الأحد 06 يوليو 2025
المحرر العام
محمد الباز

جيفرى ساكس: «سى آى إيه» و«الموساد» جيوش خفية تتحكم بمصائر العالم

جيفرى ساكس
جيفرى ساكس

- ترامب يتفاوض مع العالم بمبدأ: إما أن توافقوا على شروطنا أو ندمركم!

- الشرق الأوسط يحترق بقيادة تحالف أمريكى إسرائيلى «لا يشبع من سفك الدماء»

- الإدارة الأمريكية الحالية جعلتنا نعيش واقعًا من عالم روايات جورج أورويل!

- الولايات المتحدة تحولت إلى آلة تشعل الحروب بأكثر من تريليون دولار سنويًا

فى 13 يونيو الماضى، بعد ساعات من الهجوم الإسرائيلى المفاجئ على إيران، استضاف القاضى والصحفى الأمريكى أندرو نابوليتانو، فى برنامج «Judging Freedom»، البروفيسور الأمريكى جيفرى ساكس، الاقتصادى والسياسى البارز، للتعليق على تطورات هذه الحرب المشتعلة.

وفى الحوار المهم للغاية، الذى تترجمه «حرف» كاملًا فى السطور التالية، كرّر البروفيسور «ساكس» ما سبق أن أكّده وشدد عليه مرات عدة، بأن هناك مخططًا إسرائيليًا لإسقاط 7 دول فى الشرق الأوسط، وأن إيران، هى آخر تلك الدول فى هذا المخطط.

■ ما رأيك فيما حدث فى ١٣ يونيو؟

- أنا فى حالة من الذهول والصدمة مما حدث. كان من المفترض أن تُستأنف جولة جديدة من المفاوضات النووية بين الولايات المتحدة وإيران، غير أن ما جرى فاجأ الجميع، فإسرائيل، وبالتنسيق المسبق مع الولايات المتحدة، شنت حربًا ضد إيران، فى وقت لا تزال فيه المفاوضات جارية. لقد انهارت الدبلوماسية بالكامل فى عالمنا اليوم، ولم يتبقَ سوى منطق الحرب والقوة، وهذا واقع محبط إلى أقصى درجة.

رد فعل «ترامب»، إلى جانب الموقف الأمريكى الرسمى، يؤكدان أن ما حدث لم يكن عملية إسرائيلية منفردة، بل عمل مشترك مع واشنطن. «ترامب» يعلن بوقاحة: هل رأيتم؟ إسرائيل قادرة على تدميركم. ستقضى عليكم جميعًا. إما أن توافقوا على شروطنا، أو فانتظروا الأسوأ!

هكذا تبدو «المفاوضات» على الطريقة الأمريكية، ابتزاز بالقوة، وتهديد صريح بالإبادة. هذه ليست دبلوماسية، بل فاشية مُقنّعة، تطرف رهيب، ينقض كل ادعاءات «ترامب» السابقة بأنه «رئيس السلام». ما يفاجئنى حقًا هو مدى تطرفه وكذبه الفاضح فى كل ما قاله عن السلام.

لقد مرّ العالم بتجارب مشابهة من قبل، وكان مصيره حربًا عالمية. وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فنحن نسير بخطى ثابتة نحو كارثة عالمية جديدة.

تشير تقارير قادمة من إسرائيل إلى أن العملية اعتمدت على تهريب طائرات مُسيّرة إلى داخل إيران على مدى سنوات، وفُعّلت مؤخرًا. هذا السيناريو يذكّرنا بما حدث مؤخرًا فى أوكرانيا، حيث نُفذت عمليات مشتركة بين «الموساد» وجهاز المخابرات الأوكرانى استهدفت مواقع استراتيجية روسية. وبنفس الأسلوب، يُعتقد أن «الموساد»، بالتعاون مع «سى آى إيه»، قاد عملية واسعة النطاق داخل إيران، استهدفت مواقع عسكرية وشخصيات قيادية.

■ مَن الذى سيوافق على التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية وهو يعلم أنها تخطط لشن هجوم أثناء التفاوض؟

- الرئيس «ترامب» لم يترك مجالًا للشك، فقد أعلن بصراحة عن أن ما جرى كان عملية مشتركة بين أمريكا وإسرائيل. أما ماركو روبيو وزير الخارجية، فهو لم يقل الحقيقة يومًا. وحكومتنا باتت عاجزة عن قول الصدق. أصبح من العبث الاستماع لأى من هؤلاء الناطقين باسم الإدارة، فهم لا ينقلون الحقائق، بل يروّجون روايات السلطة. بل إن المتحدث باسم وزارة الخارجية فى إدارة «بايدن»، مات ميلر، اعترف، قبل أسابيع، قائلًا بوضوح: «نعم، ما قلته على منصة وزارة الخارجية لم يكن صحيحًا. فوظيفتك كمتحدث باسم الحكومة هى أن تمثلها، لا أن تقول الحقيقة».

