ما وراء الفيــلم.. القاتل الحقيقى لـ«فرج فودة»

كان الكاتب الأمريكى «إرنست هيمنجواى»، الحائز على جائزة نوبل فى الآداب، يرى أن الكتابة يجب أن تكون مثل «الجبل الجليدى» الذى لا يظهر منه إلا عُشره، أما تسعة أعشاره فتختبئ فى الظلام تحت سطح الماء. وهو اختباء لا يخصم من الجبل الجليدى، بل يمنحه الوقار، ويكسبه العمق، ويحفز الرائى على التحليق بالخيال.
على نحوٍ متطابق، فإن نظرية «إرنست» فى الكتابة تصلح أيضًا للفيلم الوثائقى الذى يخضع لرحلة طويلة، بدايةً من لحظة الفكرة إلى ليلة العرض.. هذه الرحلة لا يظهر منها أمام المشاهد على شاشة التليفزيون إلا مسافة عُشرها الأخير، أما التسعة أعشار الأخرى التحضيرية والتنفيذية فتختبئ فى الظلام تحت سطح الماء.
هذا ما حدث فى رحلة فيلمنا «فرج فودة.. مفكر واجه الظلام». وهذا هو الجانب المتوارى من جبل الجليد:
■ بدأت الرحلة بسؤال جوهرى: ما الجديد الذى يجب أن نوثقه فى قصة د. فرج فودة؟
- كمُعدٍ للفيلم، كان علىّ أن أقدم الإجابة، فالفيلم الوثائقى ليس إعادة سردٍ لما جرى سرده فى الماضى، إذا لم يكن فى حقيبتك أسرار جديدة وشهادات حصرية وقطع خاصة مدهشة لم يعثر عليها غيرك.. فلا داعى من الاستمرار.
المكافأة الكبرى
الخطوة الأولى كانت البحث عن «أوراق القضية»، باعتبارها الوثيقة الرسمية الأولى والأهم، لمعرفة كل الأطراف والاعترافات والأقوال والملابسات. بالبحث فى قائمة المتهمين تبيّن أن أحدهم محامٍ، لكنه حصل على البراءة فى اتهامه بنقل التكليف من «صفوت عبدالغنى»، القيادى بالجماعة الإسلامية، داخل السجن، إلى المكلفين بتنفيذ العملية بالخارج «أشرف إبراهيم» و«عبدالشافى رمضان». بالبحث عن اسم هذا المحامى تبيّن أنه على قيد الحياة، ويعمل فى مكتب محاماة بإحدى عمارات منطقة وسط البلد. بمزيدٍ من التقصى تمكنت من الوصول إلى هذا المحامى الستينى. كان مترددًا فى مقابلتى، وبعد إلحاحٍ وافق على المقابلة، لكنه رفض التسجيل نهائيًا. بعد مناقشات موسعة أصر على التمسك برغبته فى عدم الظهور. شعرت بخيبة أمل، فالجهد الذى قطعته فى هذا الطريق قد ضاع.. لكن الله كافأنى وكافأ كل فريق العمل. ففى اتصال جديد لمحاولة التفاوض مع «م. أ»، قال لى: «معذرة، لن أظهر أبدًا، لأنى حصلت على براءة، وأمارس عملى اليوم فى الدفاع عن متهمين.. لكن لك معى هدية».
الهدية كانت نسخة من أوراق القضية التى تخطت ٩٠٠ صفحة، وصورة من تقرير الطب الشرعى، احتفظ بهما فى منزله لأكثر من ثلاثين عامًا.
لم تكن هدية.. استقر فى قلبى أنها مكافأة كبرى أرسلها لنا القدر.

ثلاث شهادات هامة
بعد العثور على أوراق القضية، وتقرير الطب الشرعى، كانت هناك خطوة ثانية مهمة، وهى الوصول إلى شهادات هامة لثلاثة أشخاص، كانوا أطراف مشهد الاغتيال الأخير، أو ما يمكن تسميته بـ«الماستر سين» فى لغة السينما الروائية، وهم: السائق، المحقق، الطبيب.
المفارقة الكبرى كانت مفارقة الوصول إلى «السائق/ محمد فاروق»، الذى كان حاضرًا وقت تنفيذ العملية، وطارد الإرهابيين بعد إطلاقهما النار بسيارة د. فرج فودة. لم تتوافر أى معلومات عن هذا السائق، إلا شهادته فى أوراق القضية. لم يجر أى لقاء تليفزيونى من قبل، لم يظهر فى أى صحيفة لأكثر من ثلاثين عامًا، لم يستدل على عنوان منزله، ولا وجود لاسمه فى قوائم مصادر الصحفيين. فقط أملك اسمه الرباعى، ومعلومة إقامته فى «حلوان». ذهبت إلى دليل التليفونات الأرضية، فلم يُستدل عليه، فجاءتنى فكرة البحث عنه على «جوجل»، كملاذٍ أخير، فلفت نظرى صدفة وجود أكثر من صيدلية فى حلوان تحمل اسمًا مشابهًا لاسم العائلة، فتواصلت بالأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فجاءنى الرد: «نعم، أنا شقيقه».
