مناقشة هادئة لقضية ليست كذلك... لا الأسوانى مقيد.. ولا مغيث مكمم
- علاء اختار أن يرحل عن البلد لظروف تخصه فلديه أجندته وأهدافه وأعتقد أنه يسعى إلى تحقيقها بالطريقة التى تروق له
- ما أتفق فيه مع العصفورى ويصل إلى درجة التطابق هو تحديده لعدونا الأكبر وهو الرجعية الثقافية
- هل ما يرفع به صوته أى معارض لا بد أن نسلم له وبه دون أن نعود عليه برأى نرى أنه صحيح من وجهة نظرنا؟
قبل أن أقرأ روايته «مسبار الخلود»، لم أكن أعرف عالم الكاتب والأديب والمثقف الكبير، شريف العصفورى.
أعجبتنى الرواية- على ما فيها من رموز وإشارات قد لا تروق لى- فبحثت عن بقية أعماله، وفى مكتبتى الآن تتجاور أعماله القصصية والروائية وفى أدب الرحلات، وهى: «عشرون مدينة فى أربعين عامًا»، و«عم جاد بياع العيش»، و«رؤى وروايات»، و«زيارة لظل شجرة»، و«تسالونيكى»، و«عودة عوليس»، و«مقهى براديسو».
تابعت، كذلك، ما يكتبه من آراء وما يطرحه من أفكار، وما يدخله من اشتباكات على حسابه الشخصى على فيسبوك، وفى هذه المساحة وجدتنى أختلف معه فى الكثير، وأتفق فى القليل جدًا، لكن فى كل الحالات أراه واضحًا فى مواقفه، لا يمسك العصا من المنتصف، ولا يحاول التكسب من المواقف المراوغة الغامضة المريبة، يعلن عما يراه صحيحًا بوضوح، وربما ببعض الحدة، ولا يتراجع عن المناقشة والحوار، والرد على من يختلفون معه.
التفتُّ أيضًا إلى صالونه الثقافى والأدبى الذى يعقده شهريًا- كما يعلن على صفحة الصالون- لنشر المعرفة حول العناوين المهمة، سواء الثقافية أو الأدبية، وهو نشاط مجتمعى يخرج المثقف من قوقعته وبرجه العاجى إلى التفاعل مع قضايا المجتمع، ففى مناقشات الصالون حالة من الحوار المستمر الناضج، وقد عرفت مِن بعض مَن يحضرونه أن العصفورى لا يفرض توجهه أو أفكاره على مسار الصالون، بل هو مجال حر ومفتوح للنقاش.
شريف مولود فى العام ١٩٥٩ بمدينة بورسعيد، ويمكننا أن نصفه بالرحالة بحكم عمله وتجربته، ففوق حصوله على ماجستير العمارة البحرية من جامعة نيوكاسل ببريطانيا، وماجستير إدارة الأعمال من جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، فقد تنقل بين الجزائر وهولندا وبريطانيا والولايات المتحدة والإمارات وروسيا.
هذه التجربة الحياتية العريضة جعلته يعتقد بشكل عملى بالديمقراطية والليبرالية، وجعلته يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن التعليم هو الطريق الصحيح والسوى لكل ما تتطلع له الشعوب من نهضة وتحقق.
فى واحدة من مشاركاته الأخيرة عبر المنتديات واللقاءات الإلكترونية صاغ ما يمكننى اعتباره منهجه فى الحياة.
يقول: رداءة التعليم هى ما تعوقنا عن الاستجابة لليبرالية، لدينا قسط لا يستهان به من تمجيد الذات والماضوية وكُره الآخر والإيمان المطلق بنظرية المؤامرة، لكن لدينا خطابًا عامًا وقضايا وأحزابًا سياسية مبنية على مقدمات خطأ، هنا يأتى دور التعليم الجيد، المجال التنويرى، الإعلام، الصحافة، النقد، تكمُن الديمقراطية فى خلطة مرعبة، وهى حكم الأغلبية الذى ينطوى على مشاكل كبرى، الدستور الجيد هو الذى يحافظ على رأى الأغلبية المتعلمة ذات الرؤية فى مواجهة القطعانية الكبيرة.
يمكننى، بتفكيك بسيط، أن نصل إلى جغرافية عقل شريف العصفورى، كيف يفكر وما الذى يريده، نظرته للسياسة، للثقافة، للإعلام، للحياة بشكل عام، وساعتها سيكون من حقك أن تختلف أو تتفق معه، فهذا شأنك معه.
مع اختلافى الكبير مع العصفورى إلا أننى أحمل له تقديرًا كبيرًا، وهو ما جعلنى أتوقف أمام رسالته إلىّ، التى علق من خلالها على ما نقوم به هنا، فى جريدتنا «حرف».
فى الرسالة جزء خاص أحتفظ به لنفسى، أما الجزء العام فأعتقد أنه من حق قراء «حرف» أن نتشاركه معًا.
