السبت 05 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مفيد فوزى يفتح خزانة أسراره: نجيب محفوظ لم يكن زوجًا سعيدًا فى بيته

مفيد فوزى
مفيد فوزى

- أجرى مفيد فوزى حوارات صحفية وتليفزيونية عديدة مع نجيب محفوظ كلها نُشرت وأُذيعت لكن على هوامش هذه الحوارات أفضى نجيب بأسراره وآلامه وهمومه كان يطلب منه ألا ينشرها

- كان لدى نجيب محفوظ ألم داخلى كون ابنتيه ليست لهما علاقه بأدبه ولا تقرآن ما يكتبه من أعمال ولم تعجبا بأفلامه وكانتا تصفان الروايات بأنها أفضل مما يقدم فى أفلام السينما

- كان يحب صوت عدوية لأنه موجود فى الحارة المصرية

- كان نجيب سعيدًا طالما يكتب.. وأعتقد أن أخطر لحظة فى حياته عندما سلم عليه شخص وطعنه فى رقبته

لا يمتلك مفيد فوزى فى أرشيف صوره الخاصة صورة تجمعه والراحل العظيم نجيب محفوظ، عندما استمعت هذه العبارة تعجبت. 

قرأ الكاتب الكبير ملامحى التى علتها الدهشة، وقبل أن أضع خلف العبارة علامة استفهام ضخمة قال لى: وليس عندى كذلك صورة خاصة تجمعنى وصديق عمرى عبدالحليم حافظ. 

حدث هذا رغم أن حياة مفيد فوزى منذ أن أصبح محاورًا فى الثمانينيات تحولت إلى صورة كبيرة، الصورة التى تسجل وتثبت لحظة بعينها، قد تكون اللحظة مهمة أو تكون عابرة، لكن الصورة تسجل وتترك الحكم للآخرين.

هنا يتحدث مفيد فوزى.. لكن لماذا هو بالذات الذى يتحدث عن نجيب محفوظ؟ 

إن العلاقة التى ربطت بينهما فى النهاية لم تكن سوى علاقة صحفية، كاتب بأديب، ومحاور بروائى، لم يكن حريصًا على أن يخص نفسه بجلسة من الجلسات المحفوظية التى كانت تمتد طوال الأسبوع، وفى النهاية لم يكن مفيد درويشًا من دراويش نجيب الذين كانوا يتبعونه على طريقة شيوخ الصوفية الكبار الذين يسير خلفهم مريدوهم بالخطوة. 

هناك سبب- أعتقد أنه مهم- جعلنى أنصت لمفيد فوزى ولا أقاطعه إلا قليلًا على امتداد أكثر من ساعة ونصف الساعة، تحدث خلالها عن نجيب حديث المحب المدرك لأهمية رجل يرى أنه مات قبل الأوان، تحديدًا عندما فقد القدرة على السمع، وانقطعت علاقته بالقراءة، وتعسرت قدرته على الكتابة، وفى الأخيرة تحديدًا كان الإعلان الرسمى لوفاته. 

أجرى مفيد فوزى حوارات صحفية وتليفزيونية عديدة مع نجيب محفوظ، كلها نُشرت وأُذيعت، لكن على هوامش هذه الحوارات أفضى نجيب بأسراره وآلامه وهمومه، كان يطلب منه ألا ينشرها. 

الآن أصبح نجيب فى ذمة الله، وأصبحت أسراره ملكًا لنا قبل أن تكون ملكًا لأهله وأصدقائه، ومن بعدهم التاريخ الذى يسجل كل شىء، حتى لو كان مؤلمًا وموجعًا. 

طوال الوقت لم يدع مفيد فوزى أنه عالم ببواطن أمور نجيب محفوظ، كان يتحدث معى عن مواقف كان هو طرفًا فيها أو شاهدًا عليها، لم يتحدث بلسان محفوظ.. لم يسند له كلمات على أنه قالها أو مواقف أخذها، وكنت طوال الوقت أطلب معلومات وليس تحليلًا أو تخمينًا أو توقعًا، وكانت ذاكرته كريمة لم تخذله ولم تخذلنى.

