السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مواجهة نيفين الكيلانى.. البكاء على أطلال وزارة الثقافة

نيفين الكيلانى
نيفين الكيلانى

لم يكن عميد الأدب العربى «طه حسين» هو أول من تنبه لأهمية دور مصر الثقافى والحضارى فقط، ولكنه كان أكثر من حلم باستعادة هذا الدور فى المنطقة كلها، وعندما أصدر كتابه الرائد «مستقبل الثقافة فى مصر» كان يشير إلى مشروع طموح لإعادة الاعتبار لمصر باعتبارها جامعة متكاملة لأكثر من ثقافة، وحضارة نشأت على ضفاف نيلها وبحريّها بدءًا من الحضارة الفرعونية، ومرورًا باليونانية والقبطية وانتهاءً بالعروبة والإسلام.. البحث عن هوية وطن كان مشروع رأى طه حسين أنه مسئولية المثقف المصرى قبل أن يكون مسئولية الدولة، وعندما عين وزيرًا للمعارف فى حكومة الوفد سنة ١٩٥٠ وطرح مشروعه الطموح لمجانية التعليم وعمل على تحقيق حلم أن تصبح «إدارة الثقافة العامة» بوزارة المعارف وزارة كاملة للثقافة تحمل هموم المثقفين والمبدعين المصريين إلى الشعب، وتنهى عزلة الجماهير عن تذوق روح الفن، كما نالت حقها فى التعليم الذى أصبح كالماء والهواء.. ومن هنا أصبحت الثقافة مع التعليم رئتى الشعب المصرى الحالم بوطن جديد فى عالم يقفز نحو التقدم والرفاهية. 

كان الكاتب والمفكر الكبير «فتحى رضوان» هو أول وزير للثقافة سنة ١٩٥٥، بعد أن أدركت ثورة يوليو أهمية دور الثقافة والفن فى معركتها الكبرى مع قوى تتربص بها من الداخل والخارج، ثم توالت أسماء وزراء صنعوا تاريخًا مجيدًا للثقافة المصرية سرعان ما احتلت بها ريادة المنطقة.. ثروت عكاشة الرائد العظيم ابن الجيش المصرى الذى تفرغ لتحقيق مشروعه التاريخى لبناء صرح الثقافة المصرية، والذى نجح فى صياغة علاقة محترمة بين الدولة والثقافة أنجزت مشاريع كبرى ومؤسسات ضخمة، وانفتحت على عالم جديد عبر النشر والترجمة والإنتاج.. ورغم الانهيار الجزئى لهذه المؤسسات فمازالت حتى الآن تُذكرنا بأسماء بعض من تولوا أمر هذه الوزارة سليمان حزين.. بدر الدين أبوغازى.. يوسف السباعى.. منصور حسن، والتى انتهت للأسف الشديد بأن وصف الرئيس السادات المثقفين «بالأفندية» و«الأرذال» ولن نبحث أسباب تداعى العلاقة بين الدولة والمثقفين «فليس هذا موضوعنا الآن»، ولكن انتقام الرئيس مبارك كان كافيًا بأن عين وزيرًا للثقافة لا يعرفه أحد، ولا يعرف أحدًا فى كل المجالات الثقافية، وأتبعه بوزير كان «لا يصافح» النساء.

الصفحة الثانية من العدد الحادى والعشرين

وأذكر هنا موقفًا طريفًا رواه لى شخصيًا الأستاذ سعد الدين وهبة الذى ظل وكيلًا لوزارة الثقافة لعقود ينتظر حقه فى وزارة يستحقها، ويعرف دهاليزها حتى أنه قال لى ساخرًا إنه أنفق وقتًا طويلًا أمام «التليفون» بانتظار مكالمة تكليفه بالوزارة التى لم تأت أبدًا.. حكى لى أن هذا الوزير كان يحضر معه إحدى الحفلات وفاجأه بسؤاله عن سيدة فنانة لا يعرف اسمها ولما أجابه الأستاذ سعد أنها الفنانة الشهيرة «سعاد حسنى» اندهش الرجل الذى يتولى وزارة الثقافة، وقال: مش حلوة زى السيما يعنى..!!

لماذا هذه المقدمة الطويلة..؟!

لأنى أزعم- وأرجو أن أكون مخطئًا- أن الدولة المصرية الطموحة إلى الوصول إلى الحلم الكبير بتحول مصر إلى قوة كبرى فى منطقتها أصبحت تعامل الثقافة بأقل كثيرًا مما تستحق من عناية، فمن ميزانية ضئيلة إلى قيادات فاقدة للطموح بلا حلم أو مشروع.. إلى تجاهل ملفات فساد ومشاريع تصفية وبيع أصول، وإلى تحويل الوزارة إلى مجرد منبر دعائى معادٍ للإبداع والتجديد إلى تجاهل كامل لصيانة ودعم مؤسسات تمهيدًا لانهيارها.. لدينا مئات من قصور الثقافة وكثير منها مجهز جيدًا يدمرها قطيع من موظفين لا يراقبهم أحد ولا يؤدون أى دور فى غياب كامل للخيال أو الرغبة فى أداء دورهم، حتى أصبحت هذه القصور خاوية على عروشها لا يرتادها أحد إلا فى المناسبات، «ولنا فى هذا تجارب محددة تدل على العمل على تنفير الناس والشباب عن ممارسة الأنشطة بحرية ناهيك عن الترغيب فيه».

كنت قد كتبت عن المشروع العظيم «حياة كريمة» مطالبًا بأن يهتم المشروع بالجانب الثقافى كمثل اهتمامه- الضرورى والملح- بالصحة والتعليم.. ولا بد هنا من التعبير عن الفرح بخبر قرأته فى «أهرام»، الإثنين، عن مسرح متنقل ضمن المشروع، تكرمت السيدة الوزيرة بحضور تدشين أول ٦ مسارح.. هناك إذن من يستمع لصدى أصواتنا الزاعق منذ زمن دون أن يكون لنا أى مصلحة سوى رفعة الوطن وتقدمه.

ذهبت منذ أكثر من سنة عقب تعيين السيدة الوزيرة إلى مقابلتها بناء على طلبها، واستمرت الجلسة فى مكتبها ما يزيد على الساعة تحدثت فيها عن هموم السينما المصرية، وقالت إنها لم تأت إلى الوزارة إلا لإنقاذ السينما المصرية، حدثتها عن تصورى لاستعادة تراث السينما وصيانته ومشروع الأرشيف السينمائى المصرى، وعن رؤيتى المتواضعة لكيفية النهوض بصناعة السينما المصرية، وغادرتها وأنا شديد التفاؤل بأنها سوف تُشكل لجنة لدراسة المقترحات التى طلبت منى صياغتها كتابة «وقد فعلت».. أما ما حدث بعد ذلك فالكل يرى.. العدم المطلق.. المستشار المتفوق فى «وقف كل المراكب» السائرة والتى تهم بالسير.. والقيادات الفاقدة للطموح، والتى من شروطها الرئيسية «الولاء التام» وعدم الولاء للقيادة السابقة، والقطيعة شبه الكاملة إلا مع المطبلين للدور المعدوم لوزارة من أهم وزارات الدولة.. والغياب الكامل لأى «كاريزما» أو تأثير.

نيفين الكيلاني

عندما انتهى عهد الوزير السابق «فاروق حسنى» الذى قضى بالوزارة أطول مدة فى التاريخ الحديث قلت لمحدثى الذين لم يكن يعجبهم أداءه إننا سوف نندم بشدة على «زمن» فاروق حسنى.. صحيح أنه كان يدعى أنه يمتلك من «كاريزما» قادرة على إدخال المثقفين إلى «الحظيرة».. ولكنه كان عارفًا بأقدار الناس وقادرًا على إدارة الاختلاف معهم، ولديه مشروع طموح فى جميع مجالات الثقافة بدءًا من العمارة حتى صندوق التنمية الثقافية «الذى انتهى دوره الآن وإن ظل موظفوه يتقاضون ذات الأجور والمكافآت».

نحن فى حاجة إلى وزارة جديدة تمامًا.. وإلى روح جديدة تدب فى أوصال الثقافة المصرية.. وزارة توقف عمليات البيع والسمسرة والتصفية، وتحلم باستعادة دور مصر وهوية مصر وشخصية مصر وقوتها الناعمة.. والبداية لا بد أن تكون بمراجعة موضوع «الشركة».. ومجلسها وعضوها المنتدب.. كفى تصفية، وكفى إهدارًا للمال العام، وكفى تفريطًا فى حق مصر الثقافى ودورها الرائد.

لك الله يا مصر ولنا الصبر.