الإثنين 02 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كانت لنا أكاذيب فى صالون العقاد.. الحقيقة غير الكاملة عن الكتاب الأهم فى حياة أنيس منصور

أنيس منصور
أنيس منصور

- د. عاطف العراقى أكد أن أنيس منصور لم يكن فى أى وقت من الأوقات من بين ضيوف صالون العقاد ولم يكن يعرفه أحد من بين الحضور

- أنيس كان يحضر بعض الجلسات وكانت جلسته فى الغالب فى الصفوف الأخيرة

- رغم كل ما كتبه أنيس منصور عن العقاد ورغم ذكرياتهما معًا وحواراتهما معًا ومعاركهما معًا إلا أنه لا توجد صورة واحدة تجمع أنيس بالعقاد فى أى مناسبة

- لقد أخذ أنيس منصور من علاقته بالعقاد وسيلة ليؤكد أنه كان كبيرًا منذ البداية

«فى صالون العقاد كانت لنا أيام». 

هذا بالنسبة لى هو الكتاب الأهم عند أنيس منصور، بل لا أتردد فى أن أضعه بين أهم مائة كتاب صدرت باللغة العربية فى القرن العشرين. 

لم يكن الكتاب الذى صدرت طبعته الأولى فى العام 1983، ونشره أنيس فى البداية على شكل حلقات فى مجلة أكتوبر، مجرد كتاب ذكريات، يعيد فيه كاتبه أيامه التى عاشها فى صالون العقاد، الذى كان واحدًا من أشهر الصالونات الفكرية فى النصف الأول من القرن العشرين، بل كان بما تم فيه تأريخًا واضحًا ومفصلًا للحياة الثقافية والفكرية والفنية والاجتماعية للمجتمع المصرى خلال هذه الفترة. 

ولأن أنيس كان يعرف أن كتابه هذا هو الأهم فى حياته، ربما أهم من كتابه الأشهر «حول العالم فى 200 يوم»... فقد أهداه إلى زوجته. 

كتب أنيس فى الإهداء يقول: «إلى التى لولا تشجيعها ما كان السطر الأول فى هذا الكتاب، ولولا تقديرها ما اكتملت هذه الصفحات، امتنانًا عميقًا وحبًا أعمق، إلى زوجتى». 

وحتى تعرف قيمة وأهمية الإهداء، فقد كان هذا هو الكتاب الوحيد الذى أهداه أنيس لزوجته، من بين كتبه الـ260 التى أصدرها على امتداد حياته الصحفية والثقافية والفلسفية الطويلة. 

لا يحتاج العقاد، وهو مَن هو فى قامته وقيمته ومكانه ومكانته، لمن يخلده، تكفيه أعماله، وتكفيه موسوعيته، لكنه كان يحتاج إلى كاتب وصحفى وأديب مثل أنيس منصور، سهل العبارة رشيقها، يستطيع أن يصل بإنجاز العقاد الفكرى إلى القارئ العادى الذى يقبل على أنيس ويقرأ له، وأعتقد أن العقاد لو ظل حبيسًا فى كتبه وحده ما حصل على سمعته الفكرية عند أجيال كثيرة، لكن أنيس مكّنه من أن يصل إلى كثيرين متعددى الثقافات والاهتمامات، وعلى امتداد فترة زمنية طويلة. 

لم يكن ما فعله أنيس هو بسط أفكار العقاد فى كتابه، ولكنه كان قد ظل لسنوات يلخص كتبه ودراساته ويقدمها فى عروض صحفية مبسطة، استطاعت أجيال عديدة أن تفهم ما كتبه العقاد من خلالها، ثم وهذا هو الأهم كان نقل الأفكار التى تم تداولها فى صالونه، وهى الأفكار التى كانت مدخلًا لمعرفة العقاد بشكل جديد، ومن ثم بابًا لقراءة المزيد من كتبه. 

أدرك أنيس ما فعله من أجل العقاد. 

