الإثنين 18 أغسطس 2025
المحرر العام
محمد الباز

نازلى مدكور: تركت وظيفتى فى الأمم المتحدة من أجل الفن

نازلى مدكور
نازلى مدكور

- «الشك الذاتى» لا يفارق الفنان صغيرًا أو كبيرًا.. ونصيحتى للشباب: «لا تقلقوا»

- عملى فى الفن يوميًا مثل الموظفة تمامًا.. يبدأ فى العاشرة والنصف صباحًا

- الطبيعة «معلمى الأول».. وحرصت على توثيق مسيرتى الفنية فى كتاب

- على الأجيال الجديدة التعامل مع الـ«AI» باعتباره «لاعب أشطر منهم»!

فى لحظة مصيرية وفارقة، قررت الفنانة نازلى مدكور التقدم بالاستقالة من وظيفتها كخبيرة اقتصادية فى الأمم المتحدة، لتتخذ القرار الأهم فى حياتها، وهو التفرغ بالكامل للفن، لتبدأ مسيرتها فى عالم الفن التشكيلى، وتنقش بفرشاتها الأحلام والمشاعر والهموم، فى لوحات فنية فريدة، منذ عام 1981.

وعلى مدار هذه العقود الأربعة، حرصت الفنانة الكبيرة على الإخلاص لعملها الجديد وشغفها الأول، الفن، وطوعت لأجله الطبيعة والخيال لتعبر عن رؤيتها للعالم من خلال أعمالها الفنية. وبعد هذا المشوار الفنى الطويل، تُكرِمها اليوم الدولة بواحدة من أرفع جوائزها، وهى جائزة الدولة للتفوق فى مجال الفنون لعام 2025.

بهذه المناسبة، أجرت «حرف» الحوار التالى مع الفنانة التشكيلية نازلى مدكور، للتعرف عن قرب على مسيرتها الإبداعية الممتدة عبر عقود.

■ بداية.. ما شعورك بعد الفوز بجائزة الدولة للتفوق؟

- جائزة الدولة هى أهم تكريم للفنان، فأهم تقدير يكون من أهل البلد أولًا. كما أن اختيارى جاء من خلال تصويت مجموعة من المثقفين والعلماء والفنانين والأدباء، وهذا شىء يزيد من سعادتى.

■ من دراسة الاقتصاد والعلوم السياسية إلى الفن التشكيلى.. لماذا هذا التحول؟

- حينما انتهيت من الثانوية العامة، كانت نتائجى تسمح لى بدخول كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، التى نصحتنى أسرتى بدخولها، وترك الفن لوقت الفراغ، اقتنعت بهذا الرأى، ودرست الاقتصاد وبالفعل حتى تخرجت، ثم أجريت دراسات فى إدارة الأعمال بالجامعة الأمريكية، وحصلت على ماجستير فى الاقتصاد السياسى، لأعمل بعدها فى مكتب الأمم المتحدة بالقاهرة، ثم فى مركز التنمية الصناعية التابع للجامعة العربية، وكانت وظيفتى بهما «خبيرة اقتصادية».

بدأت الاشتراك فى عدد من دروس الرسم سعيًا للاهتمام بهوايتى الأولى، لكننى وجدت أن الفن مجال كبير، ولا يمكن أخذه بهذه الخفة، فبدأت أدرس تاريخ الفن فى الجامعة الأمريكية، وقرأت الكثير من الكتب حول فلسفة الفنون، وسافرت لرؤية المتاحف والتعمق أكثر فى الفن.

سافرت إلى إيطاليا فى دراسة صيفية للفن، وبدأت أرسم وأعرض أعمالى، وما شجعنى على المواصلة أننى وجدت نجاحًا كبيرًا لأول معرض فنى لى، وردود أفعال إيجابية وتجاوبًا للناس معى، وهو ما جعلنى اتجه إلى الفن بشكل نهائى.

■ لكن هذا قرار مفصلى فى حياتك وليس سهلًا أبدًا.. هل كان تدريجيًا؟

- بالطبع، فمسألة ترك العمل بالكامل، بعد سنوات من الإعداد الأكاديمى، أخذت منى بعض الوقت، نحو ٧ أو ٨ أشهر، حتى اتخذت قرارى النهائى بالتفرغ الكامل للفن، والحمد لله، ظروفى وقتها كانت تسمح لى بالتخلى عن وظيفتى وراتبى.

