الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

التثليث المسيحي في روح القرآن الكريم

حرف

يقولون إن «القرآن حمال أوجه» ويذهب المتصوفة إلى أن هناك أربعة مستويات لفهم القرآن الكريم، يتمثل المستوى الأول فى المعنى الظاهرى وهو المعنى الذى يقتنع به معظم الناس، ثم يأتى المستوى الباطنى. وفى المستوى الثالث يأتى باطن الباطن، أما المستوى الرابع فهو العمق. وأن القراءة بآياته دون تدبر ربما تتسبب فى البعد عن الغاية الحقيقية منها، والتى هى روح القرآن.

يقول الله فى سورة آل عمران «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»، أما المحكم فهو قطعى الدلالة على غرار آيات الأحكام والعبادات والتشريع البعث والجزاء، فى حين تتعلق المتشابهات بالآيات التى تتطلب قدرًا من التدبر لإزالة التناقض أو ربما القصور فى فهم المعنى الظاهر.

درجات الفهم القرآنى كانت الإشكالية الكبرى لدى فيما يخص ذكر الله حول المسيحيين، فقد اصطدمت أمواج عقلى الثائر بالتساؤلات مع نصوص الآيات الحكيمة. فكما جاء فى سورة المائدة ٧٣: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». وفى موضع آخر «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ». وفى المائدة ٧٢: «قَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ». 

 لو كان المسيحيون كفرة فكيف أحلَّ القرآن طعامهم والزواج منهم بينما حرَّم ذلك بالنسبة للكفرة والمشركين؟!

إذن وفق تأويل المفسرين فى الثقافة الإسلامية لمسألة الألوهية والمعنى الظاهر بالآيات سنجد أنفسنا بصدد مسلمات لا ينبغى أن يطرقها التشغيب، أبسطها أن التثليث شرك، وأن المسيحيين كفار بالنص القرآنى، لكن كيف يكون التثليث شرك والله تعالى يقول فى سورة البقرة « وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ»، وقد تزوج سيدنا محمد بماريا القبطية وتزوج سيدنا عثمان بن عفان بيهودية؟ ولو كان المسيحيون كفرة فكيف أحلَّ القرآن طعامهم والزواج منهم بينما حرَّم ذلك بالنسبة للكفرة والمشركين.

قدماء المفسرين يؤكدون أن آيات «إن الله ثالث ثلاثة» نزلت فيمن يعتبرون المسيح ابن مريم وأمه إلهين من دون الله

يحتج الفقهاء على ذلك بأن الآية الخاصة بالتحريم فى سورة البقرة وهى «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ» منسوخة بالآية رقم ٥ بسورة المائدة «اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذى أخدان»، وذلك على أساس أن «المائدة» نزلت بعد «البقرة»، وأن الله قد استثنى أهل الكتاب من الكفار والمشركين.

ثمة ضرورة هنا للتدبر قليلًا، فإذا كان الله قد استثناهم ونزع عنهم هنا صفة الكفر أو الشرك وأحل طعامهم وأباح نكاح المحصنات منهم فماذا عن قولهم إن «الله ثالث ثلاثة»، والأمر شبه محسوم، لا سيما وأن الآية الكريمة بدأت بـ«لقد»، وهى فى اللغة حرف يفيد التوكيد والتشديد والثبوت. 

القرآن الكريم لا يهاجم التثليث بالمعنى المتعارف عليه فى المسيحية

إن أصح الطرق للتفسير- كما يقولون- أن يفسر القرآن بالقرآن، وتفسير التثليث باعتباره شركًا قد لا يقبل الجدل أو التأويل أو أى تفسير آخر عند استقطاع أو تجاهل السياق القرآنى وربط حدى الآيات.. تمامًا كما يستند البعض إلى قوله تعالى فى سورة الكهف «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا «١٠٣» الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» للتدليل على فساد العمل، ويتجاهل ارتباط الآية بما جاء بعدها والذى يكشف سبب ذلك وهو «أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا». 

قدماء المفسرين وفى مقدمتهم ابن تيمية يؤكدون أن آيات «إن الله ثالث ثلاثة» نزلت فيمن يعتبرون المسيح ابن مريم وأمه إلهين من دون الله، حيث يقول ابن تيمية فى معرض كلامه عن الآيات: «فقوله تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة [المائدة: ٧٥] عقب قوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [المائدة: ٧٣]: يدل على أن التثليث الذى ذكره الله عنهم: اتخاذ المسيح والسيدة العذراء إلهين».

ويتفق الفخر الرازى فيما ملخصه: «أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. والذى يؤكد ذلك قوله- تعالى- للمسيح: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمِّى إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقوله: ثالِثُ ثَلاثَةٍ أى: أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة».

الرأى الثالث للسدى حيث يقول: «نزلت فى جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار»، قال السدى: «وهى كقوله تعالى: فى آخر السورة: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك» [المائدة: ١١٦]».