فى كتابه «وأنت ما رأيك؟» وتحت عنوان «صالون العقاد»، كتب: إنها ظاهرة تستحق الدراسة أن يختار الشباب المثقفون كتابى «فى صالون العقاد كانت لنا أيام» كأحسن كتاب سنة ١٩٨٣، وهى ظاهرة لأن الكتاب دراسة وذكريات أدبية وفلسفية وسياسية ودينية لجيل كامل فى مثل سنى، عاش حائرًا فى الخمسينيات والستينيات بين المذاهب السياسية والفلسفية والدينية، وكان يتردد على أعظم الناس فى زماننا لطفى السيد وطه حسين وعبدالرحمن بدوى وشوقى ضيف وعبدالرحمن صدقى وأحمد حسن الزيات وأحمد أمين والشيخ حسن البنا والدير الدومنيكى والجماعات الماسونية وشهود يوه، ثم الأستاذ العقاد. 

يشير أنيس إلى أنه ورغم أن الكتاب جاد جدًا، وإن كان اتخذ شكل الحوار أو الشكل الروائى لكى يخفف عن القارئ أعباء المعانى العميقة والقضايا الكثيرة، ولأنه فى ٧٠٠ صفحة وغالى الثمن، إذن فليس صحيحًا أن الكتب الجادة ليس لها جمهور، وإلا فكيف نفدت عشرة آلاف نسخة فى خمسة أشهر؟ 

على الهامش يمكن أن نعتبر ما كتبه أنيس هنا بمثابة الاعتراف الكامل. 

اعتراف بأنه يتعامل مع كتابه عن العقاد على أنه كتاب جاد، وهو صادق تمامًا فيما يقول، فأعتقد أن هذا هو الكتاب الوحيد الذى يحظى بهذه الصفة من بين كتب أنيس بشكل متكامل، وأعتقد أيضًا أنه هو نفسه لا يجرؤ على أن يصف كتابًا آخر له بهذا التوصيف بهذه الدرجة، لأنه فى هذه الحالة لن يكون دقيقًا، رغم أنه حاول فى كتب أخرى صدرت بعد كتاب الصالون وربما قبله أن يكون جادًا، لكن غلب عليه منهجه وسيطر عليه هواه فى أن يكون حكاء بلا هدف... اللهم إلا التسلية، وهى بالمناسبة هدف عظيم. 

من بين ما لاحظته على كثرة ما كتبه أنيس عن جمال عبدالناصر والسادات ومبارك ومراحل مختلفة من تاريخ مصر، إلا أنه أبدًا لم يكن مرجعًا فى أى بحث من البحوث الكثيرة التى تناولت تاريخ مصر السياسى، ربما لأن الباحثين أدركوا أن أنيس فى كتاباته لم يكن جادًا، وأن ما كتبه لا يمكن أن يكون بأى حال من الأحوال مصدرًا معتبرًا من مصادر التاريخ، وهذه جنايته على نفسه، فلم يجنِ عليه أحد. 

لا يحدد أنيس منصور على وجه التحديد السنة التى عرف فيها العقاد، لم يتحدث عن أول مرة قابله فيها وجهًا لوجه، لكنه يكتفى فى مقدمة كتابه بالتأكيد على أنه كان واحدًا من أصغر المترددين على بيت العقاد فى مصر الجديدة، البيت رقم ١٣ شارع السلطان سليم. 

تحدث أنيس عن طقوس يوم الصالون الذى كان الجمعة من كل أسبوع. 

يقول: كنا نركب المترو، أو بعضنا تدفعه الحماسة إلى أن يذهب ماشيًا، وكانت رحلتنا إلى بيت العقاد تبدأ يوم الخميس، فنظل نتحدث عنه وعن ندوته السابقة ابتداء من يوم الخميس، ثم نمشى على أقدامنا إلى مصر الجديدة، تمامًا كما كان يفعل الحجاج عندما يسافرون من المغرب إلى الأراضى المقدسة، ويكون المشوار حديثًا عن العقاد قبل أن نراه. 

صوّر أنيس منصور الحالة التى عاشها فى صالون العقاد وكأنها حالة من الوجد الصوفى، التى يتماهى فيها المريد مع الولى، فلا يرى سواه، ولا يسمع غيره، كان يسارع إلى الشارع الذى فيه بيت العقاد، ولا يرى أى معالم لهذا الشارع، حتى إنه لم يعرف شكل البيت ولا المدخل ولا عدد السلالم التى يصعدها كل أسبوع إلا بعد سنوات طويلة، فلم يكن يرى ولا يسمع، كان يدخر الرؤية للعقاد، ويدخر السمع لكلامه، وقتها كان رأسه مثل راديو صغير مضبوط على موجة واحدة، فالمؤشر لا يتحرك إلى محطات أخرى، فلا محطات أخرى، بل العقاد وحده وهذا يكفيه. 

