الخميس 15 مايو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

اللايك يحكم الضمائر.. كيف خان المثقفون دماء الأبرياء من غزة إلى اليمن؟

حرف

- صنعوا من «الملثم» صوتًا للمقاومة.. ومن «المعمم» سيدًا لها.. ومن «حرامى المعيز» قائدًا

- «عالم» يصطف مع قائد ميليشيا لا يملك مؤهلًا تعليميًا وأفضل أعماله تدمير إيرادات قناة السويس

- «مثقف موسوعى» ينظر لعبقرية يحيى السنوار الحربية.. وأى عبقرية فى مواجهة الـF35 بالعصاة؟

- سياسى كبير يذرف الدموع على «معمم» ينتظر ظهور الإمام ويُسلى وقته بتدمير بلده!

عاتبنى صديق فلسطينى بأسى: «إحنا زعلانين منكم»!

توقعت أن يعيد علىّ دعايات إخوانية، وقع فى شباكها البعض، حول موقف مصر مما يجرى فى غزة، وقررت أن أكون هادئًا فى الرد عليه، احترامًا لما هو فيه.

وما أقسى أن يعيش الإنسان فى خيمة، بعد منزل عامر، لا يجد قوت يومه، ولا يستطيع حماية أطفاله، وينتظر الموت فى كل لحظة، بعد أن تركوه فى العراء يواجه آلة حرب وحشية.

سألته: خير؟

قال لى، بلهجة مصرية يعرفها: «يعنى إنتم بتقولوا على الإخوان عندكم (إرهابيين وخطر على الأمن القومى)، ومقدرتوش تتحملوهم سنة، وإحنا عشنا معاهم ١٧ سنة سواد زى ما بتقولوا، إنما الإخوان بتوعنا مقاومة ومجاهدين»!

توقفت أمام كلماته، ولم أستطع الرد سريعًا، واكتفيت بالدعاء له ولأطفاله بالسلامة والنجاة.

لكن انشغالى بما قاله قد طال.

منذ السابع من أكتوبر لعام ٢٠٢٣، تعيش منطقتنا على وقع انقلاب كبير.

أطلق يحيى السنوار طوفانه الانتحارى معتقدًا أنه يوجه ضربة قاضية للمشروع الصهيونى، لكن ما جرى كان العكس تمامًا!

تلقى الفلسطينيون الضربة القاضية، وخرج حزب الله من المعادلة، وكانت التكلفة دماءً ودمارًا فى لبنان، وسقط نظام الأسد فى سوريا، وعاد اليمن إلى الوراء لعقود، وكأنه لم يكتف من خسائر السنوات الماضية، وباتت إيران فى أضعف لحظاتها حتى إن سماءها باتت بلا دفاع جوى يحميها من استباحة الطيران الإسرائيلى.

طوفان الأقصى أغرقنا نحن ركاب السفينة.

وكانت نتائج الأحداث كافية لكى نعيد النظر فيما جرى كله، ونواجه بشجاعة الأسئلة الكبرى، غير أن أحدًا لم يفعل.

أكثر من ١٦ شهرًا ونحن نشاهد نكبة جديدة، على الهواء مباشرةً، ولم نستطع أن نقول «كفى».

ولن أكون مثل هؤلاء المغيبين وأخدعك بأننا يجب أن نقولها للإسرائيلى، إذ كيف أقول لمن يكسب فى كل لحظة «رجاء.. توقف عن الكسب».

بل يجب أن نقولها لهؤلاء الذى ألقوا بنا فى هذه الهاوية: «كفى خسائر».

ومع اشتداد حوادث النكبة وخرائطها، ظننت أن المراجعة قادمة.

ومرة ثانية لن أكون مغيبًا وأتوقع ممن عاش حياته كلها على «غيبيات» أن يراجع نفسه.. إنه خارج المنطق أصلًا، ولو كان لديه شىء من عقل لما فعل ما فعله.

لكننى ظننت أننا، نحن الناس خارج هذه الدائرة الجهنمية، قادرون على المراجعة.

