الخميس 15 مايو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فالس إيــدا.. مقاومة ثقافية ناعمة

حرف

- كتاب «فالس إيدا» يبرز كقوة ثقافية ناعمة فى مواجهة تحديات العصر

فى زمن قاتم تسيطر فيه التكنولوجيا المتجبرة على كامل حياتنا، حيث اختفت الرسائل الخطية تحت وقع انتشار الرسائل الإلكترونية السريعة، يأتى كتاب «فالس إيدا: رسائل موسيقية» للكاتب إسحاق بندرى، الصادر عام 2025 عن دار نشر إشراقة، كهبة نسيم عذبة تعيدنا إلى زمن الحنين المفتقد والدفء الإنسانى الغائب. يحمل الكتاب بين طياته عدد تسع وعشرين رسالة موجهة إلى «إيدا»، تلك الشخصية المجهولة الغامضة، التى تلعب دور المتلقى الصامت، لكن القارئ يمكنه أن يرى بوضوح ابتسامة ارتسمت على شفاهها عند تلقيها تلك الرسائل البديعة. 

كتاب «فالس إيدا» ليس مجرد عمل أدبى نثرى عابر، بل هو تجربة فنية متكاملة الأركان، يجمع بين اللغة الشاعرية الكلاسيكية، والمعلومات الموسيقية المبهرة، والحنين إلى ماض لم يعد موجودًا إلا فى الذاكرة، حيث ينجح «بندرى» فى تحويل رسائله إلى أوبرا موسيقية كاملة على هيئة لوحات فنية مرسومة بالكلمات، حيث يتراقص النص كراقص فالس ماهر، بتناغم إيقاعى يأسر كل من يقرأه، ويجعله شريكًا فاعلًا فى هذه الرحلة العاطفية والثقافية. إن إحدى مميزات «فالس إيدا» الواضحة للعيان قدرته على الجمع بين العمق والبساطة، بين الشخصى والعام، بين المحلى والعالمى. فالكتاب ليس مجرد تنشيط لذاكرة مهملة، بل محاولة لاستعادة المعنى والإنسانية فى عالم ملىء بالفوضى والعزلة.

فإذا كانت الفالس رقصة تتسم بالإيقاع المتكرر والانسيابية، فإن أسلوب المؤلف فى الكتاب يحاكى روح الرقصة بدقة بالغة، فاللغة، التى تمتزج فيها الشاعرية بالسرد النثرى، تخلق إحساسًا بالحركة الدائبة، كما لو أن الكلمات والجمل والفقرات ترقص على إيقاع موسيقى خفى. كما أن اعتماد الكاتب على التدفق السردى الواعى، حيث تتداخل الجمل كنسيج متماسك هو نتاج وعى فنى نجح فى خلق تجربة قرائية تفاعلية، تجعل المتلقى يشعر وكأنه يستمع إلى المقطوعات الموسيقية أثناء القراءة. فعلى سبيل المثال، عندما يسهب إسحاق بندرى فى وصف أغنية «قصة حبنا» من فيلم «علاقة لا تنسى»، التى تقول كلماتها:

«قصة غرامنا أمر مدهش

أنبتهج لتذكرها؟

وُلد حبنا مع عناقنا الأول

واقتطُعت صفحة خارج الزمان والمكان

لتكن قصة غرامنا دومًا

جذوة تتوقد عبر الأبدية

فامسك بيدى مع صلاة حارة،

حتى ما نحيا ونتشارك فى

قصة غرامنا لنتذكرها». 

إسحاق بندرى

فإنه لا يكتفى بتقديم المعلومات الضرورية عن الأغنية، بل يصنع منها صورًا بصرية؛ تجعلنا وكأننا نرى العشاق وهو يمسكون بأيدى بعضهم، ويتبادلون قبلة مسروقة فى خفية من الزمن، يشعرك بحرارة الكلمات التى يتردد صداها فى الأغنية. هذه القدرة على تحويل النصوص المعلوماتية إلى ما يشبه التجربة السينمائية ميزة كبيرة تفرد بها هذا الكتاب المدهش الذى يستلهم من الفترة الكلاسيكية رقة التعبير دون فقدان روح العصر الحديث.

إن إحدى أبرز نقاط القوة فى «فالس إيدا» هى نجاحه فى بناء جسر ثقافى بين الشرق والغرب، فمن خلال تقسيم الرسائل إلى ثلاثة أقسام: الأفلام العالمية الخالدة، الموسيقى الكلاسيكية المبهرة، والأعمال العربية الناجحة، يصبغ «بندرى» رسائله بصبغة موسيقية كونية تتجاوز الجنسيات والعرقيات، وتتخطى الحدود الجغرافية والثقافية. هذا التنوع ليس على سبيل الاستعراض المعرفى، بل هو محاولة راقية للانضمام إلى الداعين لحوار الحضارات والثقافات المختلفة، حيث تتداخل الإيقاعات الغربية مع الأغنيات العربية، وتتفاعل الألحان العالمية مع الموسيقى المحلية، كضفيرة متناسقة ومتشابكة.