كان هذا هو حال أنيس منصور كما يصفه، ولا يمكن لى أو لغيرى أن يشكك فيما قاله عن نفسه، فهذه مشاعره التى يعرفها جيدًا. 

تمثال للعقاد

لكن هل كان أنيس صادقًا من الأساس فى تواجده بصالون العقاد حتى يكون هذا هو حاله؟ 

لقد قرأت كتاب «فى صالون العقاد» أكثر من خمس مرات، وفى كل مرة كان يزداد إعجابى به، لكن فى كل مرة كنت أسأل نفسى كيف تسنى لأنيس أن يجمع كل هذه التفاصيل؟ وهل يمكن لكاتب أن يضع يده على كل هذه المناقشات والحوارات والجدل والأخذ والرد، ويظل متذكرًا لها كل هذه السنوات؟ فقد كتب أنيس حلقات الكتاب بعد وفاة العقاد بعشرين عامًا كاملة؟ 

بدأت الشكوك تتسرب إلى نفسى، دون أن يكون لدىّ أى دليل على ما يؤكدها، فاستسلمت إلى ما يقوله أنيس عن كتابه وعن نفسه وعن العقاد. 

لكن فى العام ٢٠١٦، عندما كنت أعيد النظر فى ظاهرة أنيس منصور، بدأت أقرأ الكتاب مرة سادسة بعين ناقدة غير مستسلمة. 

فقرة واحدة فى الصفحة العاشرة من الكتاب، عرفت من خلالها الفترة الزمنية التى كان يتردد فيها أنيس على صالون العقاد. 

يقول فيها: كانت هذه أول سيدة نراها فى صالون العقاد- كان ذلك سنة ١٩٤٤- فقد كان من عادة الأستاذ أن يجلس على هذا المقعد الطويل وحده، لا يشاركه أحد، وأغرب من ذلك أن السيدة «سنية قراعة» كانت تتحدث أكثر مما كان يفعل العقاد، وأعجب من هذا كله أنها عندما كانت تتحدث إليه كانت تضع يدها على كتفه وأحيانًا على يده. 

لن ألتفت هنا إلى سنية قراعة، لكنك عندما ستبحث عنها، ستجد أنها كاتبة فى الإسلاميات، وكانت لها علاقات بالقصر الملكى، ثم بالأجهزة الأمنية بعد ثورة يوليو، وبجماعة الإخوان أيضًا، وورد اسمها فى أكثر من قضية خاصة ومشينة. 

ولا أدرى ما الذى أراده أنيس من التأكيد على شكل علاقتها بالعقاد فى هذا السياق. 

لكن هذه قصة أخرى. 

سأتوقف فقط عند التاريخ ١٩٤٤، وقتها كان أنيس منصور فى العشرين من عمره- مواليد العام ١٩٢٤- طالبًا فى الجامعة، تفصل بينه وبين عمله فى الصحافة سبع سنوات كاملة، فقد دخلها من باب جريدة الأساس فى العام ١٩٤٧. 

سرير العقاد

لا أستطيع أن أكذّب أنيس منصور، فأقول مثلًا إنه لم يكن يتردد على صالون العقاد، فالمنطق يقول إذا كان لم يتردد على الصالون، فمن أين له بكل هذه الحكايات التى ربطت بينه وبين العقاد؟ بل من أين له بكل هذه الحوارات التى سجلها فى كتابه، وفيها معارك وعصف ذهنى واختلاف فى وجهات النظر؟ وهو ما يعنى أن أنيس كان يحظى بمساحة كبيرة من الوقت فى الصالون، بل كان واحدًا من حضوره المميزين، وشهوده الذين لا يغيبون عنه أبدًا، مهما كانت الظروف أو العقبات. 

كان أنيس من واقع ما كتبه متفرغًا تمامًا للصالون، لم تفته ولو جلسة واحدة من جلساته، هذا ما تشى به التفاصيل. 

هذه المفارقة الزمنية وضعت يدى على أن هناك شيئًا ما لم يكن طبيعيًا أبدًا. 

وبعد سنوات وأنا أقلب فى الأرشيف وجدت تحقيقًا كتبه سيد زهران فى جريدة «صوت العرب» ونشره فى ١ يناير ١٩٩٨. 

