الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سعد عبدالرحمن

سعد عبد الرحمن
سعد عبد الرحمن

كلنا كلنا بـ نمر بـ حالات مختلفة تبان على وشوشنا: نضحك، نبتسم، نكشر، وجوم، عبوس، غضب، روقان، ... إلخ إلخ، وكل واحد فينا أكيد بـ يمر بـ كل الحالات دى حسب الموقف اللى هو فيه، مفيش حد له تعبير ثابت دائم طول الوقت وعلى أى حال، مفيش.

لكن مع إنه مفيش، فـ إحنا لما بـ نيجى نفتكر فلان، عادة الذاكرة بـ تستدعيه على حالة من دول دون غيرها، فى كل مرة نفتكره، يعنى «س» أول ما ييجى فى بالك، دايمًا تيجى صورته غضبان، و«ص» بـ تيجى صورته قلقان، و«ع» تيجى صورته مبوّز، وسعد عبدالرحمن دايمًا بـ أستدعى صورته ووشه عليه ابتسامة عريضة.

الصورة دى بـ تتكون فى مخيلتك نتيجة فكرتك عن الشخص وما يمثله بـ النسبة لك، وابتسامة سعد جاية من فكرتى عنه كـ إنسان يستوعب دايمًا ما أمامه ويحتويه، سواء ما أمامه دا شخص أو فكرة أو موقف أو معلومة، وهو استيعاب مرتاح ومريح، يحمل الفهم لا الإدانة ولا التقييم، ويبص لـ قدام، وياخد الأمور بـ بساطة دون تهوين.

عرفت سعد وأنا فى الإعدادية، هو واحد من أساتذتى الأوائل، كنت بـ أروح قصر ثقافة أسيوط، ولسه صبى صغير، والناس اللى فى «القصر» دول بـ النسبة لى شعراء وروائيين وقصاصين ونقاد، لسه مش قادر أفهم صفاتهم الوظيفية فى الحياة، فـ ما كنتش أعرف إنه مسئول مهم، إنما أعرف إنه شاعر كبير، ومثقف واسع الاطلاع، ومحاور لا تمل جلسته.

أفتكر انبهارى أول مرة شفت مكتبته فى البيت، اللى كان مخصص لها تقريبًا شقة كاملة على ما أذكر، آلاف وآلاف الكتب فى الأدب والنقد والفلسفة، وكتير منها كان من كتب التراث، زى الأغانى والعقد الفريد وإحياء علوم الدين ودلائل الإعجاز وما إلى ذلك، وتقريبًا كل دواوين الشعر العربى حديثة وقديمة، وكنت بـ أسأل نفسى: معقولة قرا الكتب دى كلها؟ ومعقولة ممكن ييجى اليوم وأقرا عُشرها؟

كان مضيع فلوسه على الكتب، والحكاية دى كانت مثار تندر، اللى هو معرض الكتاب جى، فـ اللى عايز يشترى كتاب يلحقه قبل ما سعد عبدالرحمن يروح، ويخلص كتب المعرض كلها. ولو شافك سعد ماسك كتاب، أى كتاب، هـ يقول لك عنه ملحوظة فى كلمات مقتضبة، الملحوظة دى مش هـ تسمعها غالبًا من حد غيره، ولو ربنا كرمك وقريت الكتاب هـ تلاقيها مظبوطة إلى حد كبير، لـ إنها ملحوظة مش رأى فى الكتاب ولا كاتبه ولا قارئه، ويعطى لـ كل ذى قيمة قيمته مهما كان اختلافه معاه.

فضلًا عن كدا كان يحفظ آلاف الأبيات من الأشعار ويلقيها بعربية سليمة ودقيقة وصوت متزن، وكان يغيظ، مفيش شاعر ما يعرفلوش قصيدة أو أكتر غير معروفة عنه، وطبعًا حافظها.

سيبت أسيوط لما دخلت الجامعة، وخدتنى الدنيا، لكن من آن لـ آخر نتقابل، أو أكلمه، لـ حد ما لقيته فجأة بقى رئيس هيئة قصور الثقافة، وأفتكر مرة أو مرتين زرته فى مكتبه، وأنا متحفظ لـ إن الناس لما بـ يبقوا مسئولين تلاقى الواحد منهم بقى واحد تانى خالص، لكن دا ما حصلش نهائى، كان بـ نفس الابتسامة والاستيعاب والشعور العارم بـ الراحة.

إنما عارف! كل دا كوم وخفة دمه كوم تانى، لـ إنى كنت متعود على الشعرا والمثقفين الكبار إنهم ناس جد يحملون هموم الحياة أينما حلوا أو ارتحلوا، وكلهم شبه صورة أحمد شوقى الشهيرة وهو حاطط إيده على وشه مفكرًا ومتأملًا فى طبائع الحياة، إنما سعد كان ولا الهوا، جه خفيف، ومشى خفيف، لكنه ترك أثرًا لا يزول.