ما قاله مفيد فوزى يدخل فى باب الأسرار التى لم تُنشر من قبل، فهذه هى أول مرة تحتضن السطور مثل هذه الكلمات والمواقف والاعترافات، فرغم أن مئات، وليس عشرات الكتب، صدرت عن نجيب محفوظ، فإن حياته الخاصة والشخصية التى كانت تدور بين جدران بيته الأربعة لم يتعرض لها أحد، لأن محفوظ وأهل بيته كانوا يتحفظون كثيرًا ولا يتطرقون إلى مثل هذه الأحاديث. 

كلام مفيد فوزى صادق- هكذا شعرت من نبرات صوته- ولذلك فإنه سيكون صادمًا، ربما يجد فيه البعض شيئًا من القسوة، وربما يهمس آخرون فى آذاننا بأن الوقت ليس مناسبًا لنشر مثل هذا الكلام فالرجل دماؤه لم تجف فى قبره، لكن ماذا نفعل- مفيد وأنا- ونحن نحمل على أكتافنا مهنة لا ترحم تقودنا رغمًا عنا إلى مواطن المعلومات وتدعونا إلى كشفها وإزاحة الستار عنها. 

وكلام مفيد رغم ثقتى الشديدة فيه إلا أن هذا لا يعنى أنه كلام نهائى، فقد تقذفنا الأيام القادمة بكلام آخر، أما هذا الكلام فاعتبروه شهادة يدلى بها صاحبها للتاريخ، وهو فى النهاية يأتينا من كاتب شجاع يعرف جيدًا مسئولية ما يقوله ويقدر جيدًا كيف يتحملها. 

الآن يجب أن نبدأ. 

غيرة يوسف إدريس من نجيب محفوظ 

اختار مفيد فوزى لرواية قصته مع نجيب محفوظ نقطة أعتقد أنها لا تزال ساخنة، أقصد علاقته والكاتب الكبير يوسف إدريس.

يقول مفيد: كانت هناك شبه غيرة من يوسف إدريس تجاه نجيب محفوظ، وكان هناك شعور دائم لدى يوسف إدريس بأن محفوظ يحظى باحترام النقاد والمفكرين أكثر منه، وكان لدى يوسف شعور مرير بأنه لا ينال رضا ومباركة توفيق الحكيم بنفس القدر الذى يحظى به محفوظ، وبالفعل فإن توفيق الحكيم باعتباره أبًا لهؤلاء الأدباء كان يفضل نجيب محفوظ أدبًا وفكرًا وفلسفة. 

بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل عام ١٩٨٨ ذهب مفيد إلى إدريس ليجرى معه حوارًا مطولًا عن هذا الحدث المهم لينشره فى مجلة «صباح الخير» التى كان يرأس تحريرها وقتها.

فى هذا الحوار قال يوسف: إنه كان الأحق بنيل هذه الجائزة.

وبعد أن انصرف مفيد وبدأ فى تفريغ حواره اتصل به يوسف إدريس وقال له: أين ستنشر هذا الحوار؟! 

فقال له مفيد: فى مجلة «صباح الخير». 

فطلب منه يوسف أن يقرأ له الجزء الخاص بنجيب محفوظ.. فقرأه له. 

يقول مفيد: كانت تجربتى مع يوسف أنه أحيانًا يتراجع فى بعض ما يقوله فى حواراته الصحفية، وكان الفرق بينه وبين نجيب محفوظ أن محفوظ عندما تسأله سؤالًا يشرد منك لثوانٍ معدودة كى يفكر فيما سيقوله ويبدأ رده بكلمة «فى الواقع» دائمًا، وهذه الكلمة تعطى له فى لغة الحوار البداية الصحيحة التى يريد أن يبدأ بها، وكان نجيب إذا أراد أن يهرب من الإجابة يضحك وتجلجل ضحكته، بما يعنى أنه لا يريد أن يضيف شيئًا. 

قرأ مفيد ما قاله يوسف عن محفوظ.

فقال له يوسف: عاوز أحذف ٣ كلمات من الحوار. 

سأله مفيد: ما هى؟ 

فقال يوسف: أنا قلت «إننى أحق من نجيب بجائزة نوبل ولا شك»، احذف كلمة «ولا شك» هذه. 

أما الثانية فقد قال فى وسط كلامه: «إن ما جرى لنجيب محفوظ فى نوبل هو عمل سياسى بحت»، فأراد حذف كلمة «سياسى بحت» وطلب أن يتم استبدالها بكلمة «أدبى»، أى أن ما حدث لنجيب فى نوبل هو عمل أدبى بحت. 