كان عنوان التحقيق دالًا جدًا وهو «هو والعقاد والوجودية وأكاذيب أخرى». 

وفيه نقرأ الآتى: عندما بدأ أنيس منصور كتابة مقالاته «فى صالون العقاد كانت لنا أيام»، المنشورة فى مجلة أكتوبر، فوجئ الكتاب والأدباء من تلاميذ وأصدقاء العقاد بهذا الكم الضخم من الكذب الصريح، وكأن العقاد لم يقرب منه سوى أنيس منصور.

وحتى يؤكد سيد زهران ما يذهب إليه، وهو أن أنيس لم يكن من بين حضور صالون العقاد، يضع يديه على مفارقات مهمة. 

يقول: يقول أنيس منصور «فوجئت بالأستاذ العقاد يقول فى حوار صحفى بمجلة (روزاليوسف)عام ١٩٥٢: من هذا الأنيس منصور؟ وكنت وقتها مدرسًا للفلسفة فى الجامعة ألقى محاضرات عن الفلسفة الوجودية وما بعد الطبيعة والفلسفة اليونانية وتاريخ الحضارة وفلسفة الجمال وعلم الأديان المقارن». 

يأخذ سيد زهران على أنيس أنه كان يضخم من نفسه وفى دوره وفيما كان عليه، فيقول: هل يقصد أنيس أنه كان قسمًا كاملًا للفلسفة أو على الأصح «دكاترة فلسفة»، فالمعروف أنه كان مجرد معيد بقسم الفلسفة. 

دعك من هذه الملاحظة، فالقادم أهم. 

يقول زهران: يواصل أنيس عن العقاد بقوله «هو يعرفنى منذ عشر سنوات، أتردد على صالونه بانتظام»، وتذكر أن هذا حدث عام ١٩٥٢، كما يذكر أنيس نفسه، ونسأل: كيف؟ فأنيس من مواليد العام ١٩٢٤، أى أن عمره الذى يقول إنه كان يتردد فيه على الصالون منذ عام ١٩٤٢ كان ثمانية عشر عامًا، أى أنه كان لا يزال فى المنصورة طالبًا بالثانوى أو البكالوريا، أو على أكثر تقدير فى عامه الأول بالجامعة، فهل كان صالون العقاد صالونًا للصبية وتلاميذ الثانوى. 

لوحة بمنزل العقاد

لم تكن هذه هى الواقعة الوحيدة التى ساقها سيد زهران ليشكك فيما جاء به أنيس منصور فى كتابه عن العقاد. 

يقول: «فى موضع آخر من كتابه (فى صالون العقاد) يحكى عن ندوة كان أنيس نجمها بالطبع، ودارت حول الوجودية، يقول: بعد انتهاء الندوة انصرفنا إلى كازينو الكيت كات، ثم اتجهنا إلى شعبة الإخوان المسلمين لآخر مرة، لحضور الاحتفال بمولد النبى، عليه السلام، وألقيت قصيدة فى مدح الرسول، وكانت الأبيات الستة الأولى من نظم والدى، فأكملت القصيدة أربعين بيتًا، وذلك عام ١٣٥٦ هجرية». 

«كانت هذه هى المرة الوحيدة التى يذكر فيها التاريخ الهجرى، وتتساءل لماذا أغفل أنيس تاريخ الواقعة بالميلادى كالعادة؟ هل ليخفى كذبه، وليعتمد على الغموض ليمرر الكذبة». 

«فعام ١٣٥٦ هجرية يقابل العامين الميلاديين ١٩٣٥- ١٩٣٦، وكان أنيس لم يبلغ بعد الحادية عشرة من عمره يلعب بالكرة الشراب بالشورت فى حوارى المنصورة، لا يعلم شيئًا عن العقاد، ولم تكن الوجودية قد انتشرت ولا أفكار سارتر قد انتقلت لمصر بعد أو حتى ظهرت». 

لم يكن المدخل الذى دخل منه سيد زهران مختلفًا عن مدخلى إليه، فقد اعتمدنا على التواريخ لنؤكد أن أنيس لم يكن هناك على الأقل بالصورة التى رسمها لنفسه. 