يقول العصفورى: مجلة حرف مجلة أدبية إذا كان لى الاقتراح، شكلها ومضمونها جميل ومفيد ثقافيًا، أتفهم أن تختلف الذائقة والمرجعيات الفكرية، لكن يحزننى جدًا الإتيان بكاتب، أو روائى مقيد، مكمم الفم، ثم يكون مادة للتصفية المعنوية أو الهجوم الشخصى البعيد عن موضوعَى الثقافة أو النقد الأدبى.
يضيف العصفورى: حدث ذلك عدة مرات، ولكن فى مرتين كانتا مؤسفتين- بالنسبة لى- كمال مغيث وعلاء الأسوانى، أفهم أن بعض الإعلام يحقق مكاسب توزيع- مقروئية بالمعارك «الثقافية»، لكن الموضوع فى الحالتين لم يكن ثقافيًا، بل كان سياسيًا.
ويصل العصفورى إلى خلاصة ما يعبر عن رأيه وموقفه.
يقول: ظنى واعتقادى أنه برغم اختلافاتنا الفكرية، فإن عدونا الأكبر هو الرجعية الثقافية والسلفية الأيديولوجية، ربما الأفيد للوسط الثقافى والمجتمع عامة هو حشد التيارات المدنية، وليس تشتيتها مهما كانت الإغراءات أو المبررات.
لم أتعامل من اللحظة الأولى مع رسالة الأديب الكبير على أنها مجرد تعليق على معالجة مهنية قمنا بها، تناولنا من خلالها رأيًا كتبه كمال مغيث على صفحته الخاصة، بعد أن امتنعنا عن نشره فى جريدة «الدستور»، وكان يتحدث فيه عما يريده المثقفون من الرئيس فى ولايته الجديدة، أو وضعنا علامة استفهام على توصيف حرَصَ علاء الأسوانى على إثباته لنفسه على ظهر روايته الجديدة، قاله فى حقه روبرت فيسك، دون دليل، أو مرجعية.
فما يقوله يفتح النقاش حول عدد من النقاط المهمة، التى من الضرورى أن نفصلها، ليس من باب أن ما أقوله هنا هو الحق المطلق، ولكن على الأقل لندير حوله نقاشًا عامًا.
يرى العصفورى أننا جئنا بروائى مقيد، وكاتب مكمم الفم.
وهنا يقصد علاء الأسوانى، وكمال مغيث.
وهى مغالطة ومفارقة للواقع، فلا علاء الأسوانى مقيد، ولا كمال مغيث مكمم الفم، فلدى كل منهما مساحات يتحرك فيها فى المجال العام، ويصل ما يقولانه إلى الرأى العام، فالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعى جعلتا التقييد والتكميم أسطورة، لا محل لها من الإعراب الآن، فكل منهما يقول ما يريد، فى الوقت الذى يشاء.
علاء اختار أن يرحل عن البلد لظروف تخصه، فلديه أجندته وأهدافه، وأعتقد أنه يسعى إلى تحقيقها بالطريقة التى تروق له، وهو لا يكف لا عن الكتابة، ولا إذاعة الفيديوهات التى يسجلها، وكمال مغيث يكتب على صفحته، ويتحدث إلى الصحف المختلفة، ويشارك فى الندوات، وكوننا رفضنا أن ننشر له رأيًا، فلأنه كان يحمل مغالطات، وليس لأنه يقول كلامًا معارضًا، فقد شارك فى جلسات الحوار الوطنى وقال ما لديه.
فأى تقييد وأى تكميم يعانيان منه؟
هذه المغالطة الأولى تقودنى إلى المغالطة الثانية.
فعندما ناقشنا ما قاله مغيث، وعلقنا على ما نسبه الأسوانى لنفسه، لم يكن فى ذلك أى تصفية معنوية، أو هجوم شخصى، ولم يكن ذلك بعيدًا عن موضوعَى الثقافة أو النقد الأدبى.
أولًا: لأننا لم نقترب من أداء أو سلوك أو حياة علاء ومغيث، ولا نهتم بما يقومان به فى حياتهما الخاصة، بل كان ما يقولانه هو محل الاشتباك والنقد، الذى أعتقد أنه من حقنا أيضًا، ولو لم نقم به فإننا نكون مُقصرين فى حق مهمتنا، وفى حق الرأى العام.
ثم إننا نضيق فعلًا- وأتمنى أن يتسع لى صدر الصديق شريف العصفورى- بهذه الحالة التى تمنح المعارضين، أو من يقدمون أنفسهم على أنهم كذلك، الحق كل الحق، فى أن يقولوا ما يريدون، ويكتبوا ما يشاءون، ويصادروا نفس الحق ممن يحاولون أن يناقشوهم فيما يبدون من آراء، فليس معقولًا أن تكون الحرية فى اتجاه واحد، والإيمان بالليبرالية يجب أن يشمل الجميع.