■ كيف يبدو يومك كفنانة تعمل بدوام كامل فى مجال الفن؟ 

- أخرج من بيتى لعملى كل يوم مثل الموظفة تمامًا، فى الـ١٠:٣٠ صباحًا أكون فى مرسمى، وأستمر هناك حتى ٣:٣٠ أو ٤ مساءً، وخلال هذه الفترة أكون فى حالة انفصال كامل عن العالم، ولا أحتاج سوى لفنجان قهوة.

أعود إلى المنزل، وأستريح لوقت قليل، ثم أعود لاستكمال قراءاتى فى عالم الفن، إلى جانب متابعة المعارض والمتاحف والأعمال الفنية بصريًا من خلال الإنترنت، بعد أن كانت مراجعى فى السابق الكتب والمجلات الفنية، وقراءة مقالات حول أساليب النقد الحديثة وفلسفة الجمال والطرق الفنية الحديثة.

■ هل من المهم أن يكون الفنان متابعًا جيدًا لكل ما هو جديد فى عالم الفن؟

- بالتأكيد، هذا شىء أساسى، فلا بد أن يعرف الفنان أين موضعه الآن؟ ولماذا؟ الفنان حينما يتابع أعمال الفنانين فى الغرب وتاريخهم مثلًا، يمكنه أن يدرك لماذا أقدموا على رسم هذه اللوحات؟ هل كان رد فعل لحدث ما أم تطورًا تاريخيًا طبيعيًا لفنهم؟ كما أن هذه القراءات والمتابعة الفنية، يمكن أن نعتبرها من «مُدخلات» الفن نفسه، والتى «تُعجَن» مع أشياء أخرى كثيرة لدى الفنان، مثل ثقافته البصرية وتاريخه الأسرى وتجاربه الحياتية، لتخرج فى صورة أعمال فنية مختلفة.

■ هل هناك فنان أو فنانة يؤثر فيكِ أكثر من الآخرين؟

- عادة، لا يوجد فنان تعجبنى كل أعماله، وإنما تعجبنى أعمال بعض الفنانين. يعجبنى مثلًا فنان ألمانى اسمه Keifer، ودنماركى اسمه Per Kirkeby، والألمانى Gerhard Richter، ومع ذلك، لدى هؤلاء الفنانين أعمال لا تعجبنى، فليس كل أعمال الفنان على نفس مستوى الإبداع، وهذا طبيعى، حتى بيكاسو ومونيه ليس كل أعمالهما هائلة، ولديهما أعمال غير جيدة.

■ ما سر اختيارك للطبيعة كمصدر إلهام للوحاتك الفنية؟

- بدأت الرسم برسم الطبيعة لأننى لم أحصل على تعليم أكاديمى فى الفن، فقلت لنفسى حينها: «هتعلم من الطبيعة». أنظر إلى الطبيعة وأنقل منها النخيل والبيوت الريفية، أذهب إلى الواحات بعيدًا عن زحام المدينة لفعل ذلك.

فى المرحلة الثانية، بدأت آخذ عناصر من الطبيعة وأشكلها مثلما أريد. أما المرحلة الثالثة فتضمنت أخذ مخزون من الطبيعة حولى، ثم التعبير عنها بمشاعرى تجاهها، وهذه حالة مستمرة معى، لكنها تأخذ أشكالًا مختلفة، لأن الفنان يتغير باستمرار، فكل مرة أتعرض للطبيعة تكون بشكل مختلف وجديد.

■ هل هناك لوحات معينة لكِ هى الأقرب لقلبك؟

- لا، لأن كل لوحة تقدم جزئية من الفنان، لكن هناك لوحات أرى أنها قدمت علاقات تجمع بين عدد من العناصر الفنية، وحققت حالتى وقت رسمها. وللعلم، لا أكتب أسماءً على لوحاتى. طوال مسيرتى، هناك ٥ أو ٦ لوحات فقط منحتها أسماء، لكن عادة لا أُسمى لوحاتى، وأفضل أن يستقبل المتلقى العمل الفنى دون توجيهه، حتى أمنحه قدرًا من الحرية لكى يضيف مشاعره هو، ويتذوقها من أدواته الخاصة.

