إلى نفسه، وكنت قصدت من سؤالى أن يوضح لنا كيف كانت الطريقة التى تعامل بها المجتمع الأمريكى مع عربى مسلم يحمل اسم مصطفى، فهل تعمد أن يتخطى السؤال أم أسقطته ذاكرته وهو يتحدث عن كيفية شفائه من مركبات النقص؟ أيًّا كانت الإجابة، فإننى لم أطرح السؤال واكتفيت بأن ألفت نظره إلى صيغة السؤال، بسؤالى: وماذا عن الاسم؟ فقال: «فيما يتعلق باسمى، فلا أنكر أنه سبب لى مشكلات عديدة لدرجة جعلت الكثيرين ينصحوننى بتغييره حتى أتمكن من ممارسة عملى بسهولة، وهو ما رفضته بشكل قاطع، فأنا مقتنع تمامًا بأن تغيير الاسم الذى أعطاه لى والدى يعنى أننى تخليت عن نفسى، وعن ذلك الشخص الذى رباه أبى، ووقتها حسبتها وأدركت أن أقصى ما قد يسببه لى اسمى هو أن أبذل مزيدًا من الجهد لأجعل الطلب على يزيد، وهكذا عملت بإصرار وفرضت على الجميع فى هوليود وخارجها احترامى واحترام اسمى، وأحب أن أقول هنا إن الآخرين لن يحترموك إلا إذا احترمت أنت نفسك أولًا، وأنا عن نفسى أشمئز من بعض العرب الذين يأتون إلى أمريكا ويغيرون أسماءهم العربية ويتنكرون للغتهم العربية فقط لتسهيل أعمالهم، لكن للأسف هناك، وهذا ما أرجعه إلى عدم امتلاكهم لجذور قوية، وبسبب عدم تخلصهم من عقد النقص؛ لذلك يذوبون فى تلك العوالم ويتجاهلون كل شىء، حتى أنفسهم، إنهم باختصار ينسون أنفسهم.

■ أبقى على اسمه العربى المسلم، وفى المقابل حاول جاهدًا أن يكون متفوقًا ومتميزًا ومختلفًا، فكيف تحقق له ذلك؟

- سألته فأجاب: تسلحت كمخرج واتكأت على مقومات شخصيتى العربية والإسلامية التى منحتنى القدرة الإبداعية على محاكاة السر السحرى الآمر فى الفن السابع وفى السينما الأمريكية التى تسود وتسيطر عالميًّا، والحمد لله استطعت أن أؤكد حضورى الفنى، لا لشىء إلا لأننى تمكنت من أدواتى ومن لغتى السينمائية كفن وكصناعة تتأصل على الفكرة والموضوع الذى أستحضره وأستدعيه وأستنطقه من بيت التاريخ وذاكرته الحية، وهو ما أعتقد أنه ظهر فى فيلمى الرسالة وعمر المختار، الرسالة الذى عرفت فيه المجتمع الغربى بالدين الإسلامى الصحيح، وعمر المختار الذى يعبر بصفة خاصة وبمصداقية شديدة عن الوضع المأساوى الراهن فى فلسطين!.

■ سألته عما حققه له حضوره الفنى فى هوليوود.

- فقال: يعرفون هناك أو هم مدركون تمامًا أننى قادر على عمل أفلام تحقق إيرادات ويقبل عليها الجمهور؛ لذلك فأستوديوهاتهم مضطرة للاستعانة بى، وبهذا المنطق لجأت يونيفرسال ستوديو إلى لكى أخرج لهم هالاوين رقم ٨، وبهذا المنطق نفسه أتلقى عروضًا للعمل مع شركات الإنتاج المختلفة رغم سيطرة اليهود على ٩٠٪ من شركات التوزيع.

وبمنتهى البساطة يلخص العقاد الوضع فى هوليوود فيقول: إنها حسابات الربح والخسارة، وهنا لا بد أن أشير إلى أن هناك خطًّا أحمر وحيدًا لا يستطيع أحد أن يتخطاه وهو عدم انتقاد اليهود، ولكن فى الوقت نفسه ليس هناك إجبار على امتداحهم، وطبعًا أنا من رابع المستحيلات أن أقبل أن يوضع اسمى على فيلم أشك- مجرد شك- فى احتوائه على أى شىء يسىء لأمتى العربية.

