الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«سير الملوك».. عصارة أفكار نظام المُلك الوزير الأقوى فى تاريخ الإسلام

فتحى عبد الوهاب فى
فتحى عبد الوهاب فى دور نظام الملك

 نصح نظام الملك الحكام بعدم الغفلة عن شئون الخلق والاستفسار عن أحوالهم وإنقاذ المظلومين من الظالمين

كتاب «سير الملوك» بمثابة دستور فى إدارة الحكم والدولة وتسيير الأمور بالعدل والحزم

إحدى المآثر، التى قاد إليها عرض مسلسل «الحشاشين» خلال الموسم الرمضانى المنصرم، كانت استعادة شخصيات تاريخية وفكرية مؤثرة فى مسار التاريخ الإسلامى، وكان نظام الملك الطوسى واحدًا من هؤلاء، فقد سلّط العمل الدرامى الضوء على قوة هذا الوزير ونفوذه وكلمته المسموعة لدى الحكام، ثم التحولات التى لحقت بمكانته بسبب الوشايات والضغائن، وكذلك كراهيته الشديدة للمذاهب التى هددت قوة الدولة، وعلى رأسها المذهب الباطنى. 

الكثير مما جسده العمل الدرامى وما يفوقه يظهر فى كتاب وضعه نظام الملك الطوسى وزير السلاجقة المشهور «408-485» فى كتابه «سير الملوك أو سياست نامه»، الذى ترجمه عن الفارسية الدكتور يوسف بكار، فالكتاب يضم عصارة أفكار نظام الملك وتجاربه فى أخريات حياته، ففيه نأىٌ عن التصدى لحوادث الحياة الخاصة وتركيز على توضيح أساليب إدارة الممالك من وجهة نظره التى توضح رؤيته لهموم عصره السياسية والاجتماعية. 

الكتاب حسبما تكشف المقدمة جاء تلبية لرغبة «ملكشاه» فى تأليف كتاب يكون دستورًا فى إدارة الحكم والدولة وتسيير الأمور بالعدل والحزم، وهو ما تحقق فى القاسم الأكبر منه الذى أبان فيه نظام الملك عن رأيه فى أهم الأمور وأدقها، لكن جزءًا أخيرًا من الكتاب ركز فيه الطوسى على الكشف عن أحقاد مخالفى الدولة من وزراء وولاة وعمال طامعين وأعداء متربصين، وفضح ذوى المذاهب الفاسدة التى كانت تنضوى تحت راية الباطنية مستهدفة تقويض الإسلام. 

يقول غلام حسين يوسفى فى تصديره للكتاب: إن نظام الملك قد وسع آفاق دولة إيران توسعة لم ير لها نظير فى الألف والثلاثمائة سنة من تاريخ الإسلام، وكان السلطانان؛ ألب أرسلان وملكشاه، يطيعان آراءه ويقران بتصرفاته، كما لم يكن خلفاء بنى العباس يميلون عن رغبته وإرادته، فقد قضى حياته بالسياسة وعلى يديه تمت إنجازات وأعمال عزيت إليها شهرة السلاجقة الأتراك وتقدمهم سواء فى عهده أم بعده، وهو ما أدى إلى أطلاق لقب «تاج الحضرتين» عليه، كما أنه منح من دار الخلافة لقب «رضى أمير المؤمنين»، فى حين أن الخلفاء لم يمنحوا لقبًا لأى وزير غيره، وحظى باحترام الأوساط الدينية بما كان يتحلى به من روح دينية وباحترامه للزهاد والعلماء والشيوخ ومعاشرتهم والتحدث إليهم. 

نصائح للحكام

فى هذا الكتاب، يطرح نظام الملك رأيه فى أساليب الحكم، سواء فيما يخص الأمور الكبيرة والأساسية أو الصغيرة التى قد لا يُلتفت إليها، لكنه يؤمن بأن الاهتمام بها أساس للإبقاء على قوة الملك والدولة، ويعزز نظام الملك نصائحه وآراءه بإدراج أخبار وحكايات من أقوال العظماء وسير الملوك والحكام السابقين بما يمنح الكتاب طابعًا أدبيًا بصورة ما.