والكلمة الثالثة كانت أنه قال إنه «صاحب مدرسة فى القصة والرواية»، فطلب حذف كلمة «مدرسة» واستبدالها بكلمة «أسلوب»، أى أن يوسف إدريس صاحب أسلوب خاص فى القصة والرواية. 

يقول مفيد: أراد يوسف إدريس أن يتراجع ولكن بتواضع، وعن نفسى فقد انتهزت فيما يقال فى الحوارات الصحفية أنك تذهب لرجل فى لحظة يجلس فيها على كرة من النار، وقد ذهبت إلى يوسف إدريس بعد الإعلان عن الجائزة مباشرة، كان اللقاء فى نفس الليلة، وقد أخذت الحديث ونشرته فى «صباح الخير»، وكان لكلام يوسف دوى هائل لدرجة أن إبراهيم سعدة أخذ الحديث الذى نُشر فى المجلة يوم الثلاثاء ونشره فى جريدة «أخبار اليوم» التى تصدر يوم السبت، وقلب النشر فى «أخبار اليوم» الدنيا. 

اتصل يوسف بمفيد وقال له: إننا لم نتفق على النشر فى «أخبار اليوم».

فقال له مفيد: إن هذا قرار إبراهيم سعدة، رئيس تحرير «أخبار اليوم»، الذى رأى فى هذا الحديث مادة صحفية خطيرة فنشرها.

بعد نشر الحوار الساخن فى «أخبار اليوم» اتصل وليد أبوظهر، رئيس تحرير مجلة «الوطن العربى» بمفيد فوزى وقال له: أستاذ مفيد نريد أن ننشر تعليق الأستاذ نجيب محفوظ على كلام يوسف إدريس. 

فذهب مفيد إلى نجيب وسأله عن وجهة نظره فيما قاله إدريس.

فقال محفوظ: يوسف إدريس زى ابنى وأنا أريد أن أقول إنه من حق أى إنسان أن يتصور نفسه أنه الأفضل والأحسن، ولكن أنا لم أسافر هنا أو هناك، ولم أمنح نفسى هذه الجائزة، وأنا عرفت أن إدريس قال فى بعض جلساته إنه تلقى من السويد تأكيدات من بعض الشخصيات التى تسيطر على نوبل أنه مرشح بقوة لنيل هذه الجائزة وأنه تكتم على ذلك الأمر، ولكنك تعلم أن الأمر يتم من خلال مناقشات وإدراج الأسماء يتم ترشيحها، وهنا شخصيات عديدة يتم ترشيحها، وعلى سبيل المثال لماذا لم يغضب الطيب صالح أو حنا مينا بسبب حصولى على هذه الجائزة؟ 

عندما قال نجيب هذا الكلام لمفيد ذكّره بكلمة قالها مفيد قبل ذلك، وهى أن مثلث الرواية العربية هو نجيب محفوظ والطيب صالح وحنا مينا.

ويقول مفيد: إن مينا بالرغم من أيديولوجيته ككاتب اشتراكى، لكنه استطاع أن يذيب الاشتراكية فى أدبه ولم يعد لها طعم المنشورات، وهنا تحديدًا انتصر الأدب لديه على الأيديولوجية.

نعود بالكلام إلى نجيب محفوظ الذى يقول لمفيد: الطيب صالح رجل متواضع وفنان متواضع، فلماذا يفعل يوسف إدريس بالتحديد ذلك؟ إن حب يوسف الشديد للحياة جعله يريد أن يأخذ الجائزة التى نالها زميل له، وعلى كل شىء فأنا أود أن أكون متسامحًا مع كل ما قاله يوسف إدريس وسأقول له عبارة أخيرة: أتصور أنه فى السنين القادمة قد يحصل إدريس على جائزة نوبل فى القصة القصيرة. 

هموم عائلية فى منزل محفوظ 

أول مرة ظهر فيها مفيد فوزى كمحاور تليفزيونى كان ضيفه هو نجيب محفوظ.

هذه مجرد معلومة. 

