الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

درس مجانى لكل المثقفين العرب.. «مليحة».. الرصاصة الدرامية الأولى

افتتاحية العدد الثالث
افتتاحية العدد الثالث عشر

«يديعوت أحرونوت» ذهبت إلى أن «مليحة» يتعمد تشويه صورة الإسرائيليين فى منطقة الشرق الأوسط

إسرائيل شككت فى المسلسل وأساءت إليه حتى تفسد حالة التلقى المتوقعة

ظلت فكرة مسلسل «مليحة» مخبوءة فى عقل وقلب صاحبها، حتى قررت الأقدار أن أوانها قد آن.

منذ سنوات وصاحب الفكرة وحامل الحكاية يحلم بأن يعرف العالم قصة «مليحة». 

«مليحة» الأولى الحقيقية كانت طفلة تحمل على كتفيها أربع سنوات، فقدت أسرتها الصغيرة فى طرابلس، ورفضت عائلتا والديها تسلمها لخلافات بينهما؛ نتيجة الصراع بين الأشقاء فى غزة والضفة. 

أما «مليحة» الثانية الدرامية، فهى بطلة أول مسلسل درامى مصرى يعرض القضية الفلسطينية دون مواربة، يقتحم بابها دون حسابات، ويذكّر العالم بسرديتها الحقيقية بعيدًا عن لعبة المصالح والتوازنات وأرقام المكسب والخسارة. 

عاشت «مليحة» الدرامية مع أسرتها فى ليبيا، بعد أن تركت فلسطين مع جديها بعد أحداث الانتفاضة فى العام ٢٠٠٠، وتظل هناك حتى تضطر الأسرة إلى مغادرة الأراضى الليبية بعد احتراق الأرض تمامًا وسيطرة الجماعات الإرهابية على كل شىء، وبعد أن تفقد اثنين من أسرتها، لتبدأ رحلة العودة إلى أرضها مرة أخرى، وسط صراعات وعقبات لا قبل لبشر بها. 

فى الأتوبيس الذى يحمل الأسرة، والذى تجلس فيه «مليحة» إلى جوار جدها وجدتها، تسأل الجدة: رايحين على فين؟، فيرد الجد: رايحين على مصر.. ما لنا إلا مصر. 

سيكون من العبث وإهدار الوقت فيما لا يجدى إذا تعاملنا مع «مليحة» على أنه مجرد مسلسل درامى يتابعه الناس، ثم سرعان ما ينسونه فى زحمة الأحداث التى لا تتوقف من حولنا. 

يمكننا اعتبار المسلسل «رصاصة درامية»، وحتى نفهم معًا ما أذهب إليه، فعلينا أن ننظر إلى الخريطة من جديد. 

حتى تكون وحشًا ليس شرطًا أن تقوم بالقتل. 

ولكن يمكن أن تصير كذلك عندما ترى القتل وتصمت. 

ويزداد توحشك عندما ترى القتل فتباركه وتعين فاعليه. 

هذا ما يحدث على وجه التحديد فى أرض فلسطين، ليس بداية من الساعات التى أعقبت عملية «طوفان الأقصى» فى ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، لكن من اللحظة التى قررت فيها العصابات اليهودية سرقة واغتصاب أرض فلسطين بالكامل. 

ظللنا طوال العقود الماضية نصرخ، نلعن إسرائيل وندين كل ما تفعله، نخرج فى مظاهرات حاشدة يشارك فيها ملايين من الشعب العربى، وتتضامن شعوب الدول الإسلامية ويتحمس المشاركون، فلا يكفون عن الهتاف ورفع الشعارات، ثم لا يحدث بعد ذلك شىء.. أى شىء على الإطلاق. 

عشرات المذابح.. وآلاف الاقتحامات للمساجد والبيوت.. وملايين الشهداء والمصابين، وفى كل مرة، تقوم الدنيا ولا تقعد، الشعراء يكتبون القصائد، والملحنون يضعون لها النغمات الوطنية الحماسية، وعشرات من المطربين يشدون بها على الشاشات العربية، بيانات إدانة وشجب، مؤتمرات يجلس على موائدها القادة العرب.. ثم لا نصل إلى نتيجة.. أى نتيجة.

هل أقول إننا وخلال العقود الماضية لم نعرف كيف نحارب إسرائيل؟

هل أقول إننا خلال العقود الماضية لم نستطع الإمساك بخطاب سياسى وثقافى يمكننا من خلاله أن ننتصر على الكيان الصهيونى؟ 

أعتقد أنه لن يكون مفاجئًا لحضراتكم إذا قلت إننا بالفعل فشلنا.. بل كان مستفزًا أننا كنا نصر على الفشل، وكأنه أصبح دينًا فى أعناقنا لا بد أن نوفيه.