خلال جلستنا جاء شاب يشبهه فى الثلاثينيات من عمره ألقى علينا التحية، ولما لم يدعه العقاد للجلوس كان طبيعيًّا أن أسأله عنه لكنه لم يمهلنى وقال: هذا هو مالك ابنى، هوى الإخراج منذ صغره، وتخصص فيه، وقياسًا لعمره، أعتبر أنه سبقنى وهو يشارك فى إخراج «هالاوين» بشكل مميز، ويستطيع أن يتواصل مع الشباب ويتفهمهم أكثر منى، وأنا اليوم عندما أريد أن أقدم شيئًا للشباب أستشيره وآخذ برأيه، وسيساعدنى فى إخراج فيلم «صلاح الدين»، وهو رغم نشأته فى أمريكا متمسك جدًّا بجذوره وبقوميته العربية.

ربما رأى علامات الاستغراب على وجهى فقال لا تندهش فأنت إذا دخلت بيتى هناك ستشعر تمامًا أنك تعيش فى حلب من جميع النواحى، أجواؤه، أكله، الموسيقى التى نسمعها، اللغة، والدين، لكننى فى المقابل عندما أخرج من البيت وأغلق الباب تجدنى أمريكيًّا ١٠٠٪ فى التفكير والطريقة العملية والمنطقية ونظام العمل وكل شىء.

مصطفى العقاد

هذه قصتى مع «الرسالة» و«عمر المختار»

مخرج هنا هو مخرج هناك.. لا فرق بين مخرج ومخرج، وإذا أردت أن تقارن فلا بد أن تتوافر التقنية للاثنين.. الإبداع هو الإبداع. الإبداع ليس به عالمية هو فى حد ذاته لغة عالمية، قال مصطفى العقاد إنه لم يقل هذه الكلمات على سبيل التواضع وإنما عن قناعة أكيدة بأن السينما العالمية والغربية لا تتفوق على العربية فى الطاقات والإمكانيات الإبداعية الفردية، بل من جانبها التقنى والاقتصادى والآليات التى تحكم العمل وإنتاج الأعمال السينمائية، وضرب مثالًا على ذلك بأداء عبدالله غيث فى النسخة العربية من فيلم الرسالة، والذى تفوق فيه فى كثير من الأحيان على أداء النجم الكبير أنتونى كوين الذى أدى الدور نفسه فى النسخة الإنجليزية للفيلم.

كان مهمًا ونحن نتكلم عن فيلم الرسالة أن أطلب من العقاد تفسيرًا لمنعه فى سوريا ومصر رغم السماح بعرضه فى كل دول العالم، وكان قد أتيحت لى فرصة الاطلاع على ملف الرسالة فى الرقابة فكان غريبًا ألا أجد ورقة واحدة تشير من قريب أو بعيد إلى وجود اعتراض رقابى، لا من الأزهر، ولا من أى جهة أخرى، بل كان فى الملف ما يشير إلى أن السيناريو حاصل على موافقات عدة من شيوخ الأزهر.

لا أوسكارات ولا جوائز مهرجان «كان» ولا إشادات النقاد ولا أى أوسمة تساوى أى فيلم ناجح جماهيريًا

العقاد أكد أن الأزهر وافق على سيناريو الفيلم، وقال: إضافة إلى موافقة الأزهر فإننى كنت أجلس إلى جوار الشيخ محمد متولى الشعراوى وفور مشاهدته الفيلم قال لى نريد منك المزيد، كما أننى وقت كتابة سيناريو الفيلم أحضرت هارى كيجاف من هوليود وجعلته يمضى سنة كاملة فى النيل هيلتون وكتب السيناريو بمشاركة عبدالحميد جودة السحار وتوفيق الحكيم وأحمد شلبى، ومن الأزهر كان الدكتور عبدالمنعم النمر والدكتور البيصار؛ لذلك فما زال منع الفيلم يمثل لغزًا بالنسبة لى، لكننى لم أجد أمامى ما أفعله غير إقامة دعوى قضائية منذ ٢٨ عامًا وما زالت المحاكم تنظرها!

مما يزيد اللغز تعقيدًا- يضيف العقاد- هو أن أكثر من قناة عربية عرضت الفيلم دون استئذانى ودون الحصول على موافقة منى، ودون أن يقول لى أحد هل حدث جديد بشأن قرار المنع أم لا. وهكذا لم أجد ما أقوله غير أن أترك لغز الرسالة وأسأل العقاد عن طبيعة الأفلام التى يقدمها فى هوليود، والتى لا تخرج عن إطار الأكشن والإثارة والرعب التى لا يحمل معظمها اسمه كمخرج، مثل سلسلة أفلام هالاوين التى وصلت إلى الرقم ٩، فكان رد العقاد أن هذه الأفلام يقبل عليها ٨٠٪ من الأمريكيين، مشيرا إلى أنه فى هوليود قبل إنتاج أى فيلم لا بد من أن يجيب عن سؤالين مهمين هما: من هو جمهورك، وماذا تريد أن تقول؟ مؤكدا أن النجاح على هذين السؤالين. وأضاف: «إن السينما أداة تسلية بالدرجة الأولى، لكن لا بد للمخرج الجيد أن يتسلل من هذه التسلية والتشويق إلى الأفكار التى يريد أن يطرحها، وهنا يكمن الذكاء الفنى للمؤلف والسينارست، والأساس هو أن يكون هناك اتصال مع الجمهور، وأن يحقق الفيلم أرباحًا، حتى يستطيع المنتج أن ينفذ الفيلم الذى يليه، ولكن للأسف يرى البعض أن النجاح وتحقيق الأرباح تهمة ونوع من العار». وضرب العقاد مثالًا بفيلم «اللمبى»، مؤكدا أنه فيلم ناجح بكل المقاييس وبشهادة مئات الآلاف الذين خرجوا من بيوتهم ودفعوا ثمن تذكرة السينما ليشاهدوه. وقال: إن نجاح الفيلم السينمائى وانتشاره مرتبط بهذا الجمهور وبالأرباح التى يحققها، وهذا الأمر لا يعنى الإسفاف، لكن علينا النزول أولًا إلى الجمهور أيًا كان مستواه ثم أحاول أن أرفعه بطريقة غير مباشرة وليس بالغموض أو التعالى عليه والحذلقة فى اللغة السينمائية.

لا أوسكارات ولا جوائز مهرجان «كان» ولا إشادات النقاد ولا أى أوسمة تساوى أى فيلم ناجح جماهيريًا، وإذا استطعت أن تصنع فيلمًا جيدًا جدًا يصل إلى حد أنه تحفة فنية ولم يصل للجمهور فهو فيلم فاشل جدًا.. ونحن كسينمائيين نعتبر أنفسنا همزة الوصل بين الفكرة والفن وبين الجمهور، ونجاحنا فى أن نجعله يتفاعل مع الفيلم، يبكى، ويضحك، ويتألم، ويتحمس. كما أن وسائل التسلية البيتية أثرت سلبًا على السينما والمسرح؛ ففى المنزل توجد شاشة كبيرة تجلس أمامها وتدخن وتأكل وتشرب وبهذا الشكل فإن رواد السينما الآن فى أمريكا وباقى دول العالم من الشباب الذين يمثلون ٨٠٪ ممن يدفعون ثمن تذاكر السينما؛ ولهذا فرضت موضوعات الشباب نفسها سينمائيا؛ الجنس، والخوف، والحب.

يعود العقاد ليتحدث عن أفلام الرعب والأكشن، التى يقدمها، فيشير إلى أنه يؤمن تمامًا بما قاله معمر القذافى: «فى الحاجة تكمن الحرية»، مؤكدا أنه لو كان محتاجًا فقد حريته ولا بد من أن يقدم تنازلات ليعيش هو وأسرته، ومن هنا يؤكد العقاد أن تلك الأفلام جعلته حرًا، ويستطيع أن يقول لا، هذا يعجبنى وهذا لا يعجبنى، وغير مضطر لصنع أفلام يقدم فيها أى تنازل سياسى أو أخلاقى. ويضيف العقاد: هذه الأفلام أيضًا جعلتنى لا أقدم إلا أفلامًا ترضينى وتخدم القضية؛ فالحمد لله لست محتاجًا؛ لأننى لو احتجت- كما قلت- فسأتنازل عن قناعتى، وأقدم أى عمل لأعيش منه أنا وأولادى، وما يزعجنى أحيانًا، أننى حين أطلب تمويلًا، يتهيأ للبعض أننى أشحذ، أو عندما أجرى أى مقابلة يعتقدون أن الهدف منها الحصول على تمويل، يجب أن يعى العرب أن الإعلام يخدم أكثر من الأسلحة.

