السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

بعد صدور روايتها «يوسف كمال فى رواية أخرى»

منى الشيمى: أنا روائية ولست باحثة.. والتصنيف لا يهمنى

منى الشيمى
منى الشيمى

 استغرقت 5 سنوات من البحث لكتابة «يوسف كمال فى رواية أخرى».. وكتبتها فى 4 شهور
 أقدم البحث فى صورة رواية والرواية فى صورة بحث.. وأميل إلى التجريب منذ بدأت الكتابة

وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية لعام 2015، عن رواية «بحجم حبة عنب»، والتى من خلالها أيضًا حصدت جائزة «ساويرس»، إلى جانب مجموعة من الجوائز المهمة الأخرى، مثل جائزة «كتارا» عن رواية «وطن الجيب الخلفى»، و«الشارقة» عن المجموعة القصصية «وإذا انهمر الضوء»، و«دبى» عن المجموعة القصصية «من خرم إبرة»، و«BBC» عن القصة القصيرة «صليل الأساور».
وفى روايتها الأخيرة «يوسف كمال فى رواية أخرى»، تقدم منى الشيمى، بلغة شغوفة وأحداث مفعمة بالتشويق، وبعد 5 سنوات من البحث والتقصى، مروية مختلفة عن الأمير يوسف كمال، أحد أهم أمراء أسرة محمد على، لا تمت بصلة إلى المروية التاريخية المتناقلة عن هذا الأمير.
والأمير يوسف كمال، المولود فى يناير 1882، هو مؤسس «مدرسة الفنون الجميلة»، تلقى تعليمًا راقيًا فى مصر، وبعدها سافر إلى أوروبا، قبل أن يعود من جديد إلى مصر، وكان عاشقًا للفن مولعا بشراء الأعمال الفنية، وربما من هنا تأتى أهمية هذه الرواية، التى نستكشف أهم كواليس وتفاصيل كتابتها، فى الحوار التالى الذى أجرته «حرف» مع منى الشيمى.
■ لماذا استغرقتِ ٥ سنوات كاملة من البحث والتقصى لكتابة «يوسف كمال فى رواية أخرى»؟
- ٥ سنوات لم تكن مدة طويلة، فى ظل غياب المصادر، لك أن تتخيل أننى ظللت عامًا ونصف العام فى انتظار موافقة دار الكتب والوثائق للاطلاع على حجج وعقود الأمير يوسف كمال، تذهب وتعود، تستجدى الوساطة من هذا وذاك، ولم أحصل على الموافقة فى النهاية، لم يحدث هذا فى دار الكتب والوثائق فحسب، بل فى مصلحة الضرائب العقارية، ودار المحفوظات بالقلعة، بحجة أن الروائيين ليس من حقهم الاطلاع، أو أن الرواية ليست كالبحث العلمى الأكاديمى.
كما أن أرشيفات جرائد ومجلات هذه الفترة مهترئة وفى حالة يرثى لها، ومعظمها تالف أو مفقود. ويوسف كمال نفسه ليس مذكورًا كثيرا فى المراجع، إلا بشكل عابر، من خلال أخبار عن الصيد والرحلات. لكن كل هذا جعل الأمر أكثر تشويقًا، ودفعنى للإصرار على المضى فى المشروع.
ولم يكن طول فترة البحث سيئًا على كل حال، على العكس، كانت الطرق، فى العام الأخير، تُفتح -من حيث لا أدرى- على المزيد من المعلومات، وأظن، أننى لو تأخرت أكثر، لوجدت المزيد. ولذلك كله، استغرق البحث ٥ سنوات كاملة، لكن الكتابة نفسها لم تستغرق سوى ٤ شهور فقط.
■ خلال الـ٥ سنوات كان هناك الكثير من التوقف والمواصلة.. هل كتبتِ أعمالًا أخرى فى هذه الفترة ولم تُنشر؟
