الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

سلطة الفقيه.. التشريع وفق منهج مقتضيات الحكمة

المفكر العراقي ماجد
المفكر العراقي ماجد الغرباوى

- الفقه التقليدى يتشبث بقدسية الأحكام بالمعنى الدوغمائى ويرفض مراجعة ملاكاتها

- يجب إعادة النظر فى فعلية الحكم عندما يتغير الواقع 

لا دليل على اختصاص الفقيه، أو خصوص الولى من الفقهاء، بملء الفراغ التشريعى، وهو مساحة الواقع باستثناء ما ورد فيه دليل شرعى صريح فى مورده، هذا ما انتهت إليه الأدلة. ولا مانع من مشاركته بصفته فقيهًا متخصصًا، بعيدًا عن منطق الوصاية. فمنطقة الفراغ إذًا تلك المساحة التى يتولى فيها الشعب، مباشرة أو من خلال تمثيل نيابى، تشريع القوانين والأنظمة لتنظيم حياته، بعيدًا عن أى ولاية سوى مصالحه ومصالح مجتمعه، شريطة التزام المشرّع بمقتضيات الحكمة وبمبادئ التشريع فى أفق الواقع وضروراته، وفى إطار القيم الأخلاقية. وحينما يشك بوجود حكم شرعى فى أى مسألة من مسائل منطقة الفراغ، فالأصل هو البراءة، على أساس «قبح العقاب بلا بيان»، كما هو مقرر عند علماء أصول الفقه «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» «الإسراء: 15»، ويقصد بالرسول الحجة الموجبة للتكليف. هذا وفقًا للمنطق الأصولى، وإلا لا معنى للسؤال فى منطقة الفراغ ولا معنى لإجراء الأصل الأولى، سواء البراءة أو الاحتياط. ولا داعى لوصفها بالإباحة. بمعنى أدق أن الأصل عدم التشريع ما لم يرد فيه نص شرعى. فيكون التشريع السماوى استثناء، والأصل مسئولية الإنسان مباشرة عن نفسه وشئونه القانونية والتنظيمية.

إن تكاليف الشريعة واضحة بيّنة لمن يلتزم بها، وهى كل ما اشتملت عليه آيات الأحكام، شريطة فعليتها. وماعدا ذلك فالناس أحرار، لا ولاية لأحد عليهم سوى ولاية الأمة أو الشعب على نفسه. هذا لمن يريد التمسك بالشريعة وآراء الفقهاء، فإن الأصل الأولى عند جملة منهم هو البراءة العقلية. فى مقابل من يتمسك بالاحتياط كأصل أولى عند الشك بالحكم المجهول، ثم تأتى البراءة الشرعية لتلغى الاحتياط. فهناك مسلكان، مسلك «قبح العقاب بلا بيان، ومسلك «حق الطاعة». وأما بالنسبة للعقل بعيدًا عن الفقهاء والأصوليين، فالأصل عنده حرية الإنسان. ومن حقه ملء الفراغ التشريعى لتنظيم حياته. وبالتالى فإن الأصول العقلية والشرعية تفضى للبراءة فى الأحكام المجهولة، وهى منطقة الفراغ. أو بشكل أوضح تلك المساحة التى ليس للشارع فيها حكم محدد، وقد تركها للإنسان يتخذ ما يراه مناسبًا وفقًا للعدالة وعدم الظلم، والسعة والرحمة، والمساواة. ولو كان للشارع، وهو فى مقام التشريع، حكم لبيّنه ضمن آيات الكتاب، ومن حق الفقيه حينئذٍ التصدى لبيانه. لكن لم يبيّن، فلا مؤاخذة فى وضع قوانين لصالح المجتمع والدولة. وبالتالى لا دليل على احتكار الفقيه التشريع فى منطقة الفراغ التشريعى، غير أن الفقه التقليدى بالذات يعيش رهاب الحرية، ويخشى تحمل المسئولية، ويشعر بسعادة عارمة فى عبوديته. لقد عاش الإنسان ردحًا طويلًا من الزمن يتصدى لتنظيم حياته بنفسه، وقد أرسى أعرافًا وتقاليد لضبط سلوك الفرد والمجتمع، حتى وهو يعيش حياة بدائية: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ» «البقرة: ٢١٣». وبعد مجىء الإسلام لم يلغ الرسول جميع الأعراف والتقاليد، خاصة فى المجال الأخلاقى: «وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». كل ما فعله الإسلام صحح مسارات العلاقات والأنظمة، وقام بترشيد الوعى، كى يسترد الفرد عقله، ويواصل حياته وفق بوصلة قيمية وأخلاقية، من وحى العقل العملى ومدركاته. لذا لم يسمح القرآن بتمدد الشريعة خارج حدودها، ليتحمل الإنسان مسئولية خلافة الأرض وإعمارها فى ضوء مبادئ العدالة وعدم الظلم والجور: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا» «الأحزاب: ٧٢». وبالفعل نهى عن كثرة السؤال، ليحد من مشاعر العجز الداخلى، ورهاب المسئولية الحياتية. وبيّن بشكل واضح وصريح أن حدود التشريع تنتهى بمضامين آيات الأحكام، ولم يمنح صلاحيات تشريعية لأحد بشكل صرح واضح، ولم يكلف أحدًا بملء منطقة الفراغ التشريعى. وبشكل أدق، لم يجعل ولاية تشريعية للنبى، فضلًا عن غيره، وآيات الكتاب تشهد فى تحديد مسئولياته، وتقدم الحديث مفصلًا. وثم آيات تؤكد حدود التشريع، وعدم السماح بتمدد التشريع:

- «قُل لاَّ أَجِدُ فِى مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» «الأنعام: ١٤٥»، بهذه الآية تعرف مساحة المحرمات التى تتناقلها كتب الفقه وليس لها جذر قرآنى، سوى روايات لا يمكن الجزم بصحة صدورها، تعد عندهم حجة لحجية مطلق السُنة النبوية.. يفهم من الآية هناك من استفسر عن حرمة شىء، فأعطت الآية ضابطة فى التحريم، وما عداها فهو مباح. والآية ضمن آيات رسمت لنا حدود الشريعة والأحكام، وأعطت ضابطة كلية مفادها: «المحرم ما نصت الشريعة على حرمته»، ولازمها أن يتحمل الإنسان مسئولية الواقع وضروراته. وطالما أكدت أن دور الدين ترشيد الوعى، وتبقى الأصالة للعقل وما حباه الله من قدرات خارقة، وأمامنا التقدم الحضارى الهائل، رغم تحفظنا على بعض تشريعاته.

- «وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ». فكل ما عدا تشريعات الشريعة فهو حلال ومباح، فتشمل الإباحة بامتدادها منطقة الفراغ، فنحكم على كل ما نشك بحرمته بالحلية، مشمولًا بالإباحة اللا اقتضائية. بل وحتى الإباحة الاقتضائية، فإن مفادها وجود ملاكات أن تبقى منطقة الفراغ مباحة، قابلة للتشريع من قبل الإنسان، لتواكب تشريعاته النسبية تطورات الواقع وضروراته.

- «قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» «الأنعام:١٥١». فهى أحكام محددة، فيكون الأصل الإباحة إلا ما دل الدليل على حرمتها.

- «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ» «النحل: ١٦». مما يؤكد اقتصار الولايتين التكوينية والتشريعية على الله تعالى. ولا يجوز لأحد أن ينسب له ما لم تصرح به الآيات. وهنا مكمن الخطر حينما ينسب الفرد فتاوى وأحكام الفقيه لله، ويتعامل معها بقدسية، وهى مجرد آراء اجتهادية، ووجهات نظر فقهية، تختلف من فقيه لغيره، ومن واقع لآخر، ومن عصر لعصر.

- «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ» «البقرة:١٧٩». 