التساؤل البديهى: هل يؤمن المسيحيون بأن عيسى ابن مريم وأمه إلهين، أم أن الآيات نزلت فى طائفة بعينها منهم؟ 

لو حاولنا البحث والتقصى حول سبب نزول تلك الآيات سنكتشف أنها نزلت بإيجاز شديد فى الطائفة المريمية، وهى حركة هرقطة نشأت فى القرون الأولى للمسيحية، آمن بها مجموعة من المصريين يؤمنون بعقيدة التثليث فى إطار ثلاثة آلهة، ونادوا بأن مريم هى إلهة عوضًا عن كوكب الزهرة التى هى ملكة السماء، فكانوا يعبدونها، ولهذا أطلقوا على أنفسهم الـ«مريميين» أو «الكوليريديانيين» نسبة إلى الفطير الذى كانوا يقدمونه إلى العذراء. وقد لجأوا إلى الجزيرة العربية عقب طردهم من الكنيسة المصرية. وعاشوا بها على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ثم نزلت بهم الآيات.

وفقًا لكل ما سبق وعند ربط الآيات يتضح أن القرآن الكريم لا يهاجم التثليث بالمعنى المتعارف عليه فى المسيحية، وهو ما سأعرضه لاحقًا، لكنه يكفر الطائفة المريمية وهرطقات دخيلة على المسيحية الحقيقية، يرفضها المسيحيون أنفسهم. إذ لا يوجد مسيحى واحد على اختلاف طوائفهم يؤمن بتلك الفكرة، بل يكفرون من يعتقد فيها، ويعدونها إهانة فى حق الله والعذراء مريم. 

ومع ذلك تظل مصطلحات التثليث بالفكر المسيحى غامضة، وتبقى مفرداته التى هى الأب والابن وروح القدس تقتضى استيعاب المجاز اللغوى وليس الحرفى، والغوص أعمق من سطح الأدبيَّات التى نألفها.. فالذكر العزيز يقول «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا»، وكذلك «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» و«يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»، وغير ذلك من الصفات الواردة فى النصوص.. فهل فى ذلك تشبيه للخالق جلا وعلا بالخلق، أم أنه من الرمزية وسعة اللغة وطرق مخاطبتها لتقريب الصورة الذهنية بالخطاب القرآنى؟

الأمر ذاته ينطبق على النظرة المسيحية التى تشرح الثالوث على أنه واحد بثلاثة أقانيم، أى ثلاث صفات ذاتية غير منفصلة إحداها عن الأخرى، كما أن للإنسان الحى كيانًا «ذات»، وعقلًا و«نفس»، و«روحًا» لا تنفصل أثناء الحياة.. وكالشمس التى تعطى الضوء والحرارة والطاقة، وهى لا تتجزأ إلى ثلاث حين قيامها بهذا العطاء. 

وكما نؤمن بأن لله تسعة وتسعين اسمًا مشتملة على صفات له سبحانه تليق به وتناسب كماله، ولا يشبهه فيها شىء، مثل: الحكيم والعليم والسميع، كذلك المسيحية تصف الله بثلاث صفات لكيان واحد، لأن الله وكلمته وروحه ليس ثلاثة آلهة منفصلة من دون الله، إنما هى صفات ذاتية لله الواحد نفسه، كالوجود والحياة والعلم، وسموها الأب والابن والروح القدس. 

القاضى أبوبكر الباقلانى الملقب بشيخ السنة، وأحد كبار علماء عصره، حيث انتهت إليه رئاسة المذهب الأشعرى، يقول بالصفحة ١٦٨ من كتابه «الطمس فى القواعد الخمس»: «إذا أمعنا النظر فى قول النصارى، أن الله جوهر واحد وثلاثة أقانيم، لا نجد بيننا وبينهم اختلافًا إلاَّ فى اللفظ فقط، فهم «المسيحيون» يقولون إنه جوهر واحد، ولكن ليس كالجواهر المخلوقة، ويرون بذلك أنه قائم بذاته والمعنى صحيح، ولكن العبارة فاسدة.

أما الشهرستانى فيرى فى موسوعته الملل والنحل أن الله فى المسيحية هو واحد بالجوهرية، والأقانيم مثل الصفات الإلهية، وإذا كانت الأقانيم ثلاثة فإن الصفات الإلهية أكثر، بل ويذهب إلى أن وصفهم المسيح بأنه ابن الله من مجاز اللغة، كما يقال لطلاب الدنيا أبناء الدنيا، ولطلاب الآخرة أبناء الآخرة.

التوحيد المسيحى فى جوهره هو التوحيد القرآنى، والإسلام والمسيحية تعترفان بأن المسيح هو كلمة الله، وكما جاء بسورة العنكبوت -٤٦ «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا، آمنّا بالذى أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون».. إلهنًا وإلهكم واحد. وليس ثلاثة.

إن العلاقة التى طبعت الإسلام والمسيحية منذ فجر التاريخ، هى التقارب، ليس على صعيد العقيدة فحسب، بل على مستويات من تلامس المشاعر والمودة، وقد تجلى ذلك فى سورة المائدة، وهى ذاتها التى ورد بها إنكار التثليث فى الخطاب الإلهى لرسولنا الكريم {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}.

بنهاية المطاف لو كان القرآن كله قطعى الدلالة لما كانت هناك حاجة للتفكر والتدبر بغية إزالة أى شبه للتناقض أو الانفصال.. فالمعضلة الحقيقية فى قصور الفهم البشرى الذى طالما استعذت الله منه كلما قرأت آيات التثليث.. كان يقينى بأن روح القرآن أعمق من كل التفاسير هو ما اعتصمت به بمواجهة تعرجات النهر الهدامة التى من دونها كنت سأسقط فى فخ الشبهات.