يقول مفيد: كُلفت من التليفزيون المصرى لأول مرة فى حياتى للخروج من دائرة الإعداد لدائرة التقديم، فلم يكلفنى أحد من التليفزيون لكى أقدم، كان معى الورق، وأستعد لبرنامج «أم كلثوم عصر من الفن»، وأنا لست عاشقًا لأم كلثوم، ولو كان البرنامج عن فيروز كنت قمت به فى نصف ساعة، أذهب إلى بيروت وأجمع مصادرى ومعى كاميرا وصورت. 

ذهب مفيد فوزى إلى «الأهرام» وكان معه المخرج جميل المغازى وجاءت عربة التليفزيون احترامًا وتقديرًا لـ«الأهرام» وكانت رئيسته وقتها السيدة سامية صادق.

انتظر مفيد المذيعة فلم تأت، وانتظر المذيع فلم يأت، فاتصلت به سامية صادق وكان يجلس فى مكتب صلاح طاهر وقالت له: أنت تقول إن أفضل من يقدم مادة هو من يعدها.

تعجب مفيد فوزى، فسامية صادق تطلب منه بذلك أن يقدم هو برنامج أم كلثوم.

قال فى نفسه: إن لديه مجموعة من القراء ولو أصبح مذيعًا فقد لا يعجبهم شكله فينفضون من حوله.

على الفور دخلت ٣ كاميرات إلى مكتب نجيب محفوظ.

كان مفيد يرتدى «بروفال» أحمر وقميصًا أسود وبنطلونًا أسود، وقبل أن يبدأ الحوار بينهما كانت الكهرباء تحتاج إلى ضبط وقال فريق التصوير: نحن نحتاج إلى ١٠ دقائق يا أستاذ مفيد. 

هنا أترك مفيد يروى ما حدث بالتفصيل. 

يقول: سألت نجيب محفوظ.. هل جئت إليك فى وقت غير مناسب؟

فقال لى: أنا عندى ألم داخلى وهو أن ابنتى ليست لهما علاقة بأدبى فلا تقرآن لى.

وسألنى: هل ابنتك تقرأ لك؟

فقلت: نعم.. وكذلك آمال العمدة زوجتى. 

فرد قائلًا: لا أتحدث عن الزوجة.. أنا أتحدث عن البنات ماذا أفعل معهما؟ 

فسألته: أين تدرسان؟

فقال: فى الجامعة الأمريكية. 

فسألته: وما علاقتهما بك؟ 

فقال: هما تشاهدان الأفلام المأخوذة عن رواياتى، لكن حتى هذه لا تكملانها وتقولان لى على سبيل المجاملة: أكيد الرواية أحسن من الفيلم يا بابا، وقالت لى إحداهما مرة إن فيه واحد بيقول إن نجيب محفوظ بيعطى اسمه ولا يعنيه شكل السيناريو أو الحوار.

وأضاف محفوظ: إن من يقدم فيلمًا عن إحدى رواياتى يكتب فقط عن رواية كذا لنجيب محفوظ ولا يكتب أنها قصة نجيب محفوظ، البنات يا أستاذ مفيد بيقولوا لى: يعنى يا بابا أنت بتعطى اسمك وبعدين يعملوا فيك اللى بيعملوه.

يضيف مفيد: قررت ألا أنشر هذا الكلام، حيث إنه يمثل معاناة شديدة لنجيب محفوظ وهذا أمر ليس سهلًا، وبدأت أتكلم معه عن أم كلثوم فانبسطت أساريره حتى جئت للصوت الذى يحبه فقال لى: أنا أحب صوت أحمد عدوية. 

فتعجبت من هذا الكلام فقال لى: إن هذا الصوت موجود فى الحارة المصرية.

سألته: هل يمكن أن أذيع كلامك هذا عن أحمد عدوية؟ 

فقال لى: لازم تذيعه.. فهذا الصوت بكل ما فيه من حشرجة وعدم صنفرة يوجد بيننا، وعندما تذهب إلى القرية تسمع المؤذن وصوته ليس جميلًا لكنه صوت محبب، لأنه يشبه أصوات الناس فى القرية، وعلى ذلك فصوت عدوية مناسب مع البيئة التى نعيش فيها، وعدوية هذا لم يتعلم لكن الله وهبه صوتًا يخرج من قلبه، وهذا أفضل من الأصوات المعوجة.. ثم أطلق نجيب ضحكته المجلجلة بما يعنى أنه ينهى بهذا الكلام.