فماذا بقى لنا أن نفعل؟ نستمع إلى هذه التصريحات وكأننا نعيش فى عالم روايات جورج أورويل، حيث الأكاذيب تُعرض على أنها حقائق. على الأقل، الرئيس «ترامب» لا يموّه تهديداته، بل يقدّمها كنكتة سوداء: «سنقتلكم جميعًا إذا لم تطيعونا. لقد أنذرتكم. لدينا أسلحة فتاكة، وسنستخدمها. سندمّركم... لكن، لا شأن لنا بالأمر!».

هذا المنطق صادم ومفزع. هم يتصورون أن العالم يمكن أن يعمل بهذه الطريقة: لا دبلوماسية، ولا مفاوضات حقيقية. كل شىء مجرد تمثيلية رديئة. نتحاور، نعم، لكن إذا لم توافق، سنقضى عليك. هذا هو منطق «ترامب»، وهذا ما ينطق به بعض أكثر أعضاء مجلس الشيوخ تعطشًا للحرب. ليندسى جراهام، على سبيل المثال، قالها صراحة: «اللعبة بدأت، صلّوا من أجل إسرائيل»، فى تغريدة حققت ١٤ مليون مشاهدة، وكأن الحرب مجرد لعبة إعلامية.

هذه الولايات المتحدة اليوم، دولة لا تكفّ عن إشعال الحروب، آلة حربية تُنفق أكثر من تريليون دولار سنويًا، يديرها جهاز سرى محصّن من أى مساءلة، تغلفه الأكاذيب والمراوغات. «سى آى إيه»، «الموساد»، وكل ما يُسمّى بأجهزة الأمن، هى فى الحقيقة جيوش خفية تتحكم بمصائر العالم، بينما البقية مجرد واجهة، كلمات فارغة وخطابات بلا مضمون.

■ بروفيسور ساكس ظن البعض أن «ترامب» سيتبنى سياسة انعزالية أقرب لمبدأ «أمريكا أولًا» تُبعده عن المحافظين الجدد لكن ما حدث أظهر العكس: هيمنتهم تعززت، و«ترامب» نفسه شارك فى التضليل، كما علم بهجوم المسيرات الأوكرانية ضد روسيا.. فى رأيك هل لا يزال بالإمكان الوثوق برئيس أمريكى فى أى مفاوضات دولية؟

- لا أعتقد أن الثقة كانت موجودة بالأساس، لكن يبدو أن هذه الأنظمة تنظر إلى مفهوم الثقة نفسه باعتباره نوعًا من السذاجة. ما يعنيهم هو شىء واحد فقط، القوة.. الفتك.. القدرة على القتل.

فى الوقت ذاته، إسرائيل تمضى فى تنفيذ إبادة جماعية علنية، مدعومة بتصفيق وتشجيع صريح من أعضاء «الكونجرس» الأمريكى. لا يمكنك إلا أن تتساءل، هل يمتلك «الموساد» ملفات لابتزاز هؤلاء؟ أم أنهم ببساطة لا يدركون ما يفعلونه؟ يصعب الجزم، لكن المؤكد أن المخاطر فى هذا العالم باتت غير مسبوقة.

■ فى ٢٠ يناير، أعلن الرئيس الأمريكى، فى خطابه، عن أن إدارته ستقيس نجاحها «ليس فقط من خلال المعارك التى ننتصر فيها، بل من خلال الحروب التى ننهيها، وربما الأهم: الحروب التى لن نخوضها أصلًا»، لكن الواقع يُكذّب هذا الادعاء، فهذه الإدارة تموّل الإبادة الجارية فى غزة بمعدلات تفوق حتى إدارة «بايدن»، وتواصل دعم حرب تبدو عبثية فى أوكرانيا، بل وتورطت بشكل مباشر، بالتمويل والتخطيط، فى الهجوم الأخير على إيران. ألا يكشف هذا التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة أن الحديث عن مناهضة الحرب مجرد واجهة وادعاء؟

- نحن فى خضم حرب تتسع رقعتها، وفى الوقت نفسه نشهد انهيارًا للدبلوماسية العالمية. رأيت للتو بيانًا للحكومة الفرنسية تقول فيه: «لإسرائيل الحق فى الدفاع عن نفسها». كم تبدو فكرتها غريبة حول «الدفاع عن النفس». لكنها نفس الكلمات، نفس العبارات، تتكرر بين تلك الدول التى تُشكّل جزءًا من هذا التحالف الحربى. التحالف الذى تقوده الولايات المتحدة، وتنفذه إسرائيل، وتدعمه ألمانيا رغم تاريخها، وفرنسا وبريطانيا. هذا هو «تحالف الحرب». وإن استمررنا بهذا الاتجاه، فسيؤدى إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة.