مراجعة التأييد لجهلة ومغامرين جعلوا من أنفسهم قادة للأئمة، ومراجعة التصفيق لملثمين نصّبوا أنفسهم متحدثين باسمها.

وإن بعض الظن إثم.

لا أحد يراجع، ولا أحد يفكر، وكيف يمكن أن نراجع أو نفكر ومفكرونا ومثقفونا أنفسهم صاروا مريدين فى حضرة هؤلاء الجهلة والمغامرين والملثمين؟!

مثقف موسوعى ينظر لعبقرية يحيى السنوار الحربية، وهى عبقرية فعلًا أن تواجه الـf35 بعصاة!

ومفكر علمانى يكتب حبًا فى أبوعبيدة الذى يتلاعب بأعصاب الإسرائيليين.

وسياسى كبير، ومثقف أيضًا، يذرف الدموع على «معمم» ينتظر ظهور الإمام ويسلى وقته بتدمير بلده.

وعالم فى مجاله يصطف مع قائد ميليشيا يختطف بلدًا، كان يومًا صاحب حضارة عريقة، وصار يقوده الآن رجل لا يملك مؤهلًا تعليميًا.

لم تقدم حركة حماس- منذ ظهورها على الساحة الفلسطينية كجناح لجماعة الإخوان المسلمين- إلا كل شر.

هى ظهرت أصلًا كأداة إسرائيلية فى مواجهة منظمة التحرير الفلسطينية، وحققت مرادها فى تحقيق الانقسام الفلسطينى، وأجهضت، ومعها اليمين الإسرائيلى، وشريكتها حركة الجهاد، كل مشروع للتسوية.

ومنذ انقلابها الأسود فى غزة عام ٢٠٠٧ وهى تعطى الإسرائيليين مبررًا ألا وهو «غياب قيادة فلسطينية موحدة».

ولن أدخل هنا فى جدال هل هذه تصرفات عميل؟ أم تحركات جاهل لا يفكر؟ 

وأحسبهم، بحسن نية، ممن جاء فيهم قوله تعالى: «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا».

غير أن «حماس» لم تكتفِ بأنها لم تحرر شبرًا من الأرض، بل أعطت الأرض المحررة لإسرائيل، بعد عملية السابع من أكتوبر، واستمرت، على مدار الأشهر الماضية، تقدم للعدو الذريعة تلو الأخرى، وهو لا يحتاج أصلًا، لكنها خدمات مجانية يحب الإخوان المسلمون تقديمها!

وكانت النتيجة احتلال غزة، وتجويع شعبها، والتهام الضفة الغربية، وقتل أى أمل فى إقامة دولة فلسطينية.

والأهم موت ما يزيد على ٥٣ ألف إنسان، حياة أصغر طفل فيهم أهم من كل المقدسات.

وهذا حزب الله، الذى نشأ كفيلق يتبع قوة القدس فى الحرس الثورى الإيرانى، يقدم لبنان هدية لإسرائيل.

فى اليوم الثانى لعملية السنوار دخل حزب الله المعركة، بقرار من أمينه العام حسن نصر الله، وتوجيه إيرانى.

لم يشاور أو يناقش أحدًا، وقرر منفردًا، بالنيابة عن ملايين اللبنانيين، دخول حرب نتيجتها معروفة مسبقًا، والأهم دون أى مبررات.

فإذا كانت عملية حماس جائزة، عند البعض على الأقل، بمنطق أن هناك احتلالًا ومن ثم يجب أن تكون هناك مقاومة- فما الذى دفع حزب الله لدخول الحرب وأرض لبنان محررة؟

لا شىء.. سوى وحدة «ساحات الخراب» التى اخترعتها إيران.

وبالمثل.. كانت النتيجة احتلال أراضٍ لبنانية، وتدمير الجنوب، وموت الآلاف.

هذا إلى جانب تدمير الحزب ذاته وإنهاء قيادته كاملة.

اليمن أيضًا ليس سعيدًا.