جلسة صلح فى مكتب ثروت أباظة 

عرف يوسف إدريس ما حدث، قرأ ما قاله محفوظ فامتنع عن الذهاب إلى مكتبه فى الدور السادس بـ«الأهرام»، وهو نفس الدور الذى يوجد فيه مكتب نجيب محفوظ، وامتنع نجيب كذلك عن الذهاب إلى مكتبه ربما لئلا تلتقى الوجوه فيحدث نوع من الحرج، لكن ثروت أباظة الذى كان أحد كتّاب الدور السادس هو الآخر أراد أن يعمل صلحًا أو توفيقًا بين الطرفين. 

جاء نجيب محفوظ ويوسف إدريس إلى مكتب أباظة فى عزومة صغيرة على فنجان شاى. 

يقول مفيد: أشار ثروت أباظة إلىّ وقال: «كله من هذا المحاور»، كان يمكن أن يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل ويسكت، وكان يمكن أن يأتى يوسف إدريس ويسلم وينتهى الأمر، لكن ما حدث كان السبب فيه هذا المحاور الذى اختار لحظة نفسية وذهب إلى إدريس فقال ما قال. 

يضيف مفيد: انتهى الأمر عند ذلك، لكن ظلت فى علاقة إدريس ومحفوظ برودة واضحة، لأن هناك بالفعل بعض الأشخاص كلموا يوسف إدريس من السويد وقالوا له: إنه مرشح لجائزة نوبل.. لكن مَن هم هؤلاء الأشخاص؟.. ولماذا قال يوسف إدريس إن جائزة نجيب محفوظ ليست إلا جائزة سياسية؟ فلا أدرى سببًا لذلك حتى الآن، لكن ما خرجت به من هذه القصة أن نجيب كان يحمل داخله روحًَا متسامحة للغاية. 

أب لا يتدخل فى حياة ابنتيه

الكلام لا يزال معقودًا بلسان مفيد فوزى.

يقول: عندما علمت أن هناك شخصًا قادمًا لخطبة ابنته الكبرى أم كلثوم، دخلت عليه من مدخلى الطبيعى وقلت له: أم كلثوم بالنسبة لك شىء عظيم.. وأم كلثوم بنتك شىء مختلف، وأظن أننا سنبارك لك قريبًا. 

فقال: لا.. أسكت ليس لى فى هذا الأمر شىء، ولن أتدخل مطلقًا مرة أخرى فى حياتها.

ووجدته يسألنى: أنت هاتنشر هذا الكلام؟ 

فقلت له: نعم.

فقال: لا.. بلاش، لقد وجدت شخصًا مناسبًا ليكون زوج ابنتى، لكن هما وأمهما فى عالم آخر. 

فقلت له: كيف؟ 

فرد قائلًا: أم كلثوم تغنى فى غرفتى، لكن فى غرفتهما أسماء أخرى لا أعرفها، تسمعان لمغنين عالميين، تسمعان لحاجات ليس لى فيها شىء، فعندهما طول الوقت ضجة ليست معقولة. 

سأله مفيد: وهل هناك اختلاف بين أم كلثوم وأختها الصغرى فاطمة؟

فقال: لا.. الاثنتان واحد مثلما شاهدتهما فى حفل تسليم جائزة نوبل. 

مفيد كان حاضرًا وقريبًا من مراسم الاحتفال وتسليم الجائزة.

لقد وقفت كل منهما فى الحفلة وملك السويد يستعد لتقديم الجائزة، فمد يده فوجد الاثنتين تمدان أيديهما فى نفس الوقت، فضحك الملك وضحك كل من فى الصالة، فرجع الملك بالجائزة وسأل عن الأكبر فى السن بينهما قالت أم كلثوم: أنا، فأخذت الجائزة.

يقول نجيب: إن كلتا البنتين طبعة واحدة، فلا واحدة منهما تقرأ أدبه ولا تسمع أم كلثوم، فقط تسمعان الأغانى الأجنبية بغزارة، ثم إن طريقة تثقيفهما بعيدة كل البعد عن اللغة العربية. 

زوجة صامتة بعيدة عن زوجها 

تلقى مفيد فوزى دعوة لحضور أحد الاستقبالات التى كانت السيدة عطية الله زوجة نجيب محفوظ موجودة بها.

