الخميس 20 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

على هامش جدل إضافة مادة التربية الدينية إلى المجموع فى مشروع البكالوريا

أى دين.. وأى مناهج؟!

حرف

- هناك من يرى أن تدريس الدين فى المدارس وجعله مادة أساسية قد يؤدى بالطلاب إلى التطرف

مبدئيًا أنا أوافق على إضافة مادة التربية الدينية كمادة أساسية فى المجموع الكلى ضمن مشروع البكالوريا الجديد. 

قد يتعجب البعض من موقفى. 

وقد يتساءل بعض من يعتقدون أنى أكن عداءً للدين أننى أوافق على ذلك لمجرد أن الفكرة طرحت فى مشروع «البكالوريا» الجديد الذى لا يزال يخضع لحوار مجتمعى. 

وقد يقول البعض: كيف توافق على هذه الإضافة وقد جاءت بطلب من مؤسستى الأزهر والكنيسة، وأنت لك موقف رافض ومعارض لكثير من سياسات وقرارات المؤسستين الكبيرتين؟ 

حقيقة الأمر أن موقفى بعيد عن هذه الاعتقادات التى يحملها البعض، ليس لأن الكثير منها هلوسات وخزعبلات، فلا أنا أعادى الدين، ولا أنا رافض طول الوقت لما تقوم به مؤسسة الأزهر أو تقدم عليه الكنيسة. 

القضية عندى أهم وأخطر بكثير. 

فأنا أدرك أننا نعيش عصرًا مختلفًا تمامًا، أحدثت فيه التكنولوجيا بتجلياتها ما لم نكن نتصور أبدًا أننا يمكن أن نصل إليه فى يوم من الأيام. 

وأعتقد أن من يقفون فى صف المعارضين لإضافة مادة الدين إلى المجموع الأساسى يتحدثون من أرضية قديمة تقليدية، ورغم أن من بينهم مفكرين علمانيين كبارًا، فإنهم يتعاملون مع الأمر بسلفية واضحة، فهم أسرى لأفكار الماضى، دون أن يضعوا فى اعتبارهم أن هناك ما طرأ ويستلزم أن يكون للدين حضور بشكل ما فى حياتنا. 

يسوق من يعترضون على الاقتراح مبررات منها أن إضافة التربية الدينية إلى المجموع ستؤثر سلبيًا على التنوع الدينى والثقافى بالمجتمع، كما أنها ستكون ضد مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة، كما أنها ستزيد الأعباء على كاهل أولياء الأمور، فكونها ستكون مادة أساسية يرغب الطلاب فى الحصول على درجة مرتفعة بها، يجعلهم يلجأون إلى الدروس الخصوصية أكثر. 

الغريب أن بعض رجال الدين المسيحى والإسلامى وعددًا من العلمانيين اتفقوا على أن المدرسة ليست مكانًا لتدريس الدين، وأن المكان المناسب هو المسجد والكنيسة.. والبيت أيضًا، أما المدرسة فيجب ألا نقحمها فى هذا الأمر. 

على القرب من هذا الرفض، يظهر من يبرر الأمر ربما بعمق أكثر، فهناك من يرى أن تدريس الدين فى المدارس وجعله مادة أساسية قد يؤدى بالطلاب إلى التطرف، من باب أن ذلك يقربهم أكثر من الجماعات الدينية، ويجعلهم أرضًا ممهدة لتطأها أرجل هذه الجماعات، فيصبح الطلاب أعضاءً محتملين للانضمام إلى هذه العصابات الإرهابية. 

النقاش الدائر فى المجتمع الآن حول هذه القضية ورغم أهميته- فالنقاش دائمًا مهم- فإننى أرصد فى تفاصيله جانبًا كبيرًا من التدليس، وإذا برأت من يشاركون فيه من التدليس بسوء نية، فما أراه على الأقل لا يخرج عن كونه تحجرًا عقليًا وجمودًا فكريًا، وتأكيدًا على أننا لا نتطور.. أو على الأقل لا نريد. 