منذ انقلاب ميليشيا الحوثى المشئوم على السلطة الشرعية واجتياحها العاصمة صنعاء فى عام ٢٠١٤، يعيش هذا البلد الحبيب فى مأساة متكاملة، تخللتها حرب إجبارية قاسية استمرت لسنوات.

وكأخواتها، لم تكتف الميليشيا - تحت قيادة «حرامى معيز»- بما سببته، فإذا بها تبدأ حرب السفن فى البحرين الأحمر والعربى وتطلق الصواريخ والمسيرات على إسرائيل، بتوجيه إيرانى بالطبع.

والنتيجة خسائر بالمليارات لمصر، ورد فعل إسرائيلى دمر ما تبقى من البنية التحتية اليمنية، بينما الخسائر فى تل أبيب لا تذكر، وكان أكبرها حفرة بعمق يصل إلى ٢٥ مترًا فى مطار بن جوريون.

وفى الطريق ضاع نظام بشار الأسد فى سوريا، على وقع الضربات الإسرائيلية للميليشيات الإيرانية وقوات حزب الله التى احتمى بها لسنوات.

وكان أن استغل المسلحون، ومن يحركهم، هذا الفراغ، وقطعوا طريقهم، بكل يسر، نحو دمشق وسيطروا على السلطة، بالتوازى مع سيطرة إسرائيل على جنوب البلاد وتدميرها ما تبقى من مقدرات الجيش السورى.

وهذا كشف حساب مختصر.

أعرف أنك الآن ستتهمنى بالتصهين، وفى أقل تقدير بالتخاذل.

وأعرف أن هذه الاتهامات كانت عاملًا حاسمًا فى غياب المراجعات على مدار الفترة الماضية.

ثم إن اتهام من يراجعون أنفسهم بالنفاق وتبدل المواقف يدفع كثيرين لإخفاء قناعاتهم المستجدة.

يحدث ذلك مع أن المواقف يمكن أن تتبدل بتغير المعطيات والحقائق بل يجب أن تتبدل.

إنها فضيلة مهملة فى مجتمعاتنا، وأقصد تغير الآراء.

صار الجمود هو الفضيلة، ذلك أننا لم نعد نفرق بين تغير الآراء وتبدل المبادئ.

هذا الجمود دفع أشخاصًا، يفترض أنهم مثقفون ومفكرون، لمعايرة «مفكر كبير» لمجرد أنه غيّر رأيه، وبعدما كان يهتف، فى صحف تولى مسئوليتها: «عاشت صواريخ حماس»، آمن الآن بأن هذه الصواريخ تحولت إلى كنز استراتيجى لإسرائيل، تستغله لتحقيق مكاسب لم تحلم بها يومًا.

لم نناقش تغير الرأى وأسبابه ومنطقه، واكتفينا بكيل الاتهامات، ووسط هذا كله يتمدد العدو، بينما يواصل المغامرون والجهلة تقديم الهدايا له مستغلين غياب أى نقد أو مراجعة لسلوكهم، ومنتشين بما يسمعونه على القنوات عن انتصاراتهم المزعومة، وما يقرؤنه على مواقع التواصل الاجتماعى عن بطولاتهم الخائبة.

ولا أبالغ إذا قلت إن كل من يفعل ذلك شريك فى المسئولية عن الدماء الفلسطينية واللبنانية واليمنية التى تُسال.

إننا نزين لهؤلاء «المجرمين باسم المقاومة» الباطل.

بل إن كثيرًا من هذه الدماء الغالية كان يمكن ألا يُسال لو أن هناك مَن خرج وقال «كفى».

«كفى مقامرة.. اخرجوا واتركوا ما تبقى».

لم يقلها أى مفكر أو مثقف أو صاحب علم ورؤية تقريبًا مع أن من بينهم من يؤمن بضرورتها، ويمنعهم الخوف، من الغربان المطلوقة على مواقع التواصل الاجتماعى، من قولها.

ومن لا يمنعه خوفه.. تغريه «اللايكات» التى يحصدها على «بوستات دعم المقاومة»!

ويا ويل لأمة هؤلاء مثقفوها ومفكروها.