- كانت هناك جائحة فيروس «كورونا»، اختطفت عامًا ونصف العام من الزمن، ملأتنا بالذعر والترقب، كتبت خلالها روايتين لليافعين، نشرت إحداهما، ووصلت إلى قائمة جائزة «اتصالات» لأدب الطفل، وبصدد نشر الأخرى الآن، إلى جانب كتاب للرسائل، وضعت فيه جزءًا من تصورى عن العالم فى العزل الإجبارى.
■ بالتأكيد لكل عمل باعث، ما الذى دفعك لكتابة الرواية مع كل هذا الجهد وهذه المشقة؟
- العمل الأدبى غالبًا يحتوى على رؤى قريبة وأخرى بعيدة، تُفهم من مجمل العمل، القريبة كانت سيرة يوسف كمال، «أفندينا نجع حمادى»، حيث ولدت وعشت لمدة تزيد على ٤٥ عامًا، وحيث ورث عن أجداده أبعادية تقدر بـ ١٧ ألف فدان، وقصور وأراض وقيسارية ومحال وشوارع خاصة. كانت أبعاديته هذه مزرعة القصب التى عمل فيها معظم الناس، والباقى عمل فى مصنع السكر الذى بناه وتمتع بخيره الرأسماليون الفرنسيون والبلجيك.
بالطبع شكل يوسف كمال لغزًا محيرًا عند الناس هناك، من كان أجدادهم بمثابة «العبيد» عنده، من كان جدودهم خارج أسوار القصر، يعملون تحت الشمس وأمام الأفران الحامية وقيزانات سبك السكر العملاقة، وأحواض ترسب طين المرشحات. 
كلما أوغلت فى العمل تشكلت الرؤى الأشمل، عن أهل نجع حمادى ومصر كلها فى تلك الفترة، صراع الأجنحة على السلطة آنذاك، هل كانت مصر نفسها تهمهم أم لا. ولأنى أكتب من المستقبل «الآنى والمعاصر»، تدخل المقارنة بين ما كان وما هو قائم. ربما نجحت فى ربط الماضى بالحاضر وربما لا، لا أعرف، لقد نشر العمل وانتهى أمره بالنسبة لى، الحكم للقارئ، لكن هذا ما كان يشغلنى وقت الكتابة.
■ «رجل الخير- إعداد الموسوعة الجغرافية- مدرسة الفنون».. كلها أعمال ليوسف كمال أوردتها فى روايتكِ.. هل ترين أن كل ما وصلنا يحتاج إلى تنقيب وبحث؟ أن هناك سيرًا غير كاملة أو لها وجهتا نظر؟
- لا أجزم بوجود حقيقة كاملة واضحة وضوح الشمس فى أى شىء، اللهم فى أمور صغيرة لا تحتمل التأويل، كأن تجزم بأنك أكلت لحمًا على الغداء. مثلًا اقتطاع قصص تبرعه للجمعيات الخيرية ولفروع العائلة البعيدة عن الحكم عن سياق الصراع الداخلى لتلك الفروع، لا يمنحنا الحقيقة، انتزاع قصة افتتاح مدرسة للفنون من سياق صراع الأمراء للوصول إلى أريكة الحكم، وتولى الأمير أحمد فؤاد إدارة الجامعة المصرية وقتذاك، لا يمنحنا الحقيقة، حتى الموسوعة الجغرافية، كان يوسف كمال يعرب الكتب الأجنبية، ويؤلف أو يكتب له مسعود أفندى، كاتب ومترجم قلم الداخلية، كتبه عن الرحلات إلى الهند وإفريقيا، باللغة العربية، فلم وضع الموسوعة الجغرافية بالفرنسية؟
ومع جزمى بنقصان الحقيقة دومًا، لا أدعى أننى قدمتها فيما كتبت. السيرة اسمها: «يوسف كمال فى رواية أخرى»، هى رواية تخصنى، لا أكثر ولا أقل، ومع «التخييل الذاتى» الذى لا ينجو منه كاتب، ربما، أكون كتبت نفسى، أو نقلت خبراتى ورؤيتى، وما كان من الممكن أن أفعله لو حللت محل يوسف كمال. ما فعلته اجتهاد لا يخلو من شك، والشك أول مراتب اليقين، أو أول مراتب التفكير، وما أحوجنا للتفكير!
