الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سجن«اللايك» و«الشير»... «أزمة السرد».. الإنسان من «قصص حلقة النار» إلى «عبودية الديجيتال»

غلاف الرواية
غلاف الرواية

انطلاقًا من أن القصص التى نسردها هى ما تخلق المجتمع وتصنع الروابط الجامعة بين أفراده، يقيم الفيلسوف الكورى الألمانى بيونج تشول هان، فى كتابه الصادر حديثًا «أزمة السرد»، مقاربة بين حالتين، الأولى كانت فى المجتمعات القديمة، حيث يجتمع البشر حول النار لرواية القصص لبعضهم البعض، والثانية تتعلق بالمجتمعات الحديثة الراهنة، مجتمع المعلومات المعاصر، الذى صار فيه كل شىء اعتباطيًا وعشوائيًا، وتحول الشكل القديم من سرد إلى بيع القصص.

ويشير «هان»، فى كتابه، إلى أنه «فى حين أن القصص تخلق المجتمع، فإن رواية القصص فى مجتمع المعلومات الراهن لا تنتج سوى مجتمع عابر، هو مجتمع المستهلكين، فلا يمكن لأى قدر من رواية القصص أن يعيد خلق النار التى اجتمع حولها البشر ليحكوا قصصًا لبعضهم البعض، لقد انتهت تلك النار منذ فترة طويلة، وصارت الشاشات الرقمية التى تفرّق بين الناس ولا تجمعهم بديلًا لها».

أزمة مجتمع المعلومات

يعمل تشول هان، أحد أكثر المنظرين الثقافيين إدراكًا فى المجتمع المعاصر، على تشريح أزمة مجتمع المعلومات المعاصر من منظور «السرد»، فرغم أن الوقت الراهن يشهد تضخمًا فى رواية القصص عبر منصات التواصل المختلفة، فإن هذا الشكل من السرد لا يُعبر عن مجتمعات مستقرة، وإنما عن ظواهر مرضية تسم عصرنا.

فى المراجعة التى نشرتها صحيفة «الجارديان» للكتاب، يجرى الكاتب مقاربة بينه وبين فيلم «أنوماليسا» لـ«تشارلى كوفمان»، ففى فيلم الرسوم المتحركة يتشابه الجميع إلى حد تبدو أصواتهم ووجوههم هى ذاتها، وفى هذا الكتاب تحضر المأساة الكوميدية تلك، باعتبارها واقعًا وليس خيالًا، لأن الإنسانية المعاصرة تعتمد على الرموز ذاتها فى سرد القصص، تلك الرموز التى تفرضها قواعد العصر المشبع بالمعلومات.

يقول كاتب المقال إن «جحيم الدُمى الذى رسمه كوفمان ليس قصة خيالية بالنسبة للفيلسوف الكورى الألمانى بيونج تشول هان، ولكنه يجسد حقائق عصرنا المشبع بالمعلومات والهواتف الذكية والمزود بتقنية «شات جى بى تى»، مضيفًا: «بالنسبة إلى هان، لقد تحول الإنسان العاقل (هوموسابين) إلى فونو العاقل (فونوسابين)».

الأخ الأكبر

فى كتبه السابقة، يلح «هان» على أن الجميع اليوم صاروا «إخوة كبارًا»، فى إشارة إلى «الأخ الأكبر»، فى الرواية الشهيرة «١٩٨٤» لجورج أورويل، فالهواتف الذكية باتت أقرب إلى «كراسى اعتراف» يلجأ إليها الجميع برضا تام. 

كتب «هان» فى كتابه «السياسة النفسية»، الصادر عام ٢٠١٧، أن السُلطة تعمل بشكل أكثر فاعلية عندما تفوض المراقبة إلى الأفراد أنفسهم، فلم يعد إيلون ماسك أو مارك زوكربيرج بحاجة إلى فئران التجارب وغرف التعذيب والدعاية على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، تلك الوسائل التى أبقت «الأخ الأكبر» فى السلطة، وإنما هما فقط بحاجة إلى رضا الفرد عن اضطهاده وظلمه لنفسه.