يقول مفيد: قدمتنى لها الفنانة ليلى طاهر، وأنا بطبيعتى لا أمتلك موهبة المرافقة الشديدة مثل محمد سلماوى أو نجيب الغيطانى أو يوسف القعيد، ولم أكن من الحرافيش ولكنى عشت فى زمن الحرافيش مع أحمد مظهر، كل هؤلاء كان اقترابهم من نجيب محفوظ كبيرًا، لكن علاقتى به ظلت صحفية. 

وقد قالى لى بعد أحد الحوارات التى أجريتها معه: الناس مبسوطة منك أكثر منى. 

فقلت له: إزاى؟ 

فرد: لأنك لا تتركنى لحظة واحدة «أون».. ثم أطلق ضحكته المجلجلة، ونجيب كانت له ألفاظ شعبية بحتة مثل «أون، وفرقلة». 

وقد سألته ذات مرة: هل أنت مع تكنولوجيا العصر أم لا؟ 

فقال: أنا سأمضى من هذه الحياة بدون موبايل، فأنا أمشى ولا أريد من أحد أن يركز على، أنا دائم التنقل وأنت تعرفنى فقد تنقلت بين عدة أماكن، وعندما وصلت إلى كازينو قصر النيل جاءت مجموعة من السيدات رأيت أنهن مثل بطلات زقاق المدق فغيرت هذا الكلام فورًا، ثم إن الناس اللى معايا عندهم موبايل، لكننى لا أريد أن أستخدمه، ليس معاداة للتكنولوجيا ولكننى أريد حريتى. 

بدأنا بعطية الله الزوجة فإذا بنا ننجرف إلى نجيب نفسه، لكن ها هو خيط الحديث يعود بنا مرة ثانية إليها. 

يقول مفيد: حاولت أن أستفسر من عطية الله عن نجيب محفوظ، لكن شخصيتها جعلتنى ألتزم الأدب، بمعنى أنها تختلف عن لولا إحسان عبدالقدوس واسمها الحقيقى «لواحظ» بالمناسبة، فعندما كنت أذهب إلى بيت إحسان عبدالقدوس، وذلك بعد أن أصبح لى اسم ومكانة بالطبع، كنت أقول لها: أموت وأعرف حضرتك بتغيرى على الأستاذ إحسان؟ 

فتقول: لا أغير عليه أبدًا، أنت عارف إن أنا بحبه قوى، ولكنى لا أغير عليه حتى لا يطفش منى. 

فأقول لها: لكن الغيرة ترمومتر حلو عند الرجل. 

فتقول: الغيرة عندى جزء أو حتة صغيرة.

وكنت أتكلم أكثر مع رجاء يوسف إدريس.

عندما أجريت مع يوسف حوارًا تليفزيونيًا مطولًا جلست معها، وقلت لها: إن ليوسف إدريس تعبيرًا غريبًا وهو يا من تتزوجين صحفيًا أو كاتبًا فإن نصف حياتك سعادة والباقى تعاسة. 

فسألتنى: لماذا تقول لى هذا الكلام؟

فقلت لها: لأننى سأتوجه للحديث معك بعد الحديث مع يوسف إدريس وسأبدأ بهذا السؤال. 

تحدثت كذلك مع زوجة ثروت أباظة وإسماعيل ابن توفيق الحكيم الذى لم يكن يتكلم كثيرًا، فهو عازف جيتار وعاشق مهزوم، وكان إسماعيل يمثل معاناة عمر الحكيم. 

يضيف مفيد: لم أستطع الحديث مع عطية الله عن زوجها نجيب محفوظ، كان الكلام مقتصرًا على إعداد الحفلات لمساعدة الناس وكانت فخورة بما يقوم به عبدالوهاب مطاوع، وأغلب الظن أنها كانت وراء فكرة أن يخصص نجيب محفوظ جزءًا من مبلغ جائزته لصالح بريد الأهرام والحالات التى تصله. 

وقد سألت ليلى طاهر: كيف تأتى سيرة نجيب محفوظ فى المجالس النسائية التى تحضرها زوجته؟ 

فقالت: أبدًا لا تأتى سيرته.. ولا حتى على سبيل النكتة.