من أبرز النصائح التى يوجهها نظام الملك للحكام فى كتابه عدم الغفلة عن شئون الخلق والاستفسار عن أحوالهم وإنقاذ المظلومين من الظالمين، وأن يجلس الحاكم للمظالم يومين أسبوعيًا لاستدلال العدل من الظالمين، وإنصاف الرعية، والاستماع إلى مطالبها، والبت فى أهم الشكاوى، وأن يفكر الحكام فى حقوق الضعفاء، ويحتاطوا فى أمر المسئولين والمستقطعين والعمال، ويرقبون أعمالهم ويستبدلونهم كل سنتين أو ثلاث، قبل أن يثبتوا أقدامهم ويحصنوا أنفسهم. 

وينصح نظام الملك بألا يغفل الحاكم عن أحوال عماله، وأن يتقصى تصرفاتهم وسلوكهم، وأن يعين لذوى المناصب الرفيعة من يراقبهم سرًا دون أن يعلموا ليكونوا على اطلاع دائم بأعمالهم وأحوالهم، وأن يخضع المسئول عن مطبخ الملك وقصوره الخاصة وحاشيته للمثول بين يديه فى أى وقت، ليعرض الأحوال ويطلعه على كل ما يجرى، وكل ما يعطيه ويأخذه، فضلًا عن نصحه باتخاذ الحيطة التامة بشأن الحرس والخفر والبوابين الخاصين والاستفسار عن أحوالهم سرًا وعلانية، ووضعهم تحت الإشراف المباشر، لأنهم أسرع انخداعًا بالمال والإغراء. 

يولى الطوسى اهتمامًا كبيرًا بأهمية إحكام المراقبة على جميع الأطراف فى مختلف الظروف، ففى موضع آخر من الكتاب يقول: يجب بث العيون فى كل الأطراف دائمًا فى زى تجار وسياح ومتصوفة وبائعى أدوية ودراويش لنقل كل ما يسمعون من أخبار حتى لا يظل ثمة شىء خاف، وحتى يمكن تلافى أى طارئ فى حينه، فما أكثر ما كان الولاة والمستقطعون والعمال والأمراء يضمرون لملك خلافًا وعصيانًا، ويتربصون به الدوائر سرًا، لكن الجواسيس كانوا يكتشفون ذلك ويخبرون الملك به، فينقض عليهم بغتة ويحيق بهم. 

ويدعم الطوسى نصائحه بحكايات وسرود عن الحكام والملوك منذ قديم الزمان، ليبرز كيف كانوا يحمون الضعفاء من المتجبرين، ويعاقبون العمال وولاة الأمور ويحذرون المفسدين، وليوضح كيف حفظ السابقون للدين الإسلامى قوته وعزه وصانوا دعائمه، وكيف سعوا لإيصال الحقوق إلى أصحابها وإزالة المفسدين ومحوهم. 

ويبين الوزير رأيه بالنساء واستشارتهن فى معرض نصائحه السياسية بقوله: يجب عدم تمكين من هم تحت سلطة الملك وفى خدمته من أن يكون لهم نفوذ وقوة لما ينجم عن هذا من إخلال عظيم يذهب بجلاله وأبهته وهيبته، وأخص من هؤلاء النساء فهن محجبات مستورات ناقصات العقول، الغاية منهن الإنجاب لحفظ بقاء النسل. فى الوقت الذى تمت فيه أيدى نساء الملك إلى السلطة، ويتدخلن فى شئون الحكم، فإن دورهن لا يتعدى ما يوحى به إليهن ذوو المآرب والأطماع الخاصة، لأن ليست لهن القدرة مثل الرجال على استطلاع الأحوال فى الخارج برأى العين.

