الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

رحلة البحث عن تشيكوف المصرى.. هل سرق يوسف إدريس نجيب محفوظ؟

يوسف إدريس
يوسف إدريس

فى كتابه الأحدث «الكشف عن تشيكوف المصرى»، الصادر عن منشورات المحرر، يقدم الدكتور سامح الجباس دراسة شاملة حول أهم رواد القصة القصيرة المصرية، مع التركيز على يوسف إدريس ومحمود البدوى.

محمود البدوى أول من حمل لقب «تشيكوف مصر»، وكان نجيب محفوظ أول من منحه اللقب، لكن يوسف إدريس، بشكل غامض، نسب اللقب إلى نفسه، وساعده فى ذلك انطواء شخصية محمود البدوى!

من هنا يأخذنا سامح الجباس لدراسة مقارنة بين محمود البدوى ويوسف إدريس متتبعًا المنتج القصصى للكاتبين، حتى يصل إلى سؤال: من يستحق لقب «تشيكوف المصرى»؟

وفى طريق الإجابة يقدم الكتاب مقارنة بين قصة «الجامع فى الدرب»، إحدى قصص مجموعة «دنيا الله» لنجيب محفوظ، وقصة «أكان لا بد يا لى لى» ليوسف إدريس.. فما الذى اكتشفه سامح الجباس؟

هذا ما نقرأه معًا.

أكان لا بد يا لى لى..؟ ١٩٧١

يوسف إدريس

البطل.. شيخ مسجد

المكان.. حى الباطنية الشهير بتجارة المخدرات

بداية القصة.. «فى البدء كانت النكتة، وفى النهاية ربما أيضًا تكون.. النكتة لم تكن أن يستيقظ هذا العدد الكبير من الناس لأول مرة فى تاريخ حى الباطنية، وكر الحشيش والأفيون والسيكونال ليؤدوا صلاة الفجر، وهو الذى يبدأ نومهم بأذان الفجر، وليست النكتة أيضًا أنهم أدوا الصلاة أنصاف مساطيل، أنصاف يقظى..».

وصف المكان.. «الباطنية كلها قابعة كمعسكر مزدحم نفق قاطنوه أو رحلوا. البيوت مريضة تتساند، أحشاؤها صغيرة بارزة محشوة كرحم القطط بآدميين».

موقف الشيخ من المكان.. 

«عيناى تقتحمهما البرودة وتغلفان العادة والإحساس بأداء الواجب وإنى أؤذن فى مالطة، وإن الأتقياء فى الحى قليلون..

ويكفينى أن الله يسمعنى ويعرف أنى أؤذن الفرض كما أمر ويغفر لسكان الحى النائم منهم واليقظان، فنائمهم بمعصية ويقظانهم لمعصية».

«النكتة أنهم صلوا الركعة الأولى فى أمان الله، وكذلك الثانية، ولم يعد باقيًا على انتهاء ركعتى الفجر إلا السجدة الأخيرة، ثم قراءة التحيات والتشهد والتسليم، أما السجود فقال الإمام الشيخ: الله أكبر. ثم سجد، وسجدوا جميعًا وراءه، عشرة صفوف طويلة ملأت الجامع الصغير، أناس ساجدون فى خشوع وإن كان سجودًا غير مريح، فمعظمهم كان لم يقرب الصلاة من مدة.

ولكنهم حين لم يسمعوا «الله أكبر» من الإمام إيذانًا بنهاية السجدة بدأ الوساوس يوسوس للكثيرين أنهم أخطأوا العدد.. 

استغراب كان ينهيه إحساسهم حقيقة ثم ذهول، حين تأكد للجميع حتى للأقلية الموسوسة والمستنيمة أن السجدة طالت حقيقة، وأنها ليست بطئًا من الإمام أو دعاء خاصًا اختار لقوله وضع السجود، كما تأكد للجميع أنهم ليسوا أمام شىء عابر إنما هم بالتأكيد يواجهون حدثًا. لا بد أن شيئًا قد حدث ومنع الشيخ من إتمام السجدة». 