فمن يتحدثون عن أن تدريس الدين يجب ألا يكون إلا فى المساجد والكنائس وبعيدًا عن المدارس، يتجاهلون تمامًا أن الدين يتم تدريسه فى المدارس بالفعل، فهو مادة مكررة على الطلاب رغم أنه ليس مادة أساسية ولا تضاف إلى المجموع. 

وقد لا يدرك هؤلاء أن هذه الوضعية لمادة التربية الدينية فى المدارس أدت إلى ظاهرة فى غاية الخطورة، وهى الاستهانة بالدين. 

فالطلاب يتعاملون مع المادة على أنها هامشية، لا يبذلون جهدًا فى تحصيلها إلا بما يساعدهم على النجاح فيها بالكاد، كما أن حصة التربية الدينية نفسها حصة مهانة، وكثيرًا ما يتم إلغاؤها لصالح المواد الأخرى، وهو ما انعكس على قيمة وقدر الدين نفسه فى تكوين هؤلاء الطلاب النفسى والثقافى، فهم يرون الدين نفسه شيئًا هامشيًا لا قيمة له. 

هذه الفكرة التى يُكوّنها الطلاب عن الدين، أو التى تترسخ فى نفوسهم عنه، تجعل مهمة المسجد والكنيسة والبيت عسيرة فى تدارك الدمار الذى جرى، فلا يستطيع الشيخ فى المسجد أو القسيس فى الكنيسة أو أولياء الأمور فى البيوت أن يدفعوا أولادنا إلى طريق الدين، وكيف يمكن لذلك أن يحدث وقد تأكد لهم بالممارسة الفعلية أن الدين مجرد هامش فى دراستهم، وأنهم ليسوا مطالبين إلا بالحصول منه على ما يجعلهم يجتازون الاختبار فى المادة٪

الاستهانة بالدين كانت سببًا لانتصار الجماعات المتطرفة فى معركة جذب الشباب إليها، والتهوين منه جعلهم يقنعون الشباب أن الدولة تعادى الدين ولا تقدره حق قدره، وتحولت دور العبادة إلى محطات يتم التقاط العناصر غير المحصنة بالمعرفة الدينية منها، فيتم الإيقاع بهم فى شباك هذه الجماعات بسهولة. 

وضعية مادة الدين فى المدارس دون إضافتها للمجموع أضرت أكثر مما أفادت على مدار عقود طويلة. 

فما يدرسه الطلاب فى كتب الدين فى المراحل المختلفة لا يشكل مصدرًا حقيقيًا لمعرفة الدين، بل من الصعب أن تجد طالبًا حصل على شىء له قيمة من هذه الكتب التى لا ينظر فيها إلا ليلة الامتحان فقط، وهذا أمر طبيعى جدًا، فنحن لا نهتم إلا بما نحصل منه على مكسب مباشر، وكنت أتساءل: إذا كان هذا هو وضع مادة الدين، فلماذا الإبقاء عليها من الأساس؟ 

يخشى من يعترضون من إضافة مادة التربية الدينية إلى المجموع على التنوع الثقافى فى المجتمع، وأقول إن التجربة التى عشتها بنفسى فى مدرستى الثانوية كانت تقضى على التنوع الثقافى تمامًا، رغم أن الدين كان يدرس وكان لا يضاف إلى المجموع.

فى مدرستى الابتدائية ومن بعدها الإعدادية لم يكن معنا أى طالب مسيحى، وفى المدرسة الثانوية كان معنا طالب واحد. 

فى حصة التربية الدينية كان يتم استدعاء الطالب المسيحى ليخرج من الفصل، يأتى مدرس من الكنيسة ويجلس معه فى غرفة خاصة ليدرس له المقرر، وبعد أن ينتهى يعود مرة أخرى لينتظم معنا. 

كانت طريقة إخراجه من الفصل مريبة، كما كانت طريقة عودته أيضًا. 