لكننى كنت قد اعتمدت على مداخل أخرى للتأكيد على أن أنيس لم يعرف ما دار فى صالون العقاد بشكل مباشر، بل كان فى الغالب كاتبًا سماعيًا لما جرى فى الصالون، استخدم براعته فى الكتابة ليُخرج لنا هذا المنتج الثقافى العظيم الذى مهما اختلفنا معه بشأنه، إلا أننا لا يمكن ولا نستطيع أبدًا أن نختلف لا عليه ولا على قيمته. 

عندما كنت أعمل على حلقات تفكيك أنيس جمعتنى جلسة مع الصديق العزيز محمد شعبان، الذى كان مسئولًا عن الصفحة الثقافية فى جريدة البوابة اليومية، ونقل لى عن لسان الدكتور عاطف العراقى، أستاذ الفلسفة الشهير، ما قاله له عن أنيس منصور وصالون العقاد. 

أكد العراقى أن أنيس منصور لم يكن فى أى وقت من الأوقات من بين ضيوف صالون العقاد، ولم يكن يعرفه أحد من بين الحضور، وكلهم معروفون ومشهورون، وعندما كتب حلقات كتابه عن الصالون تعجب كثيرون، فمن أين له كل هذه الجرأة على اختلاق الأحدث والوقائع والحوارات مع العقاد ومع ضيوف صالونه. 

لا يمكننى أن أطمئن إلى ما قاله عاطف العراقى بشكل كامل، ففى النفوس طول الوقت ما فيها، لكننى فى الوقت نفسه لا أستطيع أن أتجاهل هذه الرواية التى قالها أستاذ فلسفة مرموق مثل عاطف العراقى، وإن كان جزمه بأن أنيس لم يكن على الإطلاق من بين ضيوف الصالون ولم يكن يعرفه أحد غير منطقى بشكل كامل أيضًا.

أنيس في بيت العقاد

أقول ذلك لأننى سمعت بنفسى من الناشر الكبير إبراهيم المعلم، صاحب دار الشروق، ما ينفى رواية العراقى من ناحية، وما يؤكد ما ذهبت إليه من ناحية أخرى. 

كنت أتحدث مع «المعلم» عن الكتّاب الذين تعامل معهم، وكان من بينهم أنيس منصور بالطبع. 

سألته عما يتردد عن أن أنيس لم يحضر جلسات العقاد أبدًا، فابتسم وقال: كان أبى محمد المعلم أحد حضور الصالون، وقال لى إن أنيس كان يحضر بعض الجلسات، وكانت جلسته فى الغالب فى الصفوف الأخيرة، كنا نراه ملازمًا للباب، وكان العقاد يداعبه أحيانًا، فقد لاحظ الأستاذ أن أنيس منصور يجلس مبتسمًا طوال الوقت، فكان يشير إليه بقوله: لماذا أراك مبتسمًا دائمًا طوال الوقت بلا داعى يا أستاذ؟ ولم يكن أنيس يرد على العقاد، بل كان يكتفى بمواصلة الابتسام الذى كان بالفعل بلا معنى ولا داعى. 

رواية «المعلم» التى نقلها عن أبيه أكثر معقولية، فهو يؤكد أن أنيس كان موجودًا، لكنه لم يكن فاعلًا بالقدر الكافى، ولم يكن مشاركًا بالدرجة التى تجعله قادرًا على أن ينسج من الجلسات هذا العمل الخرافى الذى قدمه إلى المكتبة العربية، ولا يزال واحدًا من أهم كتبها على الإطلاق. 

كانت لدىّ نظرة أخرى فى الكتاب، فقد كان ما قمت به محاولة للنقد الخارجى للكتاب، استقصاء لما أحاط به من أحداث ووقائع وآراء، لكن ماذا عن النقد الداخلى للكتاب نفسه، هل فيه ما يمكن أن يدلنا على ما نذهب إليه؟ 

وكانت لدىّ عدة ملاحظات، قد يكون من المفيد أن أثبتها هنا. 

ففى كتابه حرص أنيس منصور على نشر مجموعة من الصور، عندما تستعرضها ستجدها كالآتى:

أولًا: بيت العقاد وتعليقه عليه: رقم ١٣ شارع السلطان سليم كان بيت العقاد ولا يزال، فقد كان صاحب البيت يريد أن يهدمه لولا أن هناك أملًا فى أن يصبح بيت العقاد متحفًا.

