السبت 13 سبتمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

بازل الأرشيف.. رصد الفيلم أدق التفاصيل فى مسيرة الدكتور فرج فودة

أيمن عثمان
أيمن عثمان

تتجسد الصورة الذهنية الأمثل لمفهوم الأرشيف- فى ظنى- كأنها لعبة «بازل» تتجمع وحداتها لتكوّن فى النهاية صورة واضحة المعالم، تفكّ الاشتباك عن تفاصيل حدثٍ معيّن، أو تعبّر عن مسيرة إنسان. وكلما كان الحدث أو البطل صاخبًا ومؤثرًا انعكس ذلك طرديًا على أرشيفه.

وأرشيف الدكتور فرج فودة، كصاحبه، ملأ الثمانينيات وأوائل التسعينيات صخبًا: «مؤلفاته، وأخباره، ومقالاته، ومناظراته، واشتباكاته السياسية». وربما لو التفت أحد الباحثين فى زمنه إلى هذا الزخم، لخرج بنتائج حتمية لم تكن لتبتعد كثيرًا عن مشهد الاغتيال فى 8 يونيو 1992.

منذ اللحظة الأولى التى شاركت فيها كباحث وأرشيفجى فى فيلم «فرج فودة- مفكر واجه الظلام»، من إنتاج قطاع الإنتاج الوثائقى بشركة المتحدة، والذى عُرض على قناة الوثائقية، لاحظت- من خلال الأرشيف الذى كان يزداد قيمة وحجمًا كلما تعمقنا فى تفاصيل الفيلم- متوالية أحداث لا يخطئها عقل: حدث يسلّم حدثًا بمنطق وسلاسة. وفى الخلفية زمن متماهٍ مع كل التفاصيل: صعود تيارات دينية إلى الصدارة، تفشى جرائم الاغتيال والعنف، وتحالف أيديولوجيات متناقضة تصدر رتمًا نشازًا لا يمكن أن يخرج عنه لحن موسيقى واحد. وهكذا بدا المشهد- طبقًا للأرشيف- متسقًا ومزعجًا فى آنٍ واحد.

أضرب مثالًا بانضمام د. فرج فودة إلى حزب الوفد عام ١٩٧٨، آملًا أن يجد فيه الليبرالية التى طالما أعلن عنها الحزب لعقود طويلة منذ سعد زغلول. غير أن الليبرالية غابت، وأصبحت- فى نظره- مجرد دعوى. وكان من المنطقى أن يستقيل بعد تحالف الوفد مع جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٨٤: «هل يختلط الزيت بالماء؟»؛ وهو ما رآه د. فرج فودة تخليًا من الحزب عن سياسته التاريخية. وقد صرّح لمجلة «المصور» فى عدد ٢٣ مارس ١٩٨٤: «استقلت من الوفد احتجاجًا على تحالفه مع الإخوان». لتبدأ بعدها رحلة صدام ومواجهة ومكاشفة انطلقت مع نشره كتابه الأشهر «قبل السقوط» فى يناير ١٩٨٥، لترد عليه مجلة «الاعتصام» فى عدد أغسطس ١٩٨٥ بمقال «عندما سقط صاحب السقوط»، وتلقبه بـ«طريد الوفد وعدو الشريعة». وكانت بداية الاشتباك التى استمرت ثمانى سنوات، هى كل ما تبقى من عمر د. فودة.

هذه السنوات الثمانى هى المحور الأغلب فى فيلم «فرج فودة- مفكر واجه الظلام»، إن لم تكن هى المحور الأهم فى مسيرته الشخصية، حيث يرصدها لنا الأرشيف بالاشتباكات التى لا حصر لها مع شركات توظف الأموال باسم الدين مثل الريان والسعدى، والسجالات الصحفية مع رموز الإسلاميين مثل الشيخ صلاح أبوإسماعيل والشيخ كشك، والمناظرات الشرسة فى تونس والقاهرة والإسكندرية.. اشتباكات جعلتنى كباحث أشفق على زملائى فى الإعداد والإخراج من نسج كل هذا فى بناء واحد متكامل يحكى القصة كاملة فى دقائق معدودة دون الإخلال بسياق الحدث والزمن، وقد كانوا بالفعل عند حسن الظن.

رصد الفيلم أدق التفاصيل فى مسيرة الدكتور فرج فودة، كتجربته فى خوض الانتخابات البرلمانية عام ١٩٨٧، رافعًا شعار: «مصرية مصرية.. الله أكبر.. الله محبة»، ورصدوا كيف واجه خسارته بشكل ساخر فى لقاء تليفزيونى، ثم فى مقال نشره لاحقًا فى جريدة الأهرام بتاريخ ١٠ ديسمبر ١٩٩٠ تحت عنوان «درس للتاريخ»، قال: «من منا يتذكر اسم الحاكم الرومانى الذى اضطهد أثناسيوس.. من منا يتذكر النائب الذى انتصر على أحمد لطفى السيد فى الانتخابات.. هو درس للتاريخ إذن، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».

كما رصد الفيلم تأسيسه للجمعية المصرية للتنوير عام ١٩٨٩ كرد فعل على خلفية أحداث أسيوط عام ١٩٨٨ حين اقتحم أصوليون مسرح ساحل سليم، وأريقت فيه الدماء، ليصل الصدام إلى ذروته عندما كتب مقالًا بعنوان «عريضة اتهام إلى الإخوان المسلمين أنتم تمولون من الخارج وهذا هو الدليل» الذى نشره فى جريدة الجمهورية بتاريخ ٩ يوليو ١٩٩١؛ مقال يأخذنا إلى محطة نهاية واحدة «محطة الاغتيال». لكنه قبل الوصول يتوقف الزمن لحظات أمام معرض القاهرة للكتاب فى ٨ يناير ١٩٩٢ حيث فعاليات مناظرته الأشهر والأكثر جدلية «مصر.. بين الدولة الدينية والمدنية» والتى كتب عنها فى جريدة الأحرار ٢٧ يناير ١٩٩٢ تحت عنوان «تجربة رائعة»: «فى أروع حدث ثقافى شهدته مصر فى السنوات الأخيرة احتشد أكثر من عشرين ألفًا للاستمتاع بمناظرة فكرية احتشد لها أقطاب طرفى الصراع الذى يشغل بال الحكام والمحكومين فى منطقة الشرق الأوسط كلها».. لنا أن نسأل اليوم سؤالًا مشروعًا بعد اغتيال الدكتور فرج فودة: هل كانت المناظرة بالفعل «تجربة رائعة»؟

وفى الأرشيف جوانب إنسانية لا يمكن تجاهلها، تفسر لنا بعض الكواليس الشخصية وتلقى ضوءًا على ما فى النفس من استقرار أو قلق. ألقِ نظرة سريعة عزيزى القارئ على إهداء كتاب «قبل السقوط»، وتخيل معى لحظات كتابة الإهداء وحالته النفسية: «إهداء.. إلى ولدى ياسر الذى لم أدخر له إلا المخاطرة.. توقيع/ د. فرج فودة».