السبت 07 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

القلم لا يزال فى جيبى.. كيف صنعت الحروب أدبًا برائحة البارود والدم؟

حرف

- كتابات المعارك خلقت منحى إبداعيًا يتخذ موضوعاته من وقائع وآثار القتال

- أعمالها ترصد أحداث المعارك وأبطالها وعوامل انتصارهم

- الخيال البشرى صنع قصصًا لأبطال ينتمون إلى «الآلهة» و«أنصاف الآلهة»

أدب الحرب هو الأدب الذى يتخذ من واقعة الحرب موضوعًا له، سواء، كان شعرًا، أو رواية، أو قصة، أو مسرحية. وهو أدب تبرز فيه البطولات التى يجترحها الجنود، كما تبرز فيه مآسى الحرب وويلاتها من دمار مادى، وتباريح جسدية ونفسية. كما يبرز فيه ما يرافق كل ذلك من معانٍ وأخلاقيات وقيم إنسانية. 

لعله من الواضح أن طرح موضوع العلاقة بين الأدب والحرب إنما ينطوى، جوهريًا، على الإيمان بأن الأدب مرتبط جدليًا بتحولات الواقع، ويعد انعكاسًا نوعيًا وموضوعيًا لها. فهو متأثر بتحولاتها ومنفعل بأحداثها، بيد أنه مؤثر، بالمقابل، فيها وقادر على مقاومة آثارها والتغيير فى مآلاتها. 

وعلى هذا الأساس يمكن الكشف عما ينطوى عليه هذا العنوان من جوانب واحتمالات دلالية ثلاثة، يمكن رصدها على النحو التالى: الأول: أدب الحرب، ويقصد به ذلك المنحى الإبداعى الأدبى الذى يتخذ من مشاهد ووقائع وآثار تجربة الحرب موضوعًا لعمله. أى أنه ذلك الأدب الذى يشتبك بصورة مباشرة مع الحرب، فيرصد أحداثها وأبطالها ومآثرهم والعوامل المادية والنفسية والروحية التى يمكن أن تؤدى الى انتصارهم أو هزيمتهم.

الثانى: أثر الحرب على الأدب، وهو مبحث يقوم بدراسة ما تفضى إليه الحروب من قيام ظواهر فنية جديدة، وبروز منازع نفسية وفكرية وسلوكية تهيمن على حياة وحركة الشخصيات والمتكلمين فى الأثر الأدبى، بما يجعلها تميز الخطاب الأدبى من ناحية الموضوع، والتشكيل، على السواء، بحيث يصبح أثر ما بعد الحرب على الأدب، ليس كما كان قبله، على نحو ملموس وعلى كل المستويات. 

الثالث: دور الأدب فى الحرب: وهو مبحث يقوم على رصد طبيعة الإسهامات التى يمكن أن يقدمها الأدب أثناء فترات الحروب، أو ما قبلها، أو ما بعدها، على السواء. وذلك من حيث اضطلاعه بأدوار «التحريض» على النضال، و«الكشف» عن الجوانب الداعية اليه، و«الشحن» النفسى والعاطفى، و«الاقناع» الفكرى، و«الحجاج» المعرفى... إلخ.

وتلك هى النقاط الثلاث التى ستتناولها هذه الورقة، فى محاولة لرصد السمات والتجليات التى ظهر من خلالها كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة، على حدة. سواء، ما تجسد منها فى الأعمال الأدبية المختلفة، على مختلف انتساباتها النوعية، أو مستوى ظهور مذاهب ومناح أدبية جديدة. وذلك من خلال تحديد الأعمال الأدبية الدالة على كل جانب منها، سواء كانت عربية أو أجنبية. 

ولقد آثرت البدء بتمهيد تاريخى يتناول التكوينات الباكرة للأدب المرتبط بالوقائع الحربية فى العصور القديمة، مثل الأسطورة والملحمة، التى تعد مقدمات وركائز مهمة لأدب الحرب المعاصر، فهى تعد مصدر خبرته الجمالية ومنبع رؤيته الفكرية، ومنها يستمد رموزه وأدواته وأيقوناته.

تمهيد

لا بد من التأكيد على أن الحرب قديمة قدم الإنسان. واذا كانت الحرب تمثل أعلى درجات الصراع وأكثرها سخونة، فلا بد من التأكيد أن الصراع يمثل جوهر الوجود، سواء على المستوى الإنسانى، أو الطبيعى، على حد سواء. فالصراع كامن فى كل تفاصيل العلاقة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة، وبين عناصر الطبيعة ذاتها وبعضها البعض، فى الآن نفسه. ويمكن لكل جانب من هذه الجوانب «التى يمثل طرفيها أو أحد أطرافها الإنسان» أن يحتل مرتبة الصدارة، بحيث يصبح ممثلًا للصراع الرئيسى، بينما يتوارى الجانب الآخر ليصبح فى مرتبة الصراع الثانوى. 

من هنا يكتسب الصراع سمة مركبة للغاية، بما يجعله ملتبسًا وملغزًا فى أحايين كثيرة لدى من لا يستطيع إدراك أطرافه الرئيسية والحقيقية، ومن لا يمتلك القدرة على فهم طبيعتها أو إمكاناتها، أو تمييز الصراع الرئيسى عن الصراع الثانوى فى مرحلة تاريخية أو أخرى. 

فمنذ المراحل الأولى للوجود البشرى على الأرض، وبإزاء صراع الإنسان البدائى الأعزل مع الطبيعة القاسية العنيفة، التى تبدت ظواهرها على نحو ملغز وعصى على الإدراك البسيط السائد فى ذلك الزمن السحيق، اخترع الخيال البشرى الأسطورة. محاولًا إيجاد إجابات على أسئلته وحل ألغاز ذلك الوجود. فصنع قصصًا حول أبطال ينتمون إلى الآلهة وأنصاف الآلهة titan، ممن يرمزون إلى الظواهر الطبيعية، «كالشمس والقمر والنهر والجبل والنور والظلمة... إلخ»، وكذلك ممن يرمزون إلى القيم الأخلاقية، «كالخير والشر والظلم والعدل... إلخ». وكان من الطبيعى أن يدور الصراع بين الآلهة وبعضهم البعض، مثل الصراع الذى دار بين الإله أوزوريس «إله الخير» والإله ست «إله الشر»، واستمر بعد وفاة أوزوريس وهبوطه إلى باطن الأرض «ملكًا على عالم الموتى»، ليواصل ابنه حوريس الحرب ضد الإله ست. وتلك التيمة موجودة فى كل الأساطير المعروفة فى العالم. 

كما أن الصراع يمكن أن يدور، كذلك، بين الآلهة والبشر، فعندما تغضب عليهم تقوم بصب نقمتها وعقابها على نحو دموى فادح. مثلما حدث من الإلهة المصرية القديمة «سخمت»، عندما غضبت على البشر فأعملت فيهم القتل والانتقام، ولم تفلح كل محاولات تهدئتها من قبل باقى الآلهة إلا بعد أن قدموا لها مشروب الجعة. وقصة غضب الآلهة على البشر تعد من أحد أكثر القصص شيوعًا فى الميثولوجيا على الصعيد العالمى. 

أما الملحمة فهى بناء سردى شعرى مطول يحكى قصة واقعة عظيمة أو فاصلة، تقوم على مواجهة حربية قتالية، وتعمل على إبراز مآثر بطل أو أكثر من ذوى القدرات الخارقة، وتمتلئ بالأفعال العجيبة والمشاهد الغريبة. مثلما نجد فى ملحمتى الإلياذة والأوديسا من حكاية قصة الحرب الطروادية التى استمرت لعشر سنوات ومآثر البطل الإغريقى أخيل والبطل الطروادى هكتور، وغيرهما. ونجد ما يماثل ذلك أيضًا فى السيرة الهلالية، حيث نقابل شخصية أبوزيد الهلالى الذى كان يتمتع بقدرات حربية خارقة تمكنه من هزيمة جيوش كاملة بمفرده.

وإذا كان لكل أمة تاريخها السياسى والاجتماعى، فإن لكل أمة كذلك تاريخها العسكرى، وهذا التاريخ الأخير هو الذى صنع التاريخين السابقين وحافظ على بقاء الأمة واستمرارها. ولذا فإن لكل أمة ملاحمها وسيرها الحربية التى تنزلها أحيانًا منزلة الكتب المقدسة والمثال الأوضح على ذلك هو ما تمثله ملحمة «كاليفالا» بالنسبة للأمة الفنلندية. ولا يقل عن هذه المنزلة ما تمثله «الراميانة» الهندية، و«الشاهنامة» الفارسية، و«الإلياذة» اليونانية، و«أنشودة رولان» الفرنسية، وملحمة «بيوولف» البريطانية، وسيرة «على الزيبق» المصرية. فالملحمة هى حافظة هذا التاريخ العسكرى وحارسة القيم التى يتضمنها، وهى القيم نفسها، التى تمثل، قيم الأمة بكاملها، كما تمثل مرتكز بنائها الأخلاقى والثقافى.