فهل كل ما يقوله علاء صحيحًا؟
وهل كل ما يكتبه كمال حقًا؟
وهل ما يرفع به صوته أى معارض لا بد أن نسلم له وبه، دون أن نعود عليه برأى نرى أنه صحيح من وجهة نظرنا؟
وإذا كان العصفورى يعتبر أن النقاش تصفية معنوية أو هجومًا شخصيًا، فإن ما يقوم به المعارضون يدخل فى خانة التصفية المعنوية، والهجوم الشخصى، وعليه فيجب أن يتوقف الجميع عن الكلام، فهل يقدر أحد على تحمل تبعة ذلك؟
يذهب العصفورى إلى أن ما فعلناه مع الأسوانى ومغيث لم يكن ثقافيًا، بل كان سياسيًا، وهو ما أعتبره المغالطة الثالثة فى رسالته التى خرجت من حدود الخاص إلى العام، ووجه المغالطة أننا كنا نناقش ما قالاه، دون أن نتطرق إلى موقفهما السياسى، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية وهذا هو الأهم، فلا يوجد فصل فى الحقيقة بين ما هو سياسى وما هو ثقافى.
لا أميل إلى التفتيش فى النوايا، ولا أحكم على الناس بالظن، ولا يشغلنى ما يخفيه أحد ويعلن غيره، لكن ألا يتفق معى العصفورى أن علاء ومغيث يخلطان ما هو سياسى بما هو ثقافى، بل إنهما كثيرًا ما يستخدمان الثقافة لأهداف سياسية، وهو ما يتضح فى طرحهما وطرح آخرين، ولو فرضنا أننا فعلنا مثلما يفعلان، فهل حرام على بلابله الدوح حلال على الطير من كل اتجاه سياسى وموقف فكرى؟
ما أتفق فيه مع العصفورى، ويصل إلى درجة التطابق هو تحديده لعدونا الأكبر وهو الرجعية الثقافية والسلفية الأيديولوجية، وهو عدو يحتاج منا أن نتكاتف جميعًا دون تشتيت.
لكن هل يحرص المعارضون على ذلك أيضًا؟
هل يحملون قناعة كاملة بأن هذه هى المعركة الحقيقية التى كتب علينا أن نخوضها؟
لقد منحت النخب الثقافية على مدار عقود لمن يحملون لواء الرجعية الثقافية والدينية شرعية كاملة على خريطة مجالنا العام، وكانوا خدمًا فى محاريبهم، أوردونا موارد التهلكة أكثر من مرة، احترفوا الكلام الذى أصبح مُعادًا ومكررًا لا فائدة منه، ولا له.
إننى أضم صوتى لصوت شريف العصفورى، أقول ما يقوله فيما يخص عدونا المشترك، لكننى أسأله: هل قام الجميع بما عليهم فى مواجهة هذا العدو؟ أم أننا فقدنا البوصلة والاتجاه وضللنا الطريق، وذهبنا للسير فى حوارٍ وأزقة وشوارع جانبية، جعلت مجموعنا صفرًا كبيرًا؟
لقد تغاضيت عن غمز ولمز شريف العصفورى، وهو يشير من طرف خفى إلى الإغراءات والمبررات، ربما اعتقادًا منه أن المعارضين لا يربحون من مواقفهم وآرائهم وأفكارهم شيئًا، وأعتقد أنه يعرف أن المعارضة فى بلادنا تدر على أصحابها أضعاف أضعاف ما يجنيه المؤيدون، الذين يحلو للمعارضين أن يكيلوا لهم الاتهامات التى تدخل فى باب التصفية المعنوية والهجوم الشخصى.
إننى لا أضع ما أقوله فى مواجهة ما طرحه شريف العصفورى، فما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأعتقد أننا فى حاجة إلى إزالة جدار عدم الثقة بين القوى المدنية جميعها حتى تستطيع أن تخوض معركتها الكبرى ضد عدوها الأكبر، لكن الأزمة ليست فينا يا صديقى، بل فى هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، ولا بد أن نسير خلفهم مقيدين ومكممين دون أن نسأل أو نناقش أو نعترض.
أزمة المثقفين المصريين حتى لو كانوا فى قمة الليبرالية أو مؤمنين إلى حدود الحافة بالديمقراطية أنهم لا يختلفون فى قليل أو كثير عن قادة ورواد الرجعية الثقافية والدينية، فالجميع لا يرى فى الناس إلا قطيعًا لا بد أن يسمع ويطيع ويساق.. وهى دائرة لن نستطيع أن نخرج منها إلا بمواجهة شاملة ومصارحة عامة، ونقاش ممتد وموصول ومتواصل عن أزماتنا الحقيقية.. وبغير ذلك سنظل فى مكاننا لا نتحرك خطوة واحدة إلى الأمام.