صورة لأنيس مع عامر العقاد وجلال العشرى وإسماعيل النقيب فى بيت العقاد بعد وفاته

ثانيًا: سلالم بيت العقاد وتعليقه عليها: وهذه هى السلالم التى كان يقول عنها: كنت أصعدها ثلاثًا ثلاثًا وصعدتها اثنتين اثنتين، والآن أصعدها واحدة واحدة. 

ثالثًا: مكتب العقاد وتعليقه عليه: وهذا هو المكتب الصغير الذى لا أعرف كيف كان العقاد يحشر نفسه تحته ثم يتسامى ويتصاعد بأفكاره إلى السماء. 

رابعًا: تمثال العقاد وتعليقه عليه: هذا التمثال لم يعد فى موضعه الآن، كان فى الصالون وانتقل إلى الشقة المواجهة، حيث مسكن أسرة أخيه. 

خامسًا: مجموعة من ضيوف الصالون وتعليقه كان: آخر احتفال بعيد ميلاد العقاد وقد وقف أمامه وجلس كثيرون من تلامذته ومحبيه وأصدقائه، ومن الصعب أن أنسى أحدًا منهم. 

سادسًا: صورة لبلكونة بيت العقاد والتعليق: وهذه الشرفة لصالون العقاد، لم يحدث أن وقف فيها العقاد ونظر إلى الشارع ولا نحن أيضًا. 

سابعًا: صورة لأنيس يجلس فى بيت العقاد وتعليقه: إلى اليمين ابن أخيه الأستاذ عامر العقاد، أما أنا فلقد جلست حيث كان يجلس الأستاذ، واكتشفت أن هذا المقعد ليس مريحًا، وربما كان ذلك هو سر تحرك العقاد كثيرًا وقلقه أيضًا. 

ثامنًا: صورة يظهر فيها أنيس، والتعليق: هذه الصورة لنا فى بيت الأستاذ بعد وفاته من اليسار الأستاذ عامر العقاد وأنا جالس ثم الأستاذ جلال العشرى والأستاذ إسماعيل النقيب. 

آخر احتفال بعيد ميلاد العقاد ولم يكن أنيس منصور موجودًا

تاسعًا: صورة لسرير العقاد، والتعليق عليها: وهذا هو سرير الأستاذ وقد اختفى من الصورة عدد كبير من أحذيته كان يضعها دائمًا أمامه ليختار منها المناسب للسير، وهى جميعًا واسعة. 

عاشرًا: صورة لوحة شهيرة فى منزل العقاد، والتعليق عليها: وهذه هى اللوحة التى رسمها الأستاذ صلاح طاهر، وأصر العقاد على أن تكون فى غرفته، أمام سريره، آخر ما يرى فى المساء، وأول ما يرى فى الصباح، ليزداد قرفًا من المحبوبة التى أصبح يعف عليها الذباب.

حادى عشر: صورة للعقاد وهو بالطربوش والنظارة فى إحدى جلسات المجمع اللغوى. 

ثانى عشر: صورة لوثيقة بخط يد العقاد، والتعليق عليها: سطور بحروف كبيرة هى آخر ما كتب الأستاذ العقاد عن شوقى أمير الشعراء. 

كان من السهل أن أعيد نشر الصور التى وضعها أنيس فى آخر كتابه، لكننى قصدت أن أسجل التعليقات عليها أيضًا، لأنها تفتح أمامنا بابًا لملاحظات عديدة. 

أولًا: رغم كل ما كتبه أنيس منصور عن العقاد، ورغم ذكرياتهما معًا، وحواراتهما معًا، ومعاركهما معًا، إلا أنه لا توجد صورة واحدة تجمع أنيس بالعقاد فى أى مناسبة، حتى الصورة التى نشرها لآخر عيد ميلاد للعقاد، وكان ذلك فى العام ١٩٦٤ العام الذى مات فيه، لم يظهر فيها أنيس منصور، رغم أن عمره كان قد أصبح أربعين عامًا، وكان له اسم فى الصحافة، لكنه حاول أن يوحى بأنه كان موجودًا وحاضرًا، عندما ذكر فى تعليقه، ولا يمكن أن أنسى أحدًا منهم؟ 

ومن حقك أن تسأل: إذا كان أنيس بكل هذا القرب من العقاد، ألم يكن من الأولى به أن يحضر عيد ميلاده الأخير؟ أم أن هناك ما شغله عن حضور هذه المناسبة المهمة والتاريخية فى آن واحد؟ 

وكان لافتًا للانتباه أن أنيس عندما صدر كتابه ترك مهمة تصوير نفسه مع العقاد لريشة الفنان الراحل مصطفى حسين، الذى رسمه وهو يقف أمام العقاد فى وضع التلميذ، لكن مصطفى حسين لم يكن دقيقًا، فقد رسم أنيس وهو فى الستين من عمره، وليس فى الأربعين، حيث كان عمره عندما مات العقاد. 