كنا ولعقود طويلة نتحدث مع أنفسنا، نعجز عن الوصول إلى دوائر صُنع القرار العالمية، ولا نعرف شيئًا عن الأدوات التى يمكن أن تؤثر فى صياغة الرأى العام العالمى، هذا فى الوقت الذى كانت فيه إسرائيل تعرف جيدًا من أين تؤكل الكتف.. كانت تجيد لعبة الإعلام وصياغة خطاب سياسى مهيمن تغازل به شعوب العالم؛ بما تدعى أنها تتعرض له من إرهاب الفلسطينيين والعرب جميعًا. 

صحيح أن العالم لم يحترمنا؛ لأننا لم نكن أقوياء بما يكفى، لكنه فى الوقت نفسه- وهذا هو الأهم- لم يكن يصدقنا ونحن نحمل إليه حججًا ضعيفة لا نجيد صياغتها على الوجه الذى يفهمه، فى حومة الحرب طاشت سهام الجميع حتى أصبحت القضية بلا غطاء. 

قبل عملية «طوفان الأقصى»، كانت إسرائيل قد حققت انتصارًا ساحقًا لم ينتبه له كثيرون، وفى وجهة نظرى كان يمثل الخطر الأكبر، ليس على القضية الفلسطينية فقط، لكن على الأمة العربية جميعها. 

فعلى طول وعرض منصات التواصل الاجتماعى، عملت إسرائيل على التوسع الفكرى والثقافى، من خلال صفحات موجهة إلى الشباب العربى، استخدم الفريق المسئول عن هذه الصفحات مداخل مفاتيح نفسية كان لها تأثير كبير على الأجيال الجديدة، التى بدأت تتجاوب بالفعل مع الدعاية الإسرائيلية، بل بدأ الحوار بين من ينتمون إلى هذه الأجيال يسير فى اتجاه المراجعة للموقف من إسرائيل، بل كان البعض يتحدث بعدم جدوى ما جرى، فلم يكن من المفروض أن يستمر العداء بين إسرائيل والعرب، بل لم يكن له أن يبدأ من الأساس. 

أصبحت تسمع شبابًا يريدون السفر إلى إسرائيل، باعتبارها مجتمعًا مثاليًا وديمقراطيًا وإنسانيًا يريد أن يعيش فى سلام، لكن الآخرين لا يريدون له كذلك. 

كانت آلة الدعاية الإسرائيلية ناشطة فى اتجاه واحد، وهو تنفيذ أكبر عملية غسيل مخ للأجيال العربية الجديدة، وأعتقد أنه تحقق لها شىء ملموس، لكنها ودون أن تدرى تبخر كل شىء فجأة. 

لم يكن الشباب العربى المنتمى إلى الأجيال الجديدة يعرف كثيرًا، أو حتى قليلًا عن القضية الفلسطينية، لم ير بعينيه المذابح التى ارتكبها جيش الاحتلال، لم يحك له أحد عن الأسرى الذين تم دفنهم أحياء، ولا عن المذابح التى نفذت بدم بارد، ولا عن البيوت التى هدمت والأسر التى تشردت، ولم يقرأوا عن عمليات الاغتيال التى نفذتها إسرائيل داخل الأراضى المحتلة وخارجها.. فاستراحوا إلى أن إسرائيل دولة يمكن التعويل عليها. 

بعد ساعات من «طوفان الأقصى» بدأت إسرائيل رحلتها الانتقامية الشرسة المتوحشة، خلعت أمام العالم كله وأمام الأجيال الجديدة فى الدول العربية والإسلامية كل ملابسها مرة واحدة، رسمت مشاهد جديدة لدمويتها فى الذهنية المعاصرة، فلم نعد فى حاجة إلى استدعاء الماضى للتأكيد على سقوط الكيان الصهيونى وانحطاطه، فالحاضر يكفى جدًا، وفى غمضة عين تبدد كل ما جمّعته إسرائيل فى عقول أجيالنا الشابة. 

الشباب الذى أرادت إسرائيل اصطياده، كان هو تحديدًا من قلب الطاولة على رأسها. 

يجيد الشباب العربى الحديث مع العالم، يتكلم معه بلغته، ليس عبر منصات التواصل الاجتماعى فقط، ولكن عبر كل المنصات السياسية والدبلوماسية. 