الشهادة الثانية، المهمة للغاية، كانت شهادة وكيل النيابة الذى باشر التحقيقات فى القضية، وهو «المستشار/ هشام حمودة»، الذى غادر أروقة النيابة والقضاء منذ فترة، وأصبح يدير مكتبًا كبيرًا للمحاماة فى مصر الجديدة، للمكتب موقع إلكترونى، وعلى الموقع رقم تليفون أرضى. قمت بالاتصال، وحصلت على موعد للمقابلة، ثم ذهبت إليه أحمل أوراق القضية. فور اطلاعه على كومة الملفات؛ رأيت سعادة كبيرة على وجهه، قال لى: «هذه واحدة من أعظم انتصارات حياتى، لقد ساعدت فى القصاص من القتلة»، ووافق على التسجيل فورًا، مع طلبه بمهلة لإعادة تأمله فى ملف القضية مرة أخرى، لأنه- وبحسب قوله- يعيده بالزمن إلى الوراء لأكثر من ربع قرن.
الشهادة الثالثة كانت الأكثر تحديًا، لا بسبب تعذر الوصول إلى الشاهد، بل بسبب صعوبة ظروفه الصحية التى كادت أن تلغى المقابلة لأكثر من مرة، أثناء تحديد الموعد، ثم أثناء إجرائها أيضًا، وهى شهادة «الدكتور الراحل/ حمدى السيد»، الذى كان قد تخطى التسعين من عمره وقت تواصلنا. أهمية د. حمدى السيد، نقيب الأطباء العتيد والبرلمانى الشهير، فى هذا العمل الوثائقى أنه كان الطبيب المشرف على الفريق الذى أجرى جراحة «فرج فودة» فى مستشفى الميرغنى عقب إصابته بالطلقات النارية. فى شهادته الخاصة لنا حكى تفاصيل توجيه الرئيس الأسبق حسنى مبارك له بالانتقال إلى المستشفى فورًا، وما دار خلال أكثر من ست ساعات داخل غرفة العمليات، حتى توقف قلب فرج فودة. هذه شهادة أخيرة كنت أتمنى أن يراها على الشاشة، لكنه سجلها للتاريخ، ثم رحل.
مقابلة لم تجر
القاتل ليس من أطلق الرصاص فحسب، فأحيانًا تبدأ عملية القتل بفتوى!.. وفرج فودة قد لاحقته فتاوى التكفير، واحدة من أهم تلك الفتاوى كانت الفتوى المنسوبة إلى «د. محمود مزروعة»، عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر فى المنوفية سابقًا، والتى اتهم فيها «فودة» بأنه «مرتد يحارب الإسلام»، ونشرتها جريدة «النور» ذات التوجه الإسلامى، التى كانت تصدر فى تلك الحقبة. قرر «د. مزروعة» أن يبتعد عن المجال العام لسنوات طويلة: لا تصريح، لا حوار صحفى، لا ظهور على منصات السوشيال ميديا، مكتفيًا بالإقامة فى منزله الريفى. بعد بحثٍ مطول، تواصلت إلى رقم هاتفه، وطلبت منه تسجيل مقابلة عن «فتواه المُلغّمة» المنسوبة إليه، وعن شهادته داخل المحكمة، فرفض التسجيل لأنه- بحسب قوله- تمنعه ظروفه الصحية من ذلك. ربما كانت ظروف د. حمدى السيد أشد صعوبة، لكنه وافق على التسجيل، بينما د. مزروعة رفض. الأول طبيب حاول إسعاف المجنى عليه، والثانى متهم بفتوى أفضت إلى قتل!
مضت أيام، ثم عاودت الاتصال على هاتف د. مزروعة، حرصًا على سماع الرواية من الجانب الآخر للنهر، وتقديم إعادة قراءة ومراجعة وتحقيق فى فتوى منسوبة له مضى عليها أكثر من ربع قرن، ربما يتراجع، ربما ينفى صلته، ربما شهادته اليوم تحول دون فتاوى أخرى من نفس النوع.. لكنه هذه المرة اعتذر بشكل نهائى، وقبلت اعتذاره. قلت: «حسنًا بعض الاعتذارات تقول كل شىء!».
هذه وقائع استنفدت شهورًا طويلة، واحتاجت جهدًا كبيرًا، رغم أنها لم تظهر فى نسخة الفيلم الوثائقى «فرج فودة.. مفكر واجه الظلام». لكنها- برغم عدم ظهورها- تظل وقائع هامة لصناعة فيلم وثائقى مدته «٤٥ دقيقة»، لأن الصناعة الوثائقية مثل الجبل الجليدى وفق نظرية «إرنست».. تحتاج إلى تسعة أعشار تحت سطح الماء، حتى تخرج إلى النور.