يشدد نظام الملك على أهمية تحرى الملك أحوال الرعية والجيش وكل بعيد وقريب، وأن يعرفوا كل كبيرة وصغيرة فى المملكة، فإن لم يفعلوا يحسب ذلك غفلة وتهاونًا وظلمًا، كما ينوه بأهمية إسناد الإشراف إلى من يُعتمد عليه ليتمكن من الإحاطة بكل ما يجرى فى البلاط والإجابة عن كل شىء فى أى وقت يطلب إليه ذلك. 

ومن التفاصيل التى يتوقف عندها الطوسى بنصائحه ضرورة أن يقرض عمال الخراج كل من يحتاج من الناس بما يسد حاجته ويقضى عوزه، وأن يحسنوا معاملة الناس، ويشدد على ضرورة تعيين محتسب فى كل مدينة تكون مهمته مراقبة الأسعار والأوزان، وأن يكون من واجب الملك معاونته على أداء عمله كما ينبغى. 

ثمة تفاصيل شكلية أخرى يقف عندها الكتاب، ومنها أن يكون فى القصر مائتا رجل من المختارين ملازمين للملك وفى خدمته فى حله وترحاله، وأن يظلوا بألبسة جميلة فى القصر، وكذلك إعداد عشرين قطعة سلاح مرصعة بالجواهر ووضعها فى الخزينة، ليتقلدها الغلمان فى كل وقت تقام فيه الاحتفالات، أو يصل الرسل من أرجاء الأرض. 

وينصح الطوسى ملكشاه بأن يتخذ من الندماء الأكفياء من ينطلق معهم على سجيته دونما حرج، مع تجنب أن تسند المناصب والمقامات إلى هؤلاء الندماء «لأنهم لما لهم فى رحاب الملك من حظوة قد يتطاولون ويتسببون فى إيذاء الناس وإرهاقهم»، كما ينصحه باستشارة المحنكين وسماع مختلف الآراء واختيار الأصوب. 

نصائح فى أمور الدين

مثلما قدّم نظام الملك نصائحه فيما يخص السياسة وأساليب الحكم، فإن جانبًا كبيرًا من الكتاب يظهر إجلال الوزير الأقوى لعلماء الدين، إذ يوصى ملكشاه بإكبار علماء الدين ومعاشرتهم، وتعلم أحكام الشريعة وتنفيذ أوامر الدين حتى لا يستطيع أى صاحب اعتقاد خبيث أن يحرفه عن الطريق السوى، وينصحه بالتعرف على أحوال قضاة المملكة والإبقاء على العلماء والزهاد والأمناء منهم، وعزل كل من لا يتصف بهذه الصفات، وأن يكون للقاضى راتب شهرى يكفيه أمور معاشه كى لا تكون به حاجة إلى الخيانة. 

ويوجه نظام الملك بأهمية الاعتناء باختبار الخطباء الذين يصلون بالناس فى المساجد للتأكد من تقواهم وحفظ القرآن، وأن يتحرى الملك أمور الدين وإقامة الفرائض والسنن وأوامر الله وتأمين رزق علماء الدين من بيت المال، وأن يدعو علماء الدين مرة أو مرتين أسبوعيًا ويستمع منهم، ويحاجج عن ذلك بقوله: الاستقامة فى الدين أجمل ما يجب أن يتصف به الملك، لأن الملك والدين صنوان، فأى اضطراب فى المملكة لا بد أن يرافقه اختلال فى أمور الدين، فيظهر المفسدون وأصحاب المذاهب الخبيثة. 

ونظرًا لأن المذاهب المخالفة لا سيما الباطنية كانت مما يؤرق نظام الملك طوال فترة حكمه، إذ اعتبر الشيعة أو الرافضة والإسماعيلية سياسًيا ومذهبيًا من خصوم المملكة والدين الذين لا سبيل إلى مهادنتهم، فقد أتبع نصائحه بفصول سعى فيها لتوضيح عقائدهم وأفكارهم وبداياتهم.

يشرع الطوسى فى ذلك بقوله: لم يخل عصر من الخارجين ممن خرجوا فى كل مكان فى العالم على الملوك والأنبياء منذ عهد آدم عليه السلام إلى يومنا هذا. وليس ثمة فرقة أكثر شؤمًا وتخريبًا وسوءًا من هؤلاء القوم، لأنهم يبيتون الشر لهذه المملكة من وراء حجاب، ويسعون إلى إفساد الدين، فكلهم آذان صاغية تنتظر نداء القيام على الدولة، وأعين ساهرة تترقب إشارة الخروج عليها.

ويوضح أن الباطنية ومن هم على شاكلتهم يظهرون من أوكارهم إذا نزلت بالدولة نازلة، ولا يألوا جهدًا فى بث الشر والفساد والقتل والبدع، فهم يدعون الإسلام فى الظاهر لكنهم ينهجون نهج الكفار فى الباطن، وقولهم عكس عملهم، وليس ثمة من هو ألد عداوة للدين أو أكثر ويلًا على الملك منهم. 

ولا يخفى نظام الملك أسفه من مخططاتهم التى عصفت به شخصيًا فيقول عنهم: أظهرونى صاحب غرض ومآرب أمام الملك.. سيتضح للملك فى اليوم الذى أتنحى فيه جانبًا فسادهم ومكرهم وسوء فعلهم، ويعلم أيضًا مدى ما كان لى من شفقة وهوى وميل فى دولته القاهرة، وأننى لم أكن بغافل عن أحوال هذه الطائفة، وما كان يدور فى خلدها، بل لقد كنت أعرضها على الأعتاب السامية دائمًا، ولم أتركها تفوته وتخفى عليه، لكننى لما رأيت أن أقوالى لم تكن تلقى قبولًا لديه ولم يصدقها عزفت عن تكريرها. 

يقول الطوسى بكتابه: كان للباطنية فى كل وقت خرجوا فيه اسم ولقب يختلف عنه فى وقت آخر، وعرفوا بأسماء وألقاب متفاوتة فى كل مدينة وولاية، وإن تكن واحدة فى معناها. فقد كان يقال لهم الإسماعيلية فى حلب ومصر، والسبعية فى قم وكاشان وطبرستان وسبزوار، والقرامطة فى بغداد وما وراء النهر وغزنين، والمباركية فى الكوفة، والبرقعية فى البصرة والخلفية فى الرى، والمحمرة فى جرجان، والمبيضة فى الشام، والسعيدية فى المغرب، والجنابية فى الأحساء والبحرين، والباطنية فى أصفهان.

ويبين أصول مذهبهم بحديثه عن نبذهم شعائر الدين الإسلامى وفرائضه من قيام وصلاة وصيام وحج ومجاهدة أعداء الله، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الخمرة، والتمسك بالزهد والتقوى وكل ما هو فريضة، ويشير إلى تظاهرهم بالصدق والزهد والعبادة والتقوى ومحبة آل الرسول أمام المسلمين، بينما يسعون إلى الإطاحة بدين الإسلام بعد أن يقوى عودهم. 

أخيرًا، وعلى الرغم من أن محققى الكتاب كشفوا عن بعض الأخطاء التاريخية بالكتاب، وعن احتمالية ألا يكون النسخة الأصلية التى خطها نظام الملك، لأنه ظل مدة ليست قصيرة بعد وفاته عند كاتب السلطان الخاص محمد المغربى، فقد اتفقوا على عدم اعتباره كتابًا فى التاريخ، وإنما تعبير عن رؤية صاحبه فى الطريق المستقيم لسياسة الدول، لا سيما وأن لديه تجارب عميقة ومهمة بالفعل تشكلت من عمله وزيرًا لألب أرسلان ثم ملكشاه السلجوقى لمدة ثلاثين سنة.