ثانيًا: كل الصور التى نشرها أنيس منصور فى الكتاب توحى بأن صاحبها التقطها وهو يقوم بعمل صحفى عن العقاد بعد وفاته، فهو يجلس إلى جوار ابن شقيق الأستاذ عامر، وقد يكون عامر العقاد هذا هو السر فى كل الحكايات التى رواها أنيس عن علاقته بالأستاذ، ولم يكن صعبًا على كاتب بقدرات وخيال أنيس أن ينسج ما رواه عن حكاياته فى صالون العقاد، خاصة أنه اعترف بأن الكتاب مكتوب بشكل روائى، ما يعنى أن الخيال تدخل فى صياغته بدرجة كبيرة، أو لنقل بالدرجة الأكبر. 

ثالثًا: كان أنيس منصور موهوبًا فى خلق هالة حول العقاد، هالة ربما تتناقض مع ما كان عليه العقاد حتى يمنح نفسه الفرصة الكاملة لينسج حوله ما يريده دون أن يراجعه فيه أحد، وهو ما جرى بالفعل، فرغم أن كثيرين كان لديهم ما يمكن أن يقولوه عما كتبه أنيس عن العقاد، إلا أن أحدًا لم يستطع أن يفرد دراسة أو عملًا كاملًا يظهر من خلاله زلات أنيس فى تناوله للأستاذ، بل أصبح أنيس وكأنه صاحب التوكيل الوحيد للعقاد، فلم يقترب أحد، ولا يزال الوضع على ما هو عليه، فلا أحد يستطيع أن يقترب. 

مكتب العقاد

وقد تسألنى عن الهالة التى حاول أنيس صنعها حول العقاد؟ 

وهنا سنعود إلى الكتاب وإلى ما بعد الكتاب. 

ففى الكتاب يحكى أنيس أنه فى واحدة من جلسات الصالون كان هناك عراف هندى قرأ كف الأستاذ والحاضرين جميعًا فى الصالون، وبعد أن انتهى العراف من قراءة كف العقاد، همس إليه بأنه سوف يموت بعد ١٠ سنوات، وهو ما حدث بالفعل طبقًا لكلام أنيس. 

القصة غرائبية، تتناسب مع ما كان أنيس يكتبه ويهتم به عن السحرة والعرافين والأرواح والأشباح، لكنها لا تتناسب أبدًا مع العقاد العقلانى صاحب «التفكير فريضة إسلامية»، وصاحب «عقائد المفكرين فى القرن العشرين»، وصاحب المنهج العقلانى فى تحليل الشخصيات التاريخية، لكنها إرادة أنيس التى لا ترد. 

خارج الكتاب حاول أنيس أن يجعل من العقاد صاحب كرامة بعد موته. 

فى مقاله «شىء أسوأ من الموت»، الذى نشره فى ١٦ مايو ٢٠٠٩، يقول: ويوم توفى الأستاذ العقاد سرنا وراءه فى غاية الحزن والأسى، وفجأة توقفت الجنازة، وحاول الناس أن يدفعوا النعش إلى الأمام، لم يستطيعوا، وإنما كان النعش يقاوم ويدور حول نفسه، وسألت الأديبة د. نوال السعداوى، وكانت مديرة مكتب وزير الصحة: هل جنازة ابنته تحركت؟ فقالت: لا.. فطلبت منها أن تتحرك لأن نعش العقاد لا يتحرك بالقوة، ولما تحركت جنازة ابنة العقاد تحرك النعش متجهًا إلى بلده أسوان، وكانت ابنته بدرية عندما عرفت بوفاة والدها انتحرت. 