كل هذا وغيره يؤكد عدم وجود دليل على اختصاص الفقيه أو الولى من الفقهاء بملء منطقة الفراغ التشريعى، وتبقى منطقة مباحة، يتصدى الخبراء لملئها، وفقًا لمصالح شعوبهم وأوطانهم وفى إطار القيم الأخلاقية الأعم من القيم الدينية. وبالتالى لا دليل على ما ذهب إليه السيد محمد باقر الصدر، كما تقدم: «.. وإنما ملأه بوصفه ولى الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقًا للظروف». وهذا لا دليل عليه. إذ أمضت الشريعة الإسلامية البيع والشراء، واستثنت الربا وبيع النسىء، ارتكازًا لملاكاتها القائمة على التراضى، لذا لا تجد أحكامًا قرآنية تفصيلية تخص أحكام البيع والشراء مقارنة بأحكام العبادات مثلًا. فملاكات التجارة ملاكات متغيّرة فاكتفت الشريعة بالتراضى لتمريرها وإمضائها. وليس التجارة فقط، فالمجتمع العربى رغم حكومة العنف والقوة لكن تضبط حركته مختلف التشريعات، بعضها دينى، وهناك قبَلى وأخلاقى، وعرفى، وتجارى، وتجاور وعلاقات، وحرب وسلام وديات وقضاء، وغير ذلك، فالإسلام لم يلغها جميعها، بل أمضى بعضها، وهذّب الأخرى، وأعاد توازن ثالثة على أساس العدالة ومنع الظلم. وأضاف ما رآه ضرورة لحفظ توازن المجتمع واستتباب الأمن والسلام، كالمطالبة بأربعة شهود شرطًا لثبوت الزنا، وإقامة الحد. فلا يمكن للخالق أن يشرع لواقع متحرك تشريعات مطلقة، فربط فعليتها بفعلية موضوعاتها. وقد راعى مهمة الإنسان ودوره، وضرورة الاعتماد على نفسه. وأمامنا القوانين المدنية الحديثة، التى خلقت أجواء آمنة، وحياة اجتماعية مستقرة وفقًا لمركزية العدل، وهذا شاهد على كفاءة الإنسان تشريعًا. بينما تعصف بأحكام الفقهاء جملة إشكالات لا يمكنهم تجاوزها بفعل القواعد الأصولية التى أسسوها وفرضوها سلطة توجه وعيهم الفقهى. وأيضًا أهملت الشريعة السياسة، سوى مبادئ تصلح أن تكون أُطرًا لمختلف التشريعات، ولم يتطرق القرآن لأهم مواضيعها. أعنى الخلافة، التى تسببت فى تشتت الأمة فيما بعد. ولم نقرأ شيئًا عن شروطها، ومسئولياتها. وبالتالى، ملء منطقة الفراغ التشريعى يقع على عاتق المجتمع، يتدبره وفقًا لمصالحه، وما يحقق أمنه واستقراره، شريطة عدم تعارض تلك القوانين والأنظمة مع ثوابت الشريعة «وهى مبادئ التشريع: العدالة وعدم الظلم. السعة والرحمة، المساواة»، ما دام المجتمع مسلمًا، ملتزمًا بأحكامها. والمجالس النيابية والتشريعية ضمن مؤسسات الدولة الحديثة هى الممثل الوحيد اليوم. وحينئذٍ تستمد القوانين الوضعية شرعيتها من الشعب، ومن قدرتها على أداء وظيفتها. ولا ولاية إلا ولاية الأمة على نفسها.