ولأن الملحمة جاءت فى بناء قصصى شعرى ملىء بالخوارق والمعجزات فلقد كانت مناسبة تمامًا لطبيعة الوعى السائد فى عصور ما قبل الحداثة، حيث كانت تهيمن الأفكار الخرافية والأسطورية، كما كان الفرد مرتبطًا بقوة بالجماعة فيما عرف «بالوحدة البدائية بين الفرد والجماعة»، وهى وضعية اجتماعية تاريخية تقوم على عبادة الملوك والأبطال وتنسب اليهم كل ما هو عجيب وخارق. وعندما جاء التحول التاريخى الكبير المتمثل فى الثورة العلمية والتكنولوجية وظهور مفهوم الدولة المدنية الحديثة، حيث حل القانون محل العرف وحلت الدولة محل القبيلة أو الجماعة وحل العلم محل الخرافة، وتمت تحرير الفرد من ربقة التبعية للجماعة بظهور مفهوم الفردية indvidwalism، حينئذ كان لا بد للملحمة أن تتراجع مع انحلال المجتمع القديم الذى أفرزها، لتحل محلها «الرواية»، بوصفها النوع الأدبى الذى يقدم بطلًا عاديًا تحكمه ضرورات الحياة المعيشية اليومية، بالتالى كان من الطبيعى أن تتم كتابتها نثرًا بدلًا عن شعر الملحمة. فالعصر الحديث ليس عصرًا شعريًا بالمعنى المجازى للكلمة، بل عصرًا نثريًا بامتياز. بيد أن رواية الحرب وإن جاءت نثرية فإنها تعد أقرب أنواع النثر إلى الشعر الملحمى. 

أدب الحرب

لعل من أبرز الأعمال التى ارتبطت بالحرب فى عصرنا الحديث رواية «الحرب والسلام» لليو تولستوى، وما تبعها من أعمال كبرى فى الأدب الروسى، خاصة إبان وبعد الحرب الوطنية العظمى «الحرب العالمية الثانية»، حيث ظهرت أعمال كل من ميخائيل شولوخوف، ويورى بونداريف ونيكولاى أوستروفسكى، وغيرهم كثيرون. ومنها أيضًا، أعمال فيركور «رواية صمت البحر» وأشعار كل من بول إيلوار ولوى أراجون، فى فرنسا، وأعمال أرنست هيمنجواى، وجون شتاينبك، وجراهام جرين، وإيريك ماريا ريماك، فى الولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك أعمال الكاتب اليونانى نيكوس كازانتزاكيس، وبخاصة روايته الملحمية «الحرية أو الموت». ورواية الكاتب الإنجليزى جورج أورويل التى كتبها عن الحرب الأهلية الإسبانية «الحنين إلى كتالونيا». 

وفى مصر سنجد رواية يوسف إدريس «قصة حب»، وكذلك روايتا يوسف السباعى: «العمر لحظة وطريق العودة». وسنجد لإحسان عبدالقدوس رواية «الرصاصة لا تزال فى جيبى»، و«أبناء الصمت» لمجيد طوبيا، و«الرفاعى، وأرض أرض، والغريب» لجمال الغيطانى، و«الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازى، و«عبر الليل نحو النها» لمحمد الراوى.

حيث تتبدى فى كل هذه الأعمال عدد من الظواهر الفنية والفكرية، يمكن إجمالها فيما يلى:

• هيمنة أفكار البطولة والكفاح والحرية بوصفها السبيل الوحيد للبقاء والعثور على معنى للحياة.

• الصراع الخارجى مع العدو يصاحبه صراع داخلى مع الذات ونوازعها، وإبراز أهمية مواجهة الضعف الإنسانى.

• الناس العاديون يمتلكون صفات البطولة وامكانيات القيام بأعمال خارقة وهم لا يدركون ذلك فى أنفسهم.

• بروز المنحى الملحمى الذى يمجد البطولة ويرصد إمكانية ظهور أعمال خارقة من بشر عاديين.

• الاهتمام بالوصف لميادين المعارك والمشاهد الجانبية المصاحبة، وكذلك الاهتمام برصد المشاعر الداخلية والعوالم النفسية للأبطال.

• يتميز البطل غالبًا بوجود ما يمكن أن يمنعه من تحقيق مهمته ولكنه يتغلب عليه وينجز المهمة بتضحيات جسيمة.

• أحيانًا يتم استدعاء رموز وعناصر كامنة فى الوعى الشعبى وتظهر دلالاتها إبان المعارك الكبرى. مثل الرموز الدالة على الأم أو الزوجة أوالوطن.

• أثر الحرب على الأدب

لا بد من التأكيد أن الأثر الأبرز للحرب هو ما تتسبب فى حدوثه من أوضاع فجائعية ومأساوية قد لا تندمل سريعًا، وغالبًا ما يتولد عنها أسئلة وجودية كبرى، من قبيل: معنى الإنسانية، وقيمة الإنسان، ومعنى الوجود، وعبثية الأقدار، وتفاهة المصائر.

ولذلك كثيرًا ما يصاحب الحرب تغيرات فكرية وفنية وأدبية وأخلاقية وسلوكية كبرى. مثل إعادة اكتشاف الوجودية على أيدى جان بول سارتر إبان الفترة فيما بين الحربين العالميتين وما بعدهما، وكذلك ازدهار الماركسية والأناركية إبان الفترة ذاتها.

أما على المستوى الأدبى فيمكننا رصد ظهور ثلاثة اتجاهات أساسية:

الأول: ظهور ما عرف بالطليعة الأدبية avantgard، وهى تلك الاتجاهات التى تمثلت فى المدرسة السيريالية مع عرض مسرحية جيروم أبوللينير: «نهدا تريزياس»، وكذلك عرض مسرحيتى ألفريد جارى: «أوبو شريدًا» و«أوبو ملكًا»، وكذلك أنتونين أرتو و«مسرح القسوة». وظهور ما عرف باسم الرواية الجديدة لدى كل من: فيرجينيا وولف، وجيمس جويس، وناتالى ساروت. وكذلك ظهور مسرح العبث لدى كل من يوجين يونيسكو وصمويل بيكيت وآرثر أداموف وهارولد بنتر وغيرهم.

الثانى: ظهور المسرح الملحمى: والأعمال التحريضية والتثويرية، فيما عرف بالظاهرة البريختية، وهى ظاهرة مناقضة بالتأكيد للظاهرة العبثية السابقة.

الثالث: تكريس النزعة الإنسانية: وهى تلك النزعة التى ظهرت بجلاء فى الأدب الروسى، مثلما نجدها فى رواية «مصير إنسان» لميخائيل شولوخوف. وهى نزعة تقوم على تمجيد الإخاء الإنسانى والتساند النفسى والتعاطف الروحى. ويندرج ضمن تلك النزعة أعمال كل من فيردريكو جارثيا لوركا، وناظم حكمت، وجمال الغيطانى ومحمد الراوى.

خاتمة

يمكن أن نجمل ما تقدم فى أن الحرب إنما هى حدث استثنائى فى التاريخ البشرى، ولكنها على الرغم من ذلك فإنها قادرة على إحداث تغيرات كبرى فى حياة البشر وأفكارهم وسلوكياتهم. وكذلك، فى مجال الأدب والفن. وهذا التأثير قديم قدم الوجود الإنسانى، فالحرب هى التى صنعت التاريخ، وغذت ظهور الأساطير والملاحم. وفى العصر الحديث ظهر مفهوم «أدب الحرب» بقوة، خاصة منذ قيام الثورة الفرنسية وما تلاها من الحروب النابوليونية «غزو روسيا» وما تلا ذلك من الحربين العالميتين والحروب التى تبعتهما مثل حرب فيتنام والحرب الكورية وحروب الشرق الأوسط. وقد حظيت تلك الحروب بمعالجات فنية وتناول أدبى واسع النطاق، تمثل فى الكم الكبير من الأعمال الأدبية التى عالجت موضوع الحرب وعلى مستوى مختلف الأنواع الأبية «شعر قصة رواية مسرحية»، حيث كان لتناول هذا الموضوع دور كبير فى ظهور كثير من الظواهر الفنية والمناحى الخطابية التى اختصت بها تلك الأعمال.

ولقد كان للحرب أثر كبير فى ظهور الكثير من الاتجاهات الفكرية الجديدة وإعادة الحياة لاتجاهات فكرية سبقت الحرب. مثل الوجودية والماركسية وأفكار العبث والتمرد. وظهر فن وأدب الطليعة مثل الرواية الجديدة ومسرح العبث. وكذلك ظهر، على النقيض، أنواع من الأدب الثورى والتحريضى. كما ظهر أيضا ما عرف بالنزعة الإنسانية فى الأدب.