الشاشة الرقمية

فى هذا الكتاب الجديد، يصف «هان» الآثار الضارة لهذا الانحطاط على رواية القصص. كان سرد القصص يربطنا بشكل جماعى حول نار المخيم، لقد ربطتنا القصص بماضينا وساعدتنا فى تخيل مستقبل ملىء بالأمل، ولكن اليوم حلت الشاشة الرقمية محل تلك النار، ما جعلنا أفرادًا نقدم نسخًا مصطنعة من أنفسنا لأقراننا الذين لا نراهم، ونصمم مظهرنا وحياتنا وآراءنا لتناسب المعايير السائدة. 

يكتب «هان»: «هذا الشكل الذكى من الهيمنة يطلب منا باستمرار أن ننقل آراءنا واحتياجاتنا وتفضيلاتنا، وأن نحكى حياتنا، وأن ننشر الرسائل ونشاركها ونعجب بها. فبعد أن كنا نسرد القصص، صرنا اليوم نبيعها لنحظى بالإعجاب ولنتوافق مع المعايير السائدة».

يناقش المؤلف فكرة تحول البشر إلى أجهزة مُستغَلة من قبل رأس المال، بعد أن أصبحوا مجرد «مجموعات بيانات» يمكن التحكم فيها واستغلالها، ما جعل أيلون ماسك واحدًا من أغنى الرجال فى العالم. 

يوضح «هان» أن البشر يسردون عبر منصات التواصل الاجتماعى قصصًا مثيرة للاهتمام حول اللياقة البدنية، ويعمدون إلى تزيين ما فعلوه فى إجازاتهم، من خلال صور «السيلفى» واللقطات المثيرة للوجبة التى تناولوها، ومع كل تلك القصص، فقد اختفى شىء ما، فرديتنا وإنسانيتنا، قدرتنا على سرد روايات مقنعة، بدلًا من التمثيل والادعاء. 

ومع ذلك، فإن الإنسان العاقل ليس مجرد كاذب يقدم نفسه بما هو ليس عليه، وإنما أصبح أيضًا عالقًا فى الرغبة التعويضية بالكشف عن كل شىء عن نفسه، من أجل قول الحقيقة، من أجل الشفافية غير المحدودة. 

ويتابع المؤلف أننا نتبع النصائح الجهنمية لـ«عملاق التكنولوجيا»، فى رواية «الدائرة» للكاتب ديف إيجرز، المنشورة عام ٢٠١٣: «الأسرار هى أكاذيب، المشاركة تعنى الاهتمام، الخصوصية سرقة».. هذه الشعارات هى وصايا «فونو العاقل».

استهلال القصص ومنصات البث

علاوة على ذلك، يتحدث المؤلف عن استهلاك القصص وليس سردها فقط، فمنصات البث مثل «نتفليكس» وغيرها تصنع محتوى يمكن استهلاكه بسهولة، مع سرد يتبع أنماطًا محددة مسبقًا، لحثنا على الإفراط فى المشاهدة، ما يقود، حسب «هان»، إلى «تسمين» المشاهدين مثل الماشية المستهلِكة، فالشراهة فى المشاهدة هى نموذج لطريقة الإدراك العامة فى عصر الرأسمالية المتأخرة.

يتحدث «هان»، أيضًا، عن القصص المبثوثة عبر «إنستجرام»، إذ تشدد إحدى الدورات التدريبية عبر الإنترنت على أن ثمة قصصًا نموذجية تلائم المنصة تتمحور حول أين تذهب، وما تأكله وتشربه، ومَن تراه، وما هو أكثر ما لا ينسى، فهذه المواد تقدم لمحات مدتها ثوانٍ من حياة الأشخاص، وهنا تبرز تفاهة رواية القصص، فكلما كانت القصص خفيفة وصغيرة وعابرة، صارت الأنجح والأكثر ملاءمة.