كنا نشعر وكأنّ هناك سرًا يجب ألا يطلع عليه أحد، وكأن الجميع يحرصون على إخفاء أن هناك دينًا آخر فى مصر، وحتى لو اعترفوا بوجوده، فهم لا يريدون لأبناء الدين الآخر أن يعرفوا عن ذلك شيئًا، وكان يتم تحذيرنا طول الوقت من الاقتراب من زميلنا المسيحى أو سؤاله عما يدرس.. فأى تنوع ثقافى يمكن أن يترسخ فى المجتمع وهذا هو الحال؟ 

كان السؤال الأول فى امتحان التربية الدينية هو الاختبار فى حفظ الآيات المقررة، وكان معظم الطلاب- إن لم يكن كلهم- يتجاهلون هذا السؤال، ويتعاملون معه على أنه ليس موجودًا من الأساس، يتجاوزونه إلى السؤال الثانى، فلم يكن أحد يحرص على حفظ الآيات، وكأنهم يتبرعون بدرجات السؤال للوزارة، فهم لا يريدونها، لأنها لن تؤثر فى مجموعهم الكلى. 

فى السنة الثالثة الإعدادية دخل علينا موجه اللغة العربية والتربية الدينية، وكنت أجلس فى المقعد الأول، طلب منى أن أسمِّع من «سورة الفتح» التى كانت مقررة علينا، وعندما قرأت عليه الآيات الأولى، قال لى: هذا يكفى.. تبدو من قراءاتك أنك حفظت فى كُتاب.. أنا أريد الآخرين، وعندما ذهب إليهم لم يجد أحدًا يحفظ شيئًا من آيات المنهج ولا من غيرها. 

كان يحدث هذا والدين لم يكن فى غربة، كما هو الآن، ولم يكن القرآن مهجورًا كما هو الآن. 

فما بالنا والعالم يشهد موجات متتالية لتهميش الدين وإبعاده، بل مناقشة جدواه وأثره على حياة الناس، فى أكبر عملية تشكيك تتعرض لها الأديان فى تاريخها، وهى حملات يتعرض لها الشباب الذين يتلقون معرفتهم ومعارفهم من المنصات الإلكترونية، فالمسجد أصبح هامشيًا.. والكنيسة كذلك. 

إننى أوافق على أن تكون مادة التربية الدينية مادة أساسية وتضاف إلى المجموع، بصرف النظر عما إذا كان هذا يتم بطلب من الأزهر والكنيسة أو أنه فكرة نابعة من عقل وزير التعليم. 

ومبررى فى ذلك أن نعيد الهيبة للدين مرة أخرى، أن يهتم الطلاب بدراسته وحفظ الآيات ومعرفة حقيقته، وهم مهتمون، لأنهم يعرفون أنه سيكون عاملًا أساسيًا فى زيادة مجموعهم. 

وإذا قال أحدهم إن هذه مجرد حيلة، وإن الطلاب يجب أن يقبلوا على الدين برغبة ذاتية وحب نابع من داخلهم، ولا يجب إجبارهم على ذلك. 

فإننى أرى أن الإجبار أحيانًا ما يكون مطلوبًا، وأن الحيلة هذه المرة إيجابية ونفعها أكثر من ضررها، فلماذا لا نجرب؟ 

ولماذا لا نجرب ونسأل أبناءنا ممن يدرسون فى المدارس التربية الدينية كمادة خارج المجموع عن معلوماتهم وما يحصلونه. 

لن نجد شيئًا له أهمية، بل ستكون المفاجأة أن أبناءنا لا يعرفون شيئًا عن دينهم له قيمة.. لا إسلامى ولا مسيحى. 

إضافة درجات التربية الدينية إلى المجموع الكلى وسيلة محمودة لا يجب التقليل من شأنها لجعل الدين فى بؤرة اهتمام أولادنا. 

لكن السؤال الأول الذى يجب أن يحظى بالمناقشة هو: لماذا طالب الأزهر ومعه الكنيسة بأن تكون مادة التربية الدينية من مواد المجموع؟ 

أعتقد أن هذا اعتراف يجب أن نحترمه من المؤسستين بأنهما غير قادرتين بمفردهما على لعب الدور الأكبر فى تعريف الشباب بالدين، وهو اعتراف لا بد أن نحترمه ونقدره، فالمؤسسات الدينية تطلب المساعدة من المدارس، تريد منها أن تقوم بدورها الطبيعى فى تهيئة الشباب إلى تقبل الدين والإقبال عليه، حتى إذا ما انتظم الشاب المسلم فى المسجد أو الشاب المسيحى فى الكنيسة يجد لديه الخلفية المعرفية المناسبة التى تجعله قادرًا على التفاعل مع الدين تفاعلًا إيجابيًا. 