دائرة المئذنة فى مستوى النافذة، فركت عينى أتطلع.

.. الغرفة بها سرير خشبى مرتفع، ماذا غيره هناك؟ لا أعرف.

على السرير ترقد امرأة بيضاء. شاهقة البياض، ممدودة بطولها وقد أحنت ساقًا، ولا شىء عليها سوى قميص نوم لا يكاد يكفى لإخفاء نصفها الأعلى..

أنا فى شرك.

أنا الذى جاء يطرد من هنا الشيطان، وتضاءلت طموحاته حتى أصبحت مجرد أن يُبعد فقط عن نفسه الشيطان..».

«هى» «لى لى» بالتمام، هى الشيطان كاملًا غير منقوص، فالإغراء فيها كامل غير منقوص، نائمة هى تتقلب جسدها فائر، يغلى، وعلى الفراش وفى دفعات يتدفق، هذا صدرها، هذا شعرهاه يسيح وعلى موجات يغطى الصدر والبطن، وينحسر وتتقلب».

«وفى الجامع تلاقت الوجوه، غارقة لا تزال بماء الإفاقة والوضوء، ولأنهم لم يعتادوا التلاقى فى زمن كهذا ومكان كهذا فقد أحسوا بأنهم وكأنما يتعارفون حالًا، واليوم فقد يبدأون، صامتين مذهولين بالنشوة جلسوا يمتصون بآذانهم رحيق الآذان، يستعذبونه، يختزنونه فى أنفسهم كما يختزن غذاء الروح ليوم تجوع فيه الروح، وتحول الجامع إلى مظاهرة».

نهاية القصة: 

«وبينما الجميع ساجدون كالقطيع بعد طول ضلالة، كنت قد تسللت عبر النافذة الملاصقة للقبلة، وفى لمح البصر كنت أدق غرفة الدور الثانى لسطوح البيت المقابل.

«لى لى» وقد لفت نفسها بملاءة السرير تفتح، بابتسامة مرعوبة قلت لها وأنا أفك أزرار الكاكولة الأعلى:

جئت أعلمك الصلاة.

انزلقت الملاءة عنها، فضمتها بقوة وهى تستدير تولينى ظهرها وتقول:

- أنا اشتريت الأسطوانة الإنجليزى اللى بتعلم الصلاة. لقيتنى أفهمها أكتر. متأسفة وأطفأت النور.

أكان لا بد يا لى لى «أن تضيئى النور؟»

نهاية شيخ المسجد.السقوط بسبب المرأة

الجامع فى الدرب ١٩٦٢

نجيب محفوظ

البطل.. شيخ مسجد

المكان.. حى شهير بالفسق والدعارة والمخدرات

بداية القصة.. 

«حان موعد درس العصر، ولكن لم يوجد بالجامع إلا مستمع واحد ولم يكن هذا بالأمر الجديد على الشيخ عبد ربه الإمام، فمنذ التحاقه بخدمة الجامع وهو لا يجد مستمعًا لدرسه إلا عم حسنين بياع عصير القصب».

وصف المكان.. «الجامع يقوم عند ملتقى دربين درب الفساد الشهير، ودرب آخر بمثابة مباءة للقوادين والبُرمجية وموزعى المخدرات».

موقف الشيخ من المكان.. «ولبث دهرًا يفزع كلما امتد بصره إلى داخل هذا الدرب أو ذاك، وكأنما كان يخشى إذا تنفس أن تتسرب إلى صدره جراثيم الدعارة والجريمة، على ذلك كله واظب على إلقاء درسه..».