■ لكل فنان مدرسة أو خط معين.. فما أكثر شىء يميز أسلوبك الفنى؟ 

- يُعرف عن أسلوبى الفنى استخدام خامات كثيرة، أضيف هذه الخامات على سطح اللوحة، أو من خلال رسم نتوءات أو ارتفاعات أو حفر. أحب إضافة ناحية حسية للوحة، وأظن أنها حالة نسائية أكثر، مثلما نذهب نحن كسيدات لشراء القماش على سبيل المثال، فنحب أن نجسّ القماش، ويكون للملمس دور فى أن يجعلك داخل الشىء نفسه، ويمنحك الكثير من المعانى التى تضيف إلى الشكل الخارجى.

■ من خلال سفرك لمعارض عديدة حول العالم.. هل هناك طبيعة بلد ما أثرت عليكِ بصريًا؟

- همى الأساسى رسم الطبيعة المصرية، إنما البلاد الأخرى لم تؤسرنى لرسمها كاملة. رأيت أماكن جميلة دخلت لاحقًا فى أعمالى بالطبع، أذكر منها فيتنام، التى تضم أماكن خرافية، وأيضًا اليابان والمكسيك. والحمد لله، سافرت لبلاد كثيرة وقدمت بها أعمالى، من أمريكا حتى الصين واليابان، ومرورًا بأوروبا، ومنها إيطاليا التى جذبتنى جدًا، وكذلك إسبانيا. أى بلد يذهب إليه الفنان يبحث به عن جماليات مختلفة، وكل بلد لديه جماله الخاص.

■ قدمتِ أعمالًا تعبر عن المرأة المصرية.. فما الذى ألهمك لذلك؟

- هذه حقيقة، قدمت الكثير من الأعمال الفنية عن المرأة، ورسمت وجوهًا عديدة لها، من الصعيد إلى الواحات، وقدمت ٣ أو ٤ معارض فنية كاملة عن المرأة. أرى أن المرأة المصرية متنوعة جدًا، وهذا ثراء فى حد ذاته، فالمرأة فى الصعيد غير فى القاهرة غير وجه بحرى والإسكندرية، ودائمًا أجد لديها الكثير من القوة والقناعة فى الوقت نفسه، وأحيانًا هذه القناعة تكون زيادة عن اللزوم ما يجعلها لا تتحرك إلى الأمام.

وإلى جانب اللوحات، قدمت أيضًا كتاب «المرأة المصرية والإبداع الفنى»، والذى انصب اهتمامى فيه على المرأة، وتحديدًا «الفنانة»، فتاريخ الحركة الفنية فى مصر يزخر بعدد من الفنانات اللواتى لديهن بصمة مهمة جدًا، مثل تحية حليم وجاذبية سرى وإنجى أفلاطون وعفت ناجى ومارجريت نخلة، وغيرهنّ من رائدات الفن التشكيلى المصرى.

المرأة المصرية أدت دورًا رئيسيًا وأساسيًا فى الحركة الفنية التشكيلية وما زالت. وحاليًا هناك جيل جديد من الفنانات الشابات يؤدين أدوارًا كبيرة فى الفن التشكيلى، سواء فى التصوير أو الرسم أو النحت، وأرى أن هناك فى نهضة جيدة فى المجال الفنى الحالى بالنسبة للفنانات.

■ هذا الحديث يأخذنا للتحديات التى تواجه الفنانات المصريات.. ما أبرزها من وجهة نظرك؟

- الفنانات المصريات موجودات على الساحة الفنية، لكننى أرى أن حركة الفنانين الرجال أكثر حرية، من خلال تنظيم المعارض واللقاءات وغيره، لأن المصريات لديهن مسئوليات اجتماعية كثيرة فى المجتمع، مثل أدوار الأمومة والرعاية وغيرها. أجد فى بعض الأحيان أن المرأة يمكن أن تضحى بفنها فى سبيل أسرتها وتربية أطفالها، وحينما تقرر العودة إلى المجال الفنى يكون ذلك مرهقًا، فليس من السهل اتخاذ خطوة كتلك فى هذا المجال.

■ طغت على حياتنا التكنولوجيا والحياة السريعة، وأصبحت مقاطع الـ«تيك توك» و«الريلز» فى كل مكان.. ما دور الفن التشكيلى فى خلق التوازن الذى يحتاجه الإنسان؟

- الفن التشكيلى أو الرسم سيظل يصارع كل هذه الأساليب السريعة والجديدة و«الديجيتال»، لأن الفنان يعطى لوحته من روحه، واللوحة تبقى بها جزء من هذه الروح، والمتلقى يشعر بها، فمثلًا حينما ننظر للوحات سعيد العدوى أو محمود سعيد نشعر بروح الفنان الذى رسمها، بل نستطيع أن نستشف طبيعته وأخلاقه من لوحاته.