■ هل تعتقد أن الهدف الحقيقى هو تغيير النظام فى إيران، وهو أمر أدان «ترامب» فكرته كثيرًا خلال حملته الانتخابية؟

- أنا متأكد أن هذا هو الهدف. مرة أخرى، ما يميز السياسة الخارجية هو أنها تقوم على ثوابت عميقة تستمر لعقود. ما نشهده اليوم فى أوكرانيا هو تنفيذ لحلم قديم لـ«سى آى إيه»، من تسعينيات القرن الماضى. وما حدث الآن فى إيران هو تنفيذ لخطة مشتركة بين نتنياهو والولايات المتحدة، كُشف عنها عام ١٩٩٦ تحت عنوان «A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm» أو «الفصل الحاسم، استراتيجية جديدة لتأمين الدولة»، وتتضمن قائمة بأهداف حربية سبق أن تحدثنا عنها كثير، وهى قائمة السبع دول المخطط إسقاطها: «العراق، سوريا، لبنان، السودان، الصومال، ليبيا، والسابعة إيران». والآن بدأ الهجوم على إيران، واكتملت القائمة. 

هذه استراتيجية طويلة الأمد. الرؤساء يأتون ويذهبون، لكنهم لا يملكون القرار. يُملى عليهم ما يفعلونه. أما «ترامب»، فالله أعلم ماذا يعرف أو لا يعرف، أو بماذا يفكر. الحقيقة أن كل ذلك غير ذى صلة تقريبًا.

الواقع هو أن هذه سياسة أمريكية طويلة الأمد، ويتم تنفيذها الآن، وهى كارثة كاملة. لقد زُعزع استقرار الشرق الأوسط برمّته بسبب هذا «التحالف الصهيونى المتطرف»، المكوّن من ليندسى جراهام وريتشارد بلومينثال وتوم كوتون. بالإضافة إلى «سى آى إيه» و«الموساد»، ومن يمكن إضافته إلى هذه القائمة، لدينا الآن حروب مشتعلة عبر شمال إفريقيا والقرن الإفريقى والشرق الأوسط، وإبادة جماعية فى غزة، وحرب فى إيران، كلها جزء مما يسمى بخطة «الفصل الحاسم».

■ رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو خرج مؤخرًا بتصريحات حادة، تحدّث فيها عن «خطة إيرانية جديدة لتدمير إسرائيل»، وزعم أن بلاده «سحقت حماس»، و«أسقطت نظام الأسد»، و«دافعت عن جيرانها العرب»، فى مواجهة ما وصفه بـ«الفوضى وسفك الدماء الإيرانى». وفى السياق ذاته، حاول تقديم نفسه كمنقذ لشعوب المنطقة، بل ووجّه خطابًا إلى الشعب الإيرانى يفرّق فيه بينهم وبين ما سماه «الديكتاتورية الوحشية» الحاكمة منذ ٤٦ عامًا. برأيك، أليس هذا الخطاب نموذجًا واضحًا لما يُعرف بـ«الإسقاط السياسى»، إذ إن الصفات التى نسبها لإيران من فوضى وقمع وديكتاتورية تنطبق بشكل صارخ على سياساته هو؟

- أعتقد أن «نتنياهو» يقود إسرائيل نحو نهايتها، نحو دمار محتوم. لقد تحولت الدولة إلى كيان فاشى خارج عن القانون، يرتكب مذابح جماعية بلا رادع، وكل يوم يزداد الوضع سوءًا. ما نراه اليوم أقرب إلى سيناريو كتبه جورج أورويل بنفسه، الواقع فى إسرائيل مشوّه بالغطرسة والوقاحة والوهم.

تصوّر أن إسرائيل، الدولة التى لا يتجاوز عدد سكانها ٨ ملايين، تقول لشعب يفوق تعداده ١٠٠ مليون: «نحن أنقذناكم!»، أى منطق هذا؟ إسرائيل تدّعى أنها منقذة للشعب الإيرانى؟ هذا وهم خالص، مجرد خيال المرضى، تجسيد للفاشية فى أوضح صورها. إن الرسالة التى تحملها هذه التصريحات فى جوهرها واضحة: «سنفرض شكلًا جديدًا للشرق الأوسط، على صورتنا... وبقوة السلاح».

■ هل تعتقد أن مواجهات جديدة قادمة فى الشرق الأوسط؟

- ما أؤمن به أن السياسات التى تنتهجها إسرائيل، على المدى البعيد، ستُفضى إلى موجة متصاعدة من الكراهية واليأس والرفض، موجة سيكون لها أثر مُدمر على إسرائيل نفسها فى نهاية المطاف. ما نشهده من تحولات فى نهج ذلك البلد بلغ درجة من الفظاعة يصعب وصفها، ويكاد يكون بشعًا إلى حد لا يُصدّق.