الموقف الغريب للشيخ

«وكان اليوم التالى هو الجمعة، ولما حان وقت الصلاة ازدحم الجامع بالمصلين على غير المألوف كل يوم، إذ إن صلاة الجمعة تجذب إليه أناسًا من الأطراف البعيدة كالخازندار والعتبة، وتُلى القرآن ثم وقف الشيخ عبدربه لإلقاء الخطبة، وبدا أن المصلين فوجئوا بالخطبة السياسية مفاجأة لم تخطر على بال، تلقت آذانهم متململة الجمل المسجوعة عن الطاعة وواجب الولاء بارتياب وحنق، وما إن حملت الخطبة على الذين يغررون بالشعب ويدعونه إلى التمرد خدمة لمصالحهم حتى سرت فى المسجد همهمة، وأصوات احتجاج وسخط، واعترض البعض بأصوات مرتفعة، وسب آخرون الإمام. عند ذاك انقض المخبرون المندسون بين المصلين على غلاة المعارضين وساقوهم إلى الخارج وسط ضجة هائلة من الاحتجاجات والغضب».

- فى أثناء ذلك كانت حجرة بالبيت الثانى على اليسار من الدرب تضم سمارة وزبونًا جديدًا، جلست سمارة على حافة السرير نصف عارية وتناولت خيارة من قدح مملوء إلى نصفه بالماء وراحت تأكلها، وعلى كرسى أمام الفراش جلس الزبون خالعًا جاكتته وهو يجرع الكونياك من الزجاج.

وقرعت التلاوة الآتية من الجامع أذنيه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة لا تكاد ترى، ونظر إلى الأرض وتمتم فى امتعاض:

- لماذا يبنون جامعًا فى هذا المكان؟ هل ضاقت بهم الدنيا؟»

- «وحين الفجر صعد المؤذن إلى أعلى المئذنة فى ليل ساج ريب، وبدر ساطع، وسكون مؤثر، وأذن هاتفًا: الله أكبر، وفى لحظات الاستعداد لمواصلة الأذان انطلقت صافرة الإنذار فى عوائها المتقطع الرهيب فدق قلبه دقة عنيفة لوقع المفاجأة..

فقال الإمام بنبرة مبحوحة:

- المخبأ بعيد، ولعله اكتظ بكل من هب ودب، والجامع متين البنيان وهو خير ملجأ».

«واندفعت مجموعة من الناس إلى داخل الجامع وبعضهم يقول:

- هذا مكان آمن.

فقال صوت غليظ:

- إنه ضرب حقيقى لا كالليالى الماضية.

فانقبض قلب الإمام لدى سماعه الصوت.

هذا الوحش الآدمى، أليس وجوده بنذير شر؟

وجاءت جماعة جديدة أكثف من الأولى، وندت عنها أصوات نسائية غير غريبة عن الشيخ، وهتف صوت قائلًا: 

- طارت الخمر من رأسى.

وأفلت من الإمام زمامه فهب واقفًا وهو يصيح بعصبية:

- اذهبوا إلى المخبأ، احترموا بيوت الله اذهبوا جميعًا. فصاح به رجل: 

-اسكت يا سيدنا».

نهاية القصة:

«وانفجرت قنبلة فخيل إلى حواسهم الملتهبة أنها انفجرت فى ميدان الخازندار، والتمع بريق خاطف فى فراغ الجمع كشف عن أشباح مرتعدة لحظة قبل أن تبتلعها الظلمة العمياء مرة أخرى، فأطلقت الحناجر عواء مزعجًا، وصوتت النساء، والشيخ عبدربه نفسه صرخ وهو لا يدرى، وتطايرت أعصابه فاندفع يهرول نحو باب الجامع، وجرى خادم المسجد خلفه يحاول منعه، لكنه دفعه بقوة متشنجة وهو يصيح:

- اتبعانى قبل أن تهلكا.

مرق من الباب وهو يقول مرتعدًا:

- لم يجمعهم الله فى مكان واحد إلا لأمر.

ومضى مهرولًا يخوض ظلامًا دامسًا، واستمرت الغارة بعد ذلك عشر دقائق تساقطت فى أثنائها أربع قنابل، وشمل الصمت المدينة مقدار ربع ساعة أخرى ثم انطلقت صافرة الأمان.

ومضت الظلمة ترق أمام البكرة الوانية، ثم تبدت طلائع الصباح فى مثل حلاوة النجاة.

لكن الشيخ عبدربه لم يُعثر على جثته إلا عند الشروق».

نهاية شيخ المسجد.. السقوط بسبب النفاق