فقلت لها: لن أنشر ولكن أريد فقط أن أعرف، فمثلًا لولا زوجة إحسان تتكلم، ورجاء تشتكى وزوجة صلاح جاهين أفرغت كل ما لديها، لكن زوجة محفوظ لا تتكلم أبدًا، وأنا واثق أن الحوار الذى دار لمدة ساعة بين سوزان مبارك والبنتين وزوجته أثناء تقديم واجب العزاء دار بالإنجليزية، وتقديرى أن الكلام بين زوجة محفوظ وزوجة الرئيس اقتصر فقط على البقاء لله، وربنا يلهمك الصبر، ولا بد أن عطية الله قالت لها شكرًا.. وصمتت، فهى شخصية كثيرة الصمت، وأعتقد أنها كانت الأقرب للبنات من أبيهما.

استوقفت مفيد فوزى. 

قلت له: سأسألك سؤالًا مباشرًا، ولا بد أن تجيب علىّ بالمعلومات، لا أريد تحليلًا أو توقعًا: هل كان نجيب محفوظ زوجًا سعيدًا فى بيته؟ 

قال: لا... كان نجيب محفوظ سعيدًا طالما يكتب، ولكن دون ذلك كان منطويًا، وأعتقد أن أخطر لحظة فى حياته عندما سلم عليه شخص وطعنه فى رقبته، وقد ذهبت إليه وأجريت معه حوارًا بعد أربعة أيام، وقد جاء معى محمد سلماوى وسجلنا لدرجة أننى طلبت منه أن يظهر للناس أنه لا تزال لديه الرغبة فى الكتابة، فى هذه اللحظة أصر سلماوى أن يمسك محفوظ قلمًا لكى يظهر أنه لا يزال قادرًا على الكتابة، كانت تعاسة الدنيا كلها عندما كان يجلس فى المنزل لساعات طويلة من غير سلماوى، والزوجة تتركه فى حاله تؤدى بعض الطلبات له والبنتان لا تفعلان له شيئًا مجرد الطلة عليه، لكن سعادته كانت تتحقق أكثر بمجىء أصدقائه سواء يوسف القعيد أو محمد سلماوى أو جمال الغيطانى، وكان فتحى العشرى سكرتيرًا له منذ عام ١٩٧٧، ولكن يبدو أن هناك من أوقع بينهما، وكانت آخر علاقة بينهما بعد حصول نجيب على جائزة نوبل.

سلماوى هو الأقرب لنجيب

السعادة المحفوظية لم تكن تكتمل إذن إلا بوجود محمد سلماوى.

يقول مفيد فوزى: دخل سلماوى حياة محفوظ وكان دخولًا واقعيًا، كان يحكى له فيكتب ما يقوله محفوظ، يصيغ الكلام بشكل جيد ثم يقرأ ما كتب فيغير محفوظ بعض السطور أو الكلمات، وظل نجيب حريصًا على أن يقرأ بعينه ما يكتبه سلماوى بخطه، لكنه فى الفترة الأخيرة كان معذبًا جدًا عندما أصبح لا يرى جيدًا، سمعه لم يعد موجودًا، يده غير قادرة على الحركة، وأعتقد أن ضياع سماع محفوظ لم يكن من العمر ولكن كان من الطعنة. 

قلت لمفيد: كان نجيب محفوظ حريصًا على الخروج يوميًا، كانت لديه جلسة مع مجموعة من أصدقائه، هل كان يخرج كل يوم من المنزل الذى لا يجد فيه راحته؟

قبل أن ألتقط أنفاسى قال مفيد: طبعًا. 

ويكمل: لقد كانت سعادته فى الكتابة والأدب وحضور ندوة أو محاضرة أو مشاهدة التليفزيون، لقد مات نجيب محفوظ قبل الأوان، مات عندما فقد القدرة على القراءة والكتابة، لقد أعطت له السيدة عطية الله الهدوء الكامل فى البيت وأحيانًا كانت تحجب عنه التليفونات تمامًا، أما البنتان فحبهما للأب كان موجودًا ولكنهما كانتا منشغلتين عنه بعالمهما. 

وقد سألته سؤالًا: هل كنت تتمنى أن تنجب ولدًا؟ 

فقال لى: حد عارف.. يمكن لو كنت خلفت ولد يطلع مدمن. 

وعلى سيرة محمد سلماوى الذى كان يؤنس وحدة نجيب محفوظ، أخذت مفيد إلى سيرة الأصدقاء الآخرين الذى لم يكن أبدًا واحدًا منهم.