■ مع أم ضد الاستعانة بـ«الديجيتال» وأدوات الـ«AI» فى الفن التشكيلى؟

- هذا التطور يحدث بالفعل، ولا يوجد طريقة لوقفه، ولا بد أن يُبدع الفنانون الشباب أساليب جديدة للتعامل مع هذه الأدوات، فالأجيال الجديدة هى التى ستواجه هذا التقدم، فى ظل وجوده كلاعب معهم، بل و«أشطر» منهم فى بعض الأحيان. أنا لست ضد استخدام هذه التقنيات، لكن لا بد من استخدامها بوعى أكثر وبشطارة وفن، فيمكن مثلًا إضافة أسلوب جديد بجانب الألوان والفرش والرسم والطباعة والنحت، أو استخدام الـ«فيديو آرت» وغيره من الأدوات الجديدة.

■ لماذا حرصتِ على توثيق مسيرتك الفنية خلال الـ٤٠ عامًا الأخيرة فى كتاب خاص؟

- من المهم أن يكون هناك كتاب مرجعى لكل فنان، لأنه لا يوجد لدينا توثيق جيد للفنانين. مؤخرًا أصبح هناك وعى بأهمية التوثيق، فبدأت جهات خاصة تقدم أعمالًا جيدة، مثل الكتاب الذى يوثق مسيرة الفنان محمود سعيد على جزأين، وكتاب عن الفنان عبدالهادى الجزار، وكتاب للفنان سعيد العدوى، ومع ذلك، ليست لدينا أعمال توثيقية كافية للفنانين، لذا أرى أن الفنان لا بد أن يوثق مسيرته الفنية حتى لا تذهب هباءً.

الكتاب يضم حوارًا معى، حول أسلوبى الفنى ونشأتى فى الثمانينيات، ووجهات نظرى فى الفن التشكيلى، التى لن يستطيع أحد غيرى أن يتكلم عنها مثلى. بجانب هذا الحوار، الفنان التشكيلى الراحل عزالدين نجيب كتب تأريخًا لمسيرتى الفنية.

كما ضم الكتاب قطعة نقدية للمؤرخ الفنى العراقى فاروق يوسف، وهو من أفضل النقاد العرب، بالإضافة إلى أننى وثقت جميع المعارض الفنية التى شاركت بها.. سعيدة جدًا بهذا الكتاب لأنه يقدمنى بشكل جيد للجمهور.

■ لديكِ تجربة مهمة فى رسم رواية «ليالى ألف ليلة».. كيف تمكنتِ من نقل أفكار أديب نوبل نجيب محفوظ إلى رسومات فنية؟

- حينما اقترحت علىّ دار نشر «The Limited Editions Press» الفكرة «خضتنى شوية»، لأننى لم تكن لى تجربة سابقة مثلها، غير غلافين من أغلفة زوجى الكاتب محمد سلماوى. جلست فترة للتفكير فى الأمر، وقررت أن أرسم الرواية بشكل مختلف، على هيئة «المنمنمات» العربية القديمة، وهى الطريقة التى وجدت أنها المدخل المناسب لرسم شخصيات «ليالى ألف ليلة» التى تناولها الأديب الكبير نجيب محفوظ.

■ هل لديك خطة مستقبلية فنية قادمة؟

- أستعد لتنظيم معرض فنى، فى أبريل المقبل، أقدم خلاله أعمالى الفنية منذ فترة الثمانينيات وحتى اليوم، مع إضافة أعمال جديدة.

■ هل هناك نصيحة تودين توجيهها للجيل الجديد من الفنانين خاصة من يعانون من «الشك الذاتى»؟

- «الشك الذاتى» كلمة لا تفارق الفنان، سواء كان صغيرًا أم كبيرًا، هى كلمة تراوده يوميًا، من خلال نظرته لفنه، ما يشكل ضغطًا كبيرًا عليه، لكن من خلال هذه الحالة أيضًا يتمكن الفنان من إبداع أفضل ما لديه. لذا نصيحتى ألا يقلق الفنان من هذا الشك، بل يجعله يحاول ويستمر وينهى ما بين يديه لرسم أفضل منه.