أما السؤال الثانى الذى اعتقد أنه أكثر أهمية، والذى يجب أن نبحث له عن إجابات واضحة وحقيقية من خلال حوار مجتمعى حقيقى هو: أى دين نريده أن يكون فى المناهج ومواد التربية الدينية فى المدارس؟ 

لو استطعنا أن نجيب عن هذا السؤال بشكل احترافى، ووصلنا إلى شكل المادة العلمية التى يجب أن تقدم من خلال مناهج التربية الدينية، فإننا بذلك نكون على قدر مسئولية الدين والوطن معًا فى وقت واحد. 

لعقود طويلة كانت المادة العلمية التى تقدم من خلال المناهج الدينية هشة وساذجة وغير منهجية ولا تراعى أعمار التلاميذ والطلاب فى المراحل الدراسية المختلفة، وكانت طبيعة هذه المناهج تصب فى النهاية فى مصلحة الجماعات المتطرفة، وتحديدًا مناهج التربية الدينية الإسلامية، فلم تكن تختلف فى قليل أو كثير عما يتم تدريسه فى جلسات الجماعات الدينية المتطرفة فى المساجد أو مقرات هذه الجماعات، وهو ما كان يسهل عليهم التقاط أعضاء جدد ينتظمون فى صفوفها، ويتحولون إلى قنابل موقوتة سرعان ما تنفجر فى وجه المجتمع كله. 

إذا أردنا صلاحًا للدين وللوطن أيضًا، فلا بد أن نعكف بإخلاص على وضع مناهج دينية تكشف حقيقة وجوهر الأديان التى جاءت من أجل الإنسانية، لا تلك التى تخاصمها وتقف منها موقف الضد. 

يجب أن يعرف الطلاب جميعًا أن هناك أديانًا أخرى كثيرة ومتعددة، سماوية وأرضية، وأن هذه الأديان جميعها بينها مشتركات إنسانية وقيمية وأخلاقية راقية يمكنها أن تصنع عالمًا أكثر تسامحًا وسلامًا وهدوءًا واستقرارًا. 

إننى أعارض أن يكون هناك منهج للطلاب المسلمين ومنهج آخر للطلاب المسيحيين. 

يجب أن يكون هناك منهج واحد، يدرسه الجميع، تنتفى فيه خصوصية الأديان، ونهتم بعموميتها، يكون الامتحان واحدًا، وبذلك نقضى على الاحتجاج بعدم تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، ثم إننا سنجعل الشباب من خلال ذلك طبيعيين لا يشعرون بأن هناك مجهولًا يحجب عنهم، يقتضى أن يتم إخراج الطلاب المسيحيين إلى غرف خاصة ليتم تدريس دينهم لهم. 

قد يرفض رجال الأزهر ورجال الكنيسة والعلمانيون أيضًا ما أذهب إليه. 

لكننى أعتقد أن ما أقوله قد يصلح كثيرًا مما فسد خلال العقود الماضية. 

فهل نريد الإصلاح بشكل حقيقى، أم أننا سنظل هكذا طويلًا فى حالة صراع، كل طرف يريد أن يفرض وجهة نظره على الآخر؟ 

النقاش الذى يدور الآن فى المجتمع المصرى- وأعرف أن وزير التعليم بدأ فى عقد جلسات حوار مجتمعى حول مشروع البكالوريا بشكل عام ومسألة إضافة مادة الدين إلى المجموع بشكل خاص - قد يكون بداية الطريق لأن نضع الدين فى المكان الذى يستحقه، نخلق من خلاله أجيالًا لا تقع بسهولة فريسة بين أنياب الجماعات المتطرفة، وننشر من خلاله الأمن والسلام والتسامح على الأرض. 

فهل نبدأ بجدية؟ 

أم أننا سنضيع هذه الفرصة من بين أيدينا.. ونجلس فى انتظار فرصة أخرى؟