هكذا، يؤكد العقاد أنه مقتنع تمامًا بما يقدمه ما دام لا يقدم تنازلات، ولا يبقى هنا غير أن نتحدث عن فيلم أسد الصحراء أو عمر المختار، والذى قال العقاد إن قيامه بإخراج هذا الفيلم جعله يكتشف مدى فظاعة جرائم الفاشيست الإيطاليين فى ليبيا؛ حيث قام الجنرال رودلفو جراتسيانى أثناء محاولاته اليائسة لتنفيذ خطته فى ترسيخ الاستيطان الاستعمارى فى ليبيا بقتل ٢٠٠.٠٠٠ ألف من المواطنين الأبرياء طوال ثلاث سنوات فقط، قبل أن يتمكن من إلقاء القبض على الثائر عمر المختار وإعدامه.

■ وأسأل العقاد عن خطأ ظهر فى الفيلم حين استخدم نوعًا من السيارات الحربية أثناء محاصرة عمر المختار لاعتقاله لم تكن القوات الإيطالية فى إفريقيا قد استخدمتها فى ذلك الوقت!

- فيقول إنه استعان بخبراء فى ذلك، وإنهم قطعًا لم يكن يستطيعون توفير العربات التى استخدمها الإيطاليون بالفعل، وإن الضرورة اقتضت ذلك، وهذا لا يعد خطأ وإنما أمر فرضته الضرورة.

وأعود لأذكر له نقطة ضعف علّق عليها نقاد غربيون، وهى أن الذى وضع حبل المشنقة فى رقبة عمر المختار لم يكن من بين الفاشيست الإيطاليين كما ظهر بالفيلم، بل كان زنجيًا سودانيًا من أهالى البلاد يدعى محمود كان يعرف بلقب اللونقو «الطويل»، وهو زنجى سكير مات أخيرًا بضاحية البركة فى مدينة بنغازى، كما يروى أحد شهود العيان الذين عاصروه وعرفوه. وذلك وفقًا لما ذكره سجان الشهيد فى اعترافاته.

وعن هذه النقطة قال العقاد: لا يعنينى من وضع حبل المشنقة حول رقبة الشهيد، فهو واحد؛ فسواء كان الجلاد الحقير هو محمود السودانى السكير أو غيره من المتعاونين مع الفاشيست الإيطاليين، فالتاريخ لن يرحم أولئك الذين كانوا يتقربون من رودلفو جراتسيانى سفاح ليبيا؛ فالذى يهمنا هنا أنه ساعد على توضيح بعض الجوانب الخفية فى تاريخ بلادنا. وأظهر للعالم كيف أننا كنا نحارب دفاعًا عن أرضنا بشرف ضد غزاة مارسوا كل أنواع الخسة والبشاعة ضدنا، وكيف كنا شرفاء فى خصومتنا حتى لو كانت مع المحتل.

أما جلاد عمر المختار أو شانقه فالأمر واحد فى الحالتين، سواء كان إيطاليًا أو حتى من أى جنسية أخرى؛ فالمهم أنه كان اليد التى نفذ بها الإيطاليون ما يريدونه. ويقف العقاد عند من استوقفتهم تلك النقطة ليؤكد أنه فى منتهى السعادة وهو يرى من يتربصون بفيلمه لا يجدون غير تلك التفصيلات ليعلقوا عليها، موضحًا أن أحدًا لم يكن ليرحمه لو كان بالفيلم أى أخطاء تاريخية حقيقية أو سقطة فنية واحدة.

.. وينهى مصطفى العقاد كلامه عن عمر المختار بقوله: يكفينى أن اسمى ارتبط بهذا المناضل الثائر، وأصبحت الآن حين تذكر اسمه يتبادر إلى الذهن على الفور فيلم أسد الصحراء، الذى جعل العالم كله يشاهد هذا الشهيد روحًا ودمًا. ولا ينسى العقاد فى النهاية أن يشيد بأداء أنتونى كوين الذى كان مقنعًا لدرجة تفوق الوصف وجعلت صورته فى الفيلم هى الصورة المعتمدة لعمر المختار، سواء فى أذهان الناس أو فى الصحف التى تنشر شيئًا عن المختار، وتنشر صورة أنتونى كوين على أنه هو الشخصية الواقعية.