نعود لمواصلة البحث فى مفاد الفرضية المتقدمة: «ليست الأحكام فى الشرائع السماوية معطى نهائيًا، بل أن تشريعها يجرى وفقًا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع فى أفق الواقع وضروراته». وهى مبادئ عقلائية، يحتكم لها الخبراء والمشرعون وفقهاء القانون، من يتصف منهم بالحكمة والعقلانية والموضوعية، ويركن للعدل والرحمة ونظرة المساواة، بعيدًا عن التحيّز والظلم والجور. ولا يمكنهم ذلك ما لم يحيطوا بالواقع وضروراته، ويحددوا ملاكات الحكم من مصالح ومفاسد. وعندما يترافع الخصوم أمام المحاكم، سواء الشعبية أو الرسمية، يترافعون لإحقاق الحق وإقامة العدالة وتسوية الخلافات، انطلاقًا من تلك المرتكزات. أى يترافعون على أساس قبلياتهم عن الحكم وما يتصف به الحاكم من صفات العدالة وإحقاق الحق أى مبادئ التشريع. وهكذا الحال بالنسبة للأنظمة والقوانين، فإن ما تضمره من مصالح لتنظيم المجتمع والسلطة هى المبرر لالتزام الناس بها، لذا يعترضون عندما لا تحقق غاياتها، ويصفونها بالظلم وعدم العدل. فتلك المبادئ مبادئ عقلانية بعرف العقلاء، وقد تم الاستدلال عليها بمجموعة آيات قرآنية كما تقدم وسيأتى. وعندما أكد الخطاب القرآنى عليها، فهو تأكيد على قضايا مرتكزة لدى العقلاء والحكماء. وعندما يؤكد على العدل فى الحكم فإنه مأخوذ فى تشريعات الشريعة لا محال، وعندما تؤخذ المبادئ بنظر الاعتبار فهى ناظرة للواقع وضروراته، وللفرد وحاجاته، وللمجتمع ومتطلباته، فيأتى التشريع ليُرسى العدالة والأمن والاستقرار ويحق الحق ويعطى كل ذى حق حقه، ضمن ظرفه الزمانى والمكانى. المهم أن تشريعه كان وفقًا لمقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع، ووفقًا لهذا المقتضيات يجب إعادة النظر فى فعلية الحكم عندما يتغير الواقع. وبنفس المنطق ينبرى المشرّع لملء الفراغ التشريعى، مع مراعاة الواقع وضروراته، والالتزام بمبادئ التشريع وفق ذات المقتضيات. فأحكام الشريعة ليست قضايا ميتافيزيقية أو غرائبية، ولا تقع ضمن اللا مفكر فيه، سوى النظرة البعيدة ضمن هدف الخلق وحركة الوجود، وهذا لا يشمل جميع الأحكام. وأيضًا هى ليست تشريعات ارتجالية، ولا هى طلاسم وألغاز يتعذر فقهها وإدراك فلسفتها. بل هى تشريعات قامت على مبادئ وملاكات. أى قامت على قيم اعتبارية، لها دلالتها وسلطتها، وتقع ضمن مرتكزات الوسط الثقافى الذى يرتهن له تأويل الوحى. وبدونها لا يستوى التأويل، ولا يحقق مداه التشريعى. وما على الفقيه سوى الخروج من منهج استنباط الحكم المتداول إلى منهج آخر، لإدراك فلسفة الحكم وتاريخه وخلفياته الاجتماعية والمبادئ التى ارتكز لها، والمنطق الذى حدد مساره. فعندما تقول الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» «المائدة: ٦». فهى تشترط النظافة فى إقامة الصلاة، وحينئذٍ سيغنى غسل الجسد كاملًا عنه، بينما لا يقول بذلك إلا قلة من الفقهاء، باستثناء غُسل الجنابى، فهو يكفى عن الوضوء. وكان أستاذنا وهو يشرح موضوع الوضوء فى أحد مقررات الفقه، خلال مراحل الدراسة، قبل قرابة أربعين عامًا، يضفى معانى روحية ونورانية. يرفض أى تفسير مادى ظاهرى لهذه العبادة، فينفعل خلال شرحه، ليعبر عن شىء هو لا يعرفه!. 

الفقه التقليدى السائد يتشبث بقدسية الأحكام بالمعنى الدوغمائى، ويرفض مراجعة ملاكاتها ومدى فعليتها، بدعوى ميتافيزيقيتها، وتعذر معرفة عللها، وما يبدو علة وسببًا لتشريع الحكم لا يعدو كونه حكمة. وهذا غير صحيح، فعندما يأمر القرآن بالعدل فهو لا يؤسس له، بل يؤكد على مرتكز عقلائى، سائد فى جميع المجتمعات فى مقابل الظلم والعدوان. ما دام العدل صفة نفسانية من مقولة الكيف، يتصف أو لا يتصف بها الإنسان. فجاء الإسلام وأكد عليه. وبالتالى، فهى قيم عرفية ومرتكزات عقلائية، يمكن إدراكها وتحديد ملاكات الحكم فى ضوئها. ولو كان يقصد معنى آخر لمفهوم العدل، كان ينبغى بيانه، لكن لم يفعل.

تأسيسًا على ما تقدم، يمكن اعتبار التشريعات القرآنية نماذج عملية لتشريع الأحكام، وفقًا لتلك المبادئ، شريطة إدراك مرتكزاتها ومقاصد تشريعها. بمعنى أدق يمكن الارتكاز لتلك المبادئ التى قامت عليها تشريعات الشريعة، لملء الفراغ التشريعى، بعيدًا عن قدسيتها بالمعنى الدوغمائى، كى تتكيف مع الواقع وحاجاته. وبهذا الصدد يمكن تأسيس قواعد أصولية تساعد على تشريع أحكام تمثل وجهة نظر فقهية، يكون فيها القياس والذوق الفقهى أدوات ماضية. لأنك تبغى توظيف مبادئ التشريع لملء الفراغ التشريعى، دون نسبتها للشريعة. فالمشرّع بصدد أحكام لتنظيم حياة الناس فى مساحة الفراغ التشريعى وبإمكانه الارتكاز لمبادئ التشريع وفق مقتضيات الحكمة. ولا ريب فى ذلك، إنما الخطر فى نسبة أحكامه للشريعة، فينقاد لها المكلّف مدفوعًا بالطاعة والانقياد على أمل إحراز مرضاة الله، كما توحى فتاوى الفقهاء بذلك.