ويختم أنيس روايته بقوله: لا أعرف تفسيرًا لما حدث، ولكن هذا ما حدث، ومعلوماتى من الدرجة الأولى، فقد كنت أحد الذين يشاركون فى حمل نعش الأستاذ العقاد، وكنا نقاوم ونحاول بكل ما لدينا من قوة، كيف؟ لا أعرف. 

لم يشذ أنيس منصور عن قاعدة مهمة يعمل بها كثير من الكتاب، فهم يبالغون فى تعظيم قيمة من يكتبون عنهم، حتى يتسنى لهم أن ينسبوا إليهم ما يجعل الكتابة عنهم عظيمة، ورغم أن العقاد لم يكن فى حاجة لشىء يجعله عظيمًا، فقد كان عظيمًا بالفعل، إلا أن أنيس أضاف إليه من غرائبياته ما كشف منهجيته فى الكتابة عنه. 

سلالم بيت العقاد

ولأن واقعة الجنازة فى الغالب لم تكن صحيحة، فقد وقع أنيس فى مغالطات، منها أن نوال السعداوى كانت مديرة لمكتب وزير الصحة، وهو ما لم يكن صحيحًا، فقد كانت تعمل فى ديوان وزارة الصحة وليس فى مكتب الوزير فى هذه الفترة بعد أن انتقلت إليها من الوحدة الصحية بقريتها «كفر طحلة»، وكان غريبًا أن يشير إلى أنها كانت صاحبة قرار فى تحريك جنازة ما، والغريب بالنسبة لى أن نوال لم تعلق على هذه الواقعة لا بالتأكيد ولا بالنفى. 

لجأ أنيس إلى أسلوبه باستخدام الإثارة، فقد ألقى أمام قرائه بأمر ابنة العقاد التى انتحرت عندما علمت بوفاته، وما نعرفه أن العقاد لم يتزوج، ولم يكن له أولاد، وقد دارت نقاشات عديدة حول هذه الابنة، واستقر الأمر على أن العقاد كان يرعاها ولم تكن ابنة له، لكن أنيس لم يهتم بشىء من ذلك. 

هذه ملاحظات عابرة قد يعتقد البعض منها أننى أشكك فى وجود علاقة من الأساس بين أنيس والعقاد، وعليه فكل ما كتبه عنه ليس إلا نقلًا عن آخرين. 

لكنى فى الحقيقة لا أسعى إلى ذلك. 

فقد يكون لدى آخرين ما يقولونه سلبًا أو إيجابًا فى هذا السياق، أنا أسعى فقط لقراءة ملامح العلاقة بين الكاتبين من خلال ما تركه أحدهما، وأقصد أنيس منصور، ففعليًا لم يترك العقاد وراءه لا فى مقالاته ولا فى كتبه ولا حواراته ما يشير إلى أن أنيس منصور كان مؤثرًا، أو كان على خريطته الفكرية والثقافية والفلسفية من الأساس، حتى لو افترضنا أنه كان يحضر صالونه الأسبوعى، فقد فعل هذا لمرات قليلة مثله مثل مئات العابرين، الذى لم يتوقف العقاد عندهم. 

لقد أخذ أنيس منصور من علاقته بالعقاد وسيلة؛ ليؤكد أنه كان كبيرًا منذ البداية، دع عنك ما سجله من حوارات معه، كان العقاد فيها وباعتراف أنيس منصور يسحقه تمامًا، يدك رأسه دكًا، فلا يجعله يعى ما حدث له، فقد كان العقاد فيما نقله أنيس ساخرًا من الجميع، على رأسهم أنيس نفسه، ولم يكن يسخر من هزال أفكاره فقط، بل حطم أمامه أساتذته الذين يعتز بهم، وسكب عصارة مذهبه الوجودى على الأرض، ونزل بمعلوماته إلى الحضيض، حتى شعر بأنه فعليًا لا يعرف شيئًا، وهو جالس أمام الأستاذ الكبير، هذا إذا كان جلس من الأساس بالدرجة التى توفر له كل هذا القرب. 

يحكى أنيس أنه عندما كان محررًا فى أخبار اليوم، عاتبه العقاد لأنه رفض نشر مقال كتبه عامر العقاد ابن أخيه بمناسبة عيد ميلاده. 

يروى أنيس ما جرى، وقلت للأستاذ: إن وجهة نظرى، ووجدت الأستاذ قد اتجه بناظره بعيدًا عنى، كأنