الثلاثاء 03 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نظرة يا وزير الثقافة.. عملية إجهاض مؤتمر الرواية

العدد التاسع والعشرين
العدد التاسع والعشرين

- على الدكتور أحمد فؤاد هنو أن يفتح هذا الملف على الفور وأن يضع وراء ظهره تسويفات الموظفين وتكاسلهم وحججهم

فى بدايات العام ١٩٨٩ كان الدكتور جابر عصفور أستاذ النقد الأدبى بجامعة القاهرة، يجلس مع عدد من كبار المثقفين والمهتمين بالأدب، يفكرون فى الطريقة المناسبة للاحتفال بفوز أديبنا الكبير نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وكان الإعلان عن حصوله على الجائزة قد مرت عليه أيام قليلة فقط. 

من بين الأفكار التى طرحت فى هذا الاجتماع كان عقد ملتقى عربى للرواية، ينطلق من مصر، تحتفى فيه بالمنجز الروائى العربى، وأن تمنح خلاله جائزة لروائى عربى تحقق من خلال تجربة مكتملة. 

مرت الأيام والسنون والدكتور جابر عصفور يحمل الفكرة فى عقله وقلبه، حتى أصبح أمينًا للمجلس الأعلى للثقافة، فقرر أن يخرج الحلم من طيات ذاكرته ويجعله واقعًا، وبالفعل عقدت الدورة الأولى من «ملتقى القاهرة الدولى للإبداع العربى» فى دورته الأولى فى العام ١٩٩٨. 

الدكتور جابر عصفور

فى الدورة الأولى للملتقى كان نجيب محفوظ حاضرًا بقوة، فقد كان هو من أوحى بفكرة الملتقى، ولذلك أهديت الدورة إليه بمناسبة مرور عشر سنوات على حصوله على جائزة نوبل، وخصصت لمناقشة خصوصية الرواية. 

تعاقبت بعد ذلك دورات الملتقى الذى أصبح يعرف فى الأوساط الثقافية باسم «مؤتمر الرواية»، وكان هذا اعترافًا به على اعتبار أنه المؤتمر الذى يمنح شرعية أدبية لمن يشاركون فيه، وكانت الجائزة التى يمنحها لأديب عربى كبير بمثابة جائزة نوبل محلية. 

فى العام ٢٠٠٣ عقدت الدورة الثانية من الملتقى، وكانت سببًا فى منحه زخمًا كبيرًا، بعد أن رفض الروائى الكبير صنع الله إبراهيم الجائزة فى حركة استعراضية سياسية، أثارت وقتها جدلًا كبيرًا. 

أعتقد أن الجميع خرج من رفض صنع الله للجائزة منتصرًا. 

النظام الذى تقبل ما قاله صنع الله بصدر رحب. 

ووزارة الثقافة التى نظمت الملتقى وكان وزيرها فاروق حسنى يقف على المسرح أثناء الحركة الاستعراضية فاستوعبها ببراعة. 

الروائى الكبير صنع الله إبراهيم 

والملتقى الذى أصبح شعبيًا يعرفه الجميع وليس المهتمون بشأن الرواية فقط.

وأخيرًا صنع الله إبراهيم الذى بدا فى عيون الكثيرين بطلًا قادمًا من كتاب الأساطير. 

على تعاقب السنوات توالت دورات الملتقى، فعقدت الدورة الثالثة فى فبراير ٢٠٠٥، والرابعة فى فبراير ٢٠٠٨، والخامسة فى ديسمبر ٢٠١٠، والسادسة فى العام ٢٠١٥، ثم كانت الدورة السابعة والأخيرة فى أبريل ٢٠١٩، ثم ظل الأدباء العرب والمصريون فى انتظار الدورة الثامنة التى لم تعقد حتى الآن، رغم مرور ما يقرب من خمس سنوات على الدورة الأخيرة. 

فى سبتمبر من العام ٢٠٢٢ أعلن المجلس الأعلى للثقافة عن إقامة الدورة الثامنة من الملتقى فى الفترة من ٢٨ نوفمبر وحتى ١ ديسمبر ٢٠٢٢، وحدد موضوعها بعنوان «الرواية العربية.. ظواهر جديدة»، وقرر أن تحمل اسم مؤسس الملتقى الراحل الكبير جابر عصفور. 

وصلنا إلى التاريخ الذى حدده المجلس الأعلى للثقافة للدورة الثامنة، لكن لم نجد شيئًا، ووقتها خرج الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة ليقول إن الملتقى سيعقد فى الثلث الأول من العام ٢٠٢٣، ومر الثلث الأول بل مر العام ٢٠٢٣ كله ولم يعقد الملتقى، بل لم يعقد حتى الآن، لأسباب غير معروفة، وحتى لو سمعنا كلامًا عن التنظيم أو التمويل أو قيمة الجائزة التى قررت الدكتورة إيناس عبدالدايم وزيرة الثقافة زيادتها أثناء الدورة السابعة إلى ٢٥٠ ألف جنيه، فلن تكون الأسباب منطقية أو مبررة لتوقف الملتقى. 

إيناس عبدالدايم

خلال السنوات الماضية وبينما ملتقى القاهرة فى حالة من الترنح ظهرت على السطح عدة جوائز عربية من دول مختلفة، أصبحت هدفًا ومقصدًا للأدباء والروائيين العرب ربما للقيمة المالية المليونية للجوائز. 

لكن ما يشهد به الجميع أن قيمة هذه الجوائز رغم قيمتها المادية العالية التى تحول حياة من يحصلون عليها من أدباء يبحثون عن الملاليم إلى أصحاب ملايين، فإن جائزة الرواية التى كانت تمنح من القاهرة رغم ضعف قيمتها المادية كانت الأهم والأبقى، لأنها كانت تعنى لمن يحصل عليها اعترافًا من القلب الصلب الذى لا يزال قادرًا على الإبداع، ويقف وراءه تاريخ من القيمة والجدارة. 

لقد سمعت كلامًا كثيرًا من المسئولين فى المجلس الأعلى للثقافة عن عدم استئناف الملتقى، وعن عدم عقد دورته الثامنة التى أعلن عنها، وتم تحديد محاورها، وأعدت أوراقها، لكنه فى مجمله كلام متهافت لا يسمن ولا يغنى من جوع، بل هو كلام فى النهاية يؤكد أن أمر الملتقى أصبح فى يد مجموعة من الموظفين الذين لا يدركون فى الحقيقة قيمة مؤتمر الرواية، ولا يهتمون فى الغالب أن تحتفظ مصر بريادتها وجدارتها وأحقيتها فى أن تقود، وهو ما ترك فرصة للأطراف أن تتحرك بعيدًا عن القلب، وهو تحرك لا يمكن أن نلوم عليه أحدًا، بل لا بد أن نلوم أنفسنا. 

ما يغيظك بالفعل أن المجلس الأعلى للثقافة كان قد أعد كل شىء للدورة الثامنة، وعندما تعود إلى أوراقه ستجد أنه أعد المحاور على النحو التالى:

أولًا: الرواية العربية- تناولات جديدة «رواية المنفى والهجرة والهويات الملتبسة، روايات التنوع العرقى». 

ثانيًا: الرواية وجماليات النوع الأدبى «البياريسك الجديد، زحزحة حدود النوع الروائى، إعادة اكتشاف رواية الرسائل، وجهات جديدة فى السرد الذاتى، صعود رواية التصوف، ومدن الديستوبيا، رواية الفانتازيا، مسارات جديدة فى رواية البحث». 

ثالثًا: الرواية والفنون «السينما- المسرح- الفنون التشكيلية- الموسيقى». 

رابعًا: الرواية العربية ووسائط الاتصال الحديثة «الرواية الرقمية، التساؤلات حول الرواية التفاعلية، لغة التواصل الافتراضى». 

خامسًا: الرواية العربية وأسئلة الانتشار والتلقى «دوائر النشر والتوزيع، جماليات التوصيل الجديدة، الرواية وهامش الحرية، الرواية الرائجة». 

سادسًا: خلخلة مركزية الخطاب الروائى «الأشكال الجديدة لتقنيات الكتابة الروائية». 

سابعًا: من ظواهر الحوارية الروائية «الكتابة على الكتابة، الرواية فى الرواية (الميتاسرد)». 

ثامنًا: روايات الكاتبات العربيات «رؤى وقضايا وتقنيات سردية جديدة، تجليات الأبوية، الجسد، الخطاب المغاير». 

تاسعًا: «الرواية والموروث- مقاربات جديدة للتاريخ، الرواية ذاكرة للمكان، توظيف الموروث الشعبى». 

أما عن الموائد المستديرة فضمت جابر عصفور ناقدًا روائيًا، الرواية والفنون- صياغة جديدة للتفاعل، حوار الأجيال الروائية، الرواية وقضايا جديدة فى النشر والتوزيع. 

عندما تعيد قراءة محاور المؤتمر، ستكتشف أنك أمام مهمة أدبية عظيمة، وعمل تم الإعداد له من حيث المحتوى على أعلى درجة، عمل جاد يستحق أن نبذل جهدًا لتحقيقه، لكن يظل السؤال هو: لماذا تعطل المؤتمر؟ لماذا دخلنا فى نفق مظلم من أحاديث متكررة ومتناقضة صادرة عن المسئولين عن المجلس الأعلى للثقافة، لا نستفيد منها بشىء، بل نظل نبكى بها على لبن المؤتمر المسكوب. 

الدكتور هشام عزمى 

إننى لن أعيب على المسئولين عن المجلس الأعلى للثقافة كثيرًا، ولن أعلق الجرس فى رقبة الدكتور هشام عزمى الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة هو ورفاقه، رغم أنهم يستحقون ذلك، ولن أطالبهم بنفخ الروح فى المؤتمر الذى تم إجهاضه، فقد لا تكون لديهم إمكانية ذلك، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وكفاهم الله شر القتال وخيره لإحياء مؤتمر كان قبلة الروائيين العرب ومقصدهم وغاية مرادهم. 

لكننى أضع هذا الملف بكل تفاصيله أمام وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، وأطالبه بنظرة جادة وحقيقية فى اتجاه الملتقى، الذى لا يليق أبدًا أن يتأخر فى قائمة أولوياته، أو يشغله عنه عمل آخر فى وزارة الثقافة، وأنا أعرف أن لديه ملفات كثيرة. 

على الدكتور أحمد فؤاد هنو أن يفتح هذا الملف على الفور، وأن يضع وراء ظهره تسويفات الموظفين وتكاسلهم وحججهم، بل عليه ألا يلتفت إلى الكلام الذى يقال عن الميزانيات وتمويل المؤتمر، فيمكنه أن يعيد هيكلة ميزانية وزارة الثقافة بالكامل لتوفير ميزانية المؤتمر ورفع قيمة الجائزة إلى درجة مليونية تليق باسم مصر، ويمكنه أن يفعل ذلك بسهولة. 

لقد تعودت عندما أجلس مع أحد المسئولين لمناقشته فى مشكلة من المشاكل التى تعترض طريقه، أو فى إخفاق من إخفاقاته الإدارية، أن يضع أمامى ألف سبب ويسوق فى طريقى ألف مبرر، المهم عنده ألا يظهر مقصرًا فى عمله، وهى صيغة لا تليق أبدًا فى العمل الثقافى، فالمسئول الذى لا يستطيع القيام بعمله على الوجه الأكمل عليه أن يرحل، لا مكان للتبرير ولا للحجج، وليأت مسئول آخر يمكنه أن يتجاوز العقبات ويعبر على التحديات، فنحن نتحدث عن دولة اسمها مصر، ولن نلتفت إلى المناصب ولا إلى من يشغلونها. 

لقد طلبت من رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى أن يقوم بثورة على جهازه الحكومى، أن يغير ويبدل ويضع الأكفاء الذين يقدرون على تحقيق أهداف الدولة بجدارة عالية، ولا يستسلم للموجودين من حوله، هؤلاء الذين يجيدون لغة الموظفين التى تبدو فيها كل الأمور تمامًا، لكن فى الواقع لا يوجد شىء تمام على الإطلاق. 

أحمد فؤاد هنو

الأمر نفسه أكرره الآن مع الدكتور أحمد فؤاد هنو، هو يحتاج بالفعل إلى ثورة إدارية فى وزارة الثقافة، أن يعيد النظر مرة أخرى فيمن يعملون إلى جواره، فالهدف أن يكون هناك إنجاز، لا نهدف أبدًا إلى تسويد الأوراق وتستيف الدفاتر، وتسكين الأمور. 

ولتكن البداية من هذا الملف الذى هو ليس مجرد ملتقى أو مؤتمر، نقيمه بشكل احتفالى، إننا نريد أن يعود الزخم مرة أخرى إلى القاهرة قلب الثقافة النابض، ولن يحدث ذلك إلا من خلال إجراءات واضحة وفعاليات كبيرة يتم من خلالها تصدير قدراتنا الحقيقية على الأرض إلى الآخرين، بعد أن اعتقدوا أننا فقدناها إلى الأبد، أو على الأقل يوهمون أنفسهم ويريدون أن يوهمونا به. 

إننى أرصد مندبة كبيرة يتحلق فى ساحتها المثقفون المصريون، يبكون على ما جرى، رغم أننا نملك ما نعيد به أنفسنا إلى قلب المشهد. 

يحتاج المثقفون المصريون فقط إلى من يجمعهم حوله، من يستعين بهم، من يفتح لهم مكتبه، وأعتقد أن الدكتور هنو يقدر على ذلك، بل يريده ويحتاج إليه. 

لا أريد من الدكتور أحمد فؤاد هنو ردًا على ما كتبته هنا، ولا أنتظر من المسئولين فى المجلس الأعلى للثقافة تفسيرًا أو تبريرًا لإجهاض مؤتمر الرواية بهذه الصورة المؤسفة، نريد من الجميع تحركًا سريعًا يليق بمصر وبمثقفيها وأدبها وإبداعها، ولن نرضى بغير ذلك أبدًا. 

فهل يفعلها وزير الثقافة؟ 

أم أننا فسنظل نأسف ونبكى على ما فاتنا فى أرض الانتظار كثيرًا؟