الأجيال الجديدة فى كواليس السياسة العربية، أيضًا، يجيدون التعامل بآليات العصر وأدواته، وأعتقد أن الإصرار على إنتاج مسلسل «مليحة» هذا العام، وأصوات الرصاص والمدافع لا تزال تدوى فى أرض المعركة، كان أمرًا محسوبًا بذكاء شديد. 

لقد استطاع الخطاب الإعلامى المصرى، تحديدًا، أن يغيّر اتجاهات العالم فيما يخص القضية الفلسطينية، ولن يكون مفاجئًا إذا قلت لك إن الخطاب المصرى أفسد مخططًا كان مرصودًا له عدة مليارات من الدولارات. 

كانت الخطة الموضوعة بعناية، التى رُصدت لها ميزانية هائلة، أن تتم شيطنة حماس بشكل كامل- لست فى إطار تقييمها الآن بالطبع- أن يتم تحميلها فى المرحلة الأولى المسئولية الكاملة عما جرى، وأنها لولا ما أقدمت عليه ما كانت إسرائيل تحركت وقررت الانتقام، وكانت المرحلة الثانية تقوم على أن التخلص من حماس سيكون فى مصلحة المنطقة كلها، أما المرحلة الثالثة فكانت التواطؤ مع ما تقوم به إسرائيل من مجازر وحشية بلا رحمة. 

الخطة كما وُضعت كانت مكشوفة لمصر وإعلامها، ولذلك كان القرار أن يتم إجهاضها بالانحياز الكامل للحقيقة والعدل، هذا غير أن مصر لمحت من اللحظة الأولى أن ضمن الخطة الإعلامية التى كانت ترعاها إسرائيل وحلفاؤها محاولة الترويج لسيناريو حل للمشكلة عن طريق تهجير الفلسطينيين وتسكينهم فى سيناء. 

المفارقة أن الإعلام المصرى بوسائطه التقليدية كان أسبق من الوسائط التكنولوجية ومنصات التواصل الاجتماعى فى كشف ما يجرى على الأرض، فعلت ذلك بإلحاح على الرسالة، صممتها وصاغتها ونشرتها وأعادتها، حتى خلقت قناعة أن إسرائيل تقوم بانتقام وحشى غير مبرر، وأنها تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية، وحل مشاكلها كلها على حساب الأمن القومى المصرى. 

كان الإعلام المصرى وهو ينفذ استراتيجية يتجاوب مع الخطاب السياسى الرسمى، الذى تبناه الرئيس فى لقاءاته ومباحثاته ومفاوضاته واتصالاته التليفونية مع قادة وزعماء العالم، الذين جعلوا من مصر قِبلة لهم يولون وجوههم شطرها آناء الليل وأطراف النهار. 

أصبح الرأى العام العربى والإعلامى مستقرًا على ما أكدته مصر، خرجت المظاهرات فى ميادين العالم المختلفة تتبنى ما طرحته مصر، وأصبح الإعلام الدولى يردد ما تقوله مصر دون مراجعة. 

كانت هذه رصاصة سياسية ودبلوماسية لم تطش، وكان لا بد لها أن تكتمل برصاصة درامية، فخرج مسلسل «مليحة» إلى النور. 

الأثر هو ما يعنينى هنا، يمكننا أن نتحدث كثيرًا عن رد الفعل، عن متابعات عربية للمسلسل الذى قرر صُناعه أن يعلمّوا الأجيال الجديدة، ويضعوا أمامهم قصة القضية الفلسطينية، فقبل كل حلقة يقتحمنا الراوى بحكايات القضية التى لا يجب أن ننساها أبدًا، ولن أشير إلى احتلال المسلسل يوميًا أولويات محركات البحث، ولكننى سأستعين فقط بما قالته الصحف الإسرائيلية عن المسلسل. 

الحق ما يشهد به الأعداء، هذه حقيقة لا يمكن أن نتجاهلها أو نتجاوزها. 

قبل عرض المسلسل، ودون أن تعرف إسرائيل ما يحمله لها، بدأت فى حملة استباقية قصدت بها قطع الطريق عليه، شككت فيه وأساءت إليه حتى تفسد حالة التلقى المتوقعة، وهو ما دفع كاتبة المسلسل إلى أن توثق هذه الحالة على حسابها بمنصة «x». 