يقول مفيد: كان الأقرب إلى نجيب قلبيًا هو جمال الغيطانى، يوسف القعيد كان يدخل إلى محفوظ من معطف الغيطانى، كان أحمد مظهر قريبًا له أيضًا فهو الذى عرفه بالفنانين، وعندما أرادت نادية لطفى أن تتعرف عليه، وتعرف كيف يتخيل الشخصية، خاصة فى فيلم «السمان والخريف»، جاء مظهر بنادية وعرفه بها، لكنى لا أتذكر هل طلبت شادية مقابلته أم لا، ما أعرفه أن نبيلة عبيد رغم أنها قامت بتقديم عدة شخصيات من رواياته لكنها لم تقابله. 

استوقفته قليلًا، قلت له: أستاذ مفيد على ذكر نادية وشادية ونبيلة، أين كانت تبدأ علاقة محفوظ بالفنانات وأين كانت تنتهى؟

قال: مجرد أحاديث عابرة، وأتذكر مكالمة أدارها أحمد مظهر بين شادية ونجيب، وكان هو فى كازينو الأوبرا، وكانت شادية وقتها تؤدى الشخصية الرئيسية فى فيلم «ميرامار»، كان نجيب معجبًا جدًا بأداء ماجدة الخطيب فى فیلم «ثرثرة فوق النيل» وتحدث معها كثيرًا، لكن فى الغالب لم يحك نجيب محفوظ عن حياته فى مراحل صفائه، ودائمًا يقول له توفيق صالح: إحنا عارفين إيه اللى حصل لك من رواياتك، فقد روى تقريبًا كل ما جرى فى حياته، وكانت لديه عبارة يقول فيها دائمًا أنا لو أطلق لحالى أعمل أشياء كثيرة.. لكن المجتمع له تقنين. 

تبقى فى القائمة شخصيات أخرى مثل توفيق صالح. 

يقول عنه مفيد: كانت صداقتهما وطيدة جدًا وقد أحضر له العصاية عند كبره، وعمل عصوين واحدة لنفسه وواحدة لمحفوظ، وقد استغنى توفيق عن العصاية سريعًا فلم يحبها، ولكن من الضرورى أن يتكئ محفوظ على عصاه، ورغم ذلك فلم تكن العلاقة بينهما متواصلة إلا فى جلسات الحرافيش الأسبوعية، وكان هناك أيضًا عادل كامل الذى كان يمكن أن يصبح فى قامة نجيب محفوظ، لكنه لم يصبر وهاجر إلى أمريكا، بينما استمر نجيب محفوظ، الذى كان مفتاح شخصيته هو الصبر. 

هيكل

سر الدور السادس بـ«الأهرام»

كان مفيد فوزى كثيرًا ما يلتقى نجيب محفوظ، لكن كثيرًا من هذه اللقاءات تم فى الدور السادس بـ«الأهرام». 

يقول مفيد عن المكان هذه المرة وليس الشخص: كنت أزور صلاح طاهر كثيرًا وكنت معجبًا بيوسف إدريس، وأحيانًا كنت أذهب مع آمال العمدة، زوجتى، إلى توفيق الحكيم الذى لم يكن يعطى أى حديث لأحد، لكن آمال سجلت معه حوالى ١٢ ساعة للإذاعة المصرية ولم يذيعوها منذ فترة. 

كان الدور السادس فى الغالب هادئًا، لكن الغرفة التى كانت أكثر ضجة وضجيجًا كانت غرفة يوسف إدريس، ولم تكن هذه الجلبة تصمت إلا بدخول محمد حسنين هيكل رئيس تحرير «الأهرام»، وقد لعب هيكل دورًا مهمًا فى حياة محفوظ، كانت له حركة ذكية جدًا، فعندما كان يصطحب «نجيب» إلى غرفة توفيق الحكيم كان يمسك بيده ويدخل به، وظل مدافعًا عنه حتى أمام جمال عبدالناصر لأنه كان يعرف قيمة نجيب محفوظ جيدًا. 

هنا ينتهى الحوار.. هل تستطيع أن تعرف هل يحب مفيد فوزى نجيب محفوظ؟ إذا أردت أن تدرك ذلك فاللقاء أمامك.. يمكن أن تقرأه ثانية.