فى القسم الأول، يأخذنا الكاتب إلى العوالم الساحرة للأفلام العالمية الخالدة، وينتقى منها أغنية «الحياة باللون الوردى» لأسطورة الغناء الفرنسية «إديث بياف»، التى تحمل بداخلها روح باريس الرومانسية الملهمة. أغنية الأمل والعشق، التى تجاوزت حدودها الفرنسية لتصبح رمزا عالميًا للمشاعر الإنسانية. «بندرى» لا يكتفى بتقديم الأغنية، بل يربطها بسياقها الكونى العام، ما يجعلها تجربة إنسانية مشتركة تخص القارئ العربى بقدر ما يهتم بها الجمهور الغربى.

فى القسم الثانى، كغواص فى بحر النغم، ينتقى المؤلف مجموعة من أعذب مقطوعات الموسيقى الكلاسيكية لعمالقة، أمثال: بيتهوفن وموتسارت. هنا تظهر البراعة فى تقديم تلك الأعمال بطريقة تجمع بين العمق الأكاديمى غير المفرط والبساطة الموجهة للقارئ غير المتخصص.

بينما فى القسم الثالث، الذى يركز على الموسيقى العربية، يعود المؤلف لجذوره الثقافية العميقة، من خلال استعراض أعمال مثل أغنية «الشوارع حواديت» من فيلم «الحريف»، وموسيقى فيلمى «خرج ولم يعد» و«الكيت كات». يتحدث إلى جيلين: الأول الذى يعرفها ويحمل إرثها بين جنباته، والآخر الجيل الجديد الذى ربما لم يتعرف عليها بعد. هنا الموسيقى العربية تصبح جزءا من حوار ثقافى عالمى. لكن الكتاب ضن علينا بالمزيد، فاختار فقط أربع رسائل عن الموسيقى العربية من إجمالى تسع وعشرين رسالة! ولعله ليس تحيزا للغرب بقدر ما هو محاولة لنقل أكبر قدر من الموسيقى الغربية للجمهور الشرقى الشغوف بالتعرف عليها.

أحد أبرز المشاعر التى تصل للمتلقى بعد انتهائه من كتاب «فالس إيدا» هى مشاعر الحنين إلى الماضى، فالرسائل الموجهة إلى إيدا، ليست وسيلة للتواصل مع شخصية مجهولة وحسب، بل هى محاولة لسبر أغوار الذكريات، واستعادة الزمن الذى كان فيه التواصل أكثر إنسانية وعمقًا. فعلى سبيل المثال، عندما يتحدث المؤلف عن أغنية «ذات مرة فى حلم» من فيلم «الجميلة النائمة»، فإنه لا يقدم الأغنية بصفتها جزءًا من الفيلم فقط، بل يحولها إلى استعارة للأحلام التى شغلتنا فى صبانا، والتى ربما فقدناها بفعل قسوة ووحشية الزمن.

تمثل إيدا الشخصية الغامضة التى تستقبل الرسائل واحدة من أبرز علامات التساؤل والإثارة والفضول فى الكتاب. فمن هى إيدا؟ هل هى حبيبة قديمة، صديقة من الماضى، أم رمز لشىء أكبر؟ يترك الكاتب الباب مفتوحًا للتكهنات، مما يمنح الجميع حرية التأويل. بالنسبة لى، إيدا رمز للمثالية المفقودة: صورة متخيلة للحب، الصداقة أو الذكرى، التى نحملها فى قلوبنا، لكننا لا نستطيع الوصول إليها. حضورها الزاهى يمثل محاولة لاستعادة ما قد فاتنا، وصمتها القاتل يعلن عن فشل المحاولة.

إن العالم يعيش فى تيه مستمر، وفوضى تضرب كامل جنباته، وحروب تقصم الظهر، ووسط هذا كله، تصبح الموسيقى، من وجهة نظر «بندرى»، وسيلة لاستعادة التضامن الإنسانى، والخروج من فضاء العزلة الشاسع إلى الالتفاف حول ما يجمع ولا يفرق، وهو الفن، الذى يقدمه المؤلف كملاذ آمن للبشر وقت الأزمات، وكأداة للاستشفاء الجماعى من أمراض العنصرية والكراهية، وكساحة واسعة للقاء والتشاور والتشارك.

إن واحدة من أبرز إنجازات «فالس إيدا» هو تجديده الشكل الأدبى الذى يجمع بين النثر والشعر والمعلوماتية، فالرسائل التى يحملها الكتاب، والتى قد تبدو تقليدية فى شكلها، تتحول إلى نوع من أنواع الأدب التجريبى، بفضل الأسلوب الشاعرى، التدفق السردى، والدمج بين الموسيقى والأدب، ما يجعل الكتاب تجربة متعددة الحواس، تجمع بين التأمل الهادئ، العزف المتخيل، والاستمتاع بالنص.

إن كتاب «فالس إيدا» يبرز كقوة ثقافية ناعمة فى مواجهة تحديات العصر الذى نحياه، كمقاومة سلمية هادئة للتوترات والاضطرابات التى نواجهها. يدعونا الكاتب للرقص مع الكلمات، للاستماع والاستمتاع بألحان الماضى، ولإعادة التفكير فى علاقتنا بالزمن وتقلباته، بالفن وتجلياته، وبالمشترك الإنسانى مع الآخر. إنه فالس لا ينتهى، رقصة دائمة بلا توقف، نحو الكمال والجمال اللا متناه.