قالت رشا عزت الجزار: يديعوت أحرونوت وإعلام الاحتلال يتحدثون عن مسلسل «مليحة» فى تقرير مصور، نعلم أن الفن المصرى ومدى تأثيره على الوجدان العربى يرعبكم، دمتم مرعوبين ومترقبين ودامت مصر وشعبها ومؤسساتها وقوتها الناعمة للحقوق وأصحابها داعمين ومساندين. 

كان يمكن لإسرائيل أن تتجاهل المسلسل، أو على الأقل تدعى أنها ليست مهتمة به، لكن أن يظل «مليحة» ولعدة أيام «الترند» رقم واحد لديهم، معنى ذلك أن هناك اهتمامًا كبيرًا به، وهو ما عكسته التعليقات الكثيرة التى عرضتها الصحافة الإسرائيلية. 

الزميلة دانا أبوشمسية مراسلة «القاهرة الإخبارية» من القدس المحتلة، أشارت فى واحدة من مداخلاتها، إلى أن هيئة البث الرسمية الإسرائيلية- الهيئة التى تدير منظومة الإعلام الإسرائيلى- وجهت بتخصيص فترة فى التغطيات الإخبارية؛ لمناقشة أحداث المسلسل بعد كل حلقة، ويستعين الإعلام الإسرائيلى بالفعل بمحلل إسرائيلى فى الشئون العربية للتعليق على أحداث المسلسل. 

ودعونا نضحك قليلًا على وجهة النظر الإسرائيلية فى المسلسل. 

«يديعوت أحرونوت» ذهبت إلى أن «مليحة» يتعمد تشويه صورة الإسرائيليين فى منطقة الشرق الأوسط، وأن المسلسل يتبنى وجهة نظر واحدة هى وجهة نظر الفلسطينيين، بينما يتجاهل وجهة النظر الإسرائيلية، وكان على صُناع المسلسل أن يكونوا موضوعيين، فيعرضوا وجهتى النظر. 

تخيل أن الإعلام الإسرائيلى، الذى لا يعترف بوجود الفلسطينيين من الأساس، يتشفع الآن بالموضوعية، ويطالب بعرض وجهة نظر إسرائيل فى مقابل وجهة نظر الفلسطينيين. 

الأغرب كان ما فعلته جريدة «معاريف» التى أمسكت بما اعتبرته خطأ، بينما هو شرف كبير، فقد قالت إن الدارما المصرية لا تتبنى إلا وجهة النظر الفلسطينية طوال الوقت، دون أن تضع فى اعتبارها أن هناك وجهة نظر أخرى. 

صحيفة «هآرتس» خطت خطوات بعيدة، إذ دفعت فى وجوهنا بنظرية المؤامرة، فقد رأت أن إذاعة المسلسل فى شهر رمضان كانت مقصودة لذاته، لأنه موسم رمضانى تلتف الجماهير العربية فيه حول الشاشات المصرية، وعليه فصُناع المسلسل يقصدون أن تصل رسالته إلى الجماهير العربية كلها. 

لقد ظللنا لعقود طويلة نطالب المثقفين والمفكرين والمبدعين المصريين بتقديم خطاب سياسى وثقافى حقيقى يرفع وعى الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية، وإذا بنا ودون فذلكة أو فلسفة أو ادعاء، يظهر مسلسل «مليحة» كدرس مجانى لكل النخبة العربية، يقول لهم إذا أردتم أن تقدموا شيئًا للقضية الفلسطينية، فليس عليكم إلا أن تقدموا القضية لحمًا ودمًا، من خلال شخصيات واقعية وأحداث لا تزال ساخنة. 

ربما لكل هذا فإننى أعتبر أن «مليحة»- كما قلت- ليس مجرد مسلسل درامى، بل رصاصة درامية أحدثت أثرها القوى، ولا تزال التوابع تتوالى، فنحن أمام صانع محترف يعرف ويقدر قيمة الإعلام وأدوات القوى الناعمة، وجه من خلالها ضربة قوية، استعاد بها الوعى العربى بالقضية، وهذا يكفيه. 

لقد تابعت بعض التحليلات السياسية والفنية للمسلسل، وتوقفت عند دعوة بعض النقاد بضرورة ترجمة المسلسل باللغات الأجنبية، على رأسها العبرية، وعرضه على منصات التواصل الاجتماعى المختلفة، التى نستطيع من خلالها أن نصل إلى الجمهور الإسرائيلى وإلى كل جمهور يتعاطف مع إسرائيل، وأرانى متفقًا تمامًا مع هذا الاقتراح، فالاقتحام لا بد أن يصل إلى القلب وبلا هوادة.. فالمعركة ليست على الأرض فقط، لكنها على الشاشات أيضًا.