■ مع ذكر الكثير من الهوامش والمصادر، ما الذى جعل فكرة السرد الروائى تخطر ببالك؟ لماذا لم تقدمى العمل فى شكل كتاب بحثى مثلًا؟
- منذ روايتى «بحجم حبة عنب» استهوانى الاستقصاء والتوثيق، رغم أن خط الاستقصاء فيها كان ضئيلًا لا يمثل شيئًا بالنسبة للسرد، أو هو استقصاء عائلى محلى لمعرفة الجذور. وأرى أن كل رواية لا تخلو من الاستقصاء بشكل أو آخر.
فى رواية: «وطن الجيب الخلفى» التزمت الاستقصائية فحسب، المُتخَيل كان مبنيًا على الوثيقة. وهكذا فعلت مع «يوسف كمال»، لا أنكر ميلى إلى البحث، لكننى لست باحثة، أنا روائية، أقدم البحث فى صورة رواية، والرواية فى صورة بحث، التصنيف لا يهمنى، الشكل نفسه لا يهمنى أيضًا، ما يهمنى أن يكون نسيج العمل متماسكًا، كما أننى أميل إلى التجريب منذ بدأت الكتابة، لأنه ممتع مثل البحث، وفعل الكتابة نفسه.
■ فى السيرة الروائية أحيانًا تكون رؤى الشخوص على عكس راويها.. كيف تتعاملين مع هذا الأمر؟
- لا أستغل شخوصى كأقنعة إلا لضروريات، ربما تتسرب بعض آرائى إلى الشخصيات بلا وعى أحيانا، كما قلت: التخييل الذاتى يجعلنى أنا وشخصياتى كائنًا واحدًا. ما أظنه أننى أترك الحرية لهم فينطلقون بلا كابح، فى بعض الأحيان يدهشوننى نفسى، أنا من كونتهم من العدم. يفاجئنى أحدهم بموته، على الرغم من رغبتى فى استمراره على قيد الحياة، ويفاجئنى آخر بظهوره فى إحدى مراحل تنامى الحدث، على الرغم من اكتفائى بمن اخترته سابقًا.
ثمة لحظات يقودك فيها منطق العمل لا منطقك أنت، تصبح الشخصيات حقيقية أكثر مما تظن، هذه هى أسمى وأجل اللحظات، حتمًا يعرفها الكثير من الكتاب، ترتعش اليد، لأن الأحداث أو الوصف أو الشخصيات، تتشكل أمامك، أنت فقط تكتب الكلمات.
لماذا أوردتِ رحلة منى الشيمى البحثية وسفرها ودراستها ثم ذكرتِ ما حدث لـ«يوسف كمال».. كأنك جزء من الحدث نفسه؟
- كان لابد أن أتواجد فى العمل، ليست «نرجسية» أو تعظيمًا لرحلة البحث، بل هى مجرد حيلة فنية لوصل الماضى بالحاضر، ونثر رؤيتى الأشمل بين جنبات العمل، فقصة يوسف كمال وحدها لا تمنحنى تلك الرؤية، معرفة حجم الأبعادية قبل حركة الضباط تكتمل بحالها الآن، معرفة مصنع السكر لا تكتمل إلا بما آل إليه، الحكم على الفترة الملكية لا يتضح إلا بمقارتنها بغيرها. مات يوسف كمال فى فبراير 1967، وأنا ولدت بعده بعام واحد، أى أننى حللت محله منذ توفى وإلى الآن!
كما أن ضمير «الأنا» حيلة أيضًا لـ«مخاتلة» القارئ، وكأن يوسف كمال يعترف له وحده، من فراش الموت، وهو أقرب الضمائر إلىِّ وإلى كثير من الكتاب، ولك أن تلحظ كم الروايات التى تعتمد على تعدد الأصوات الآن، كل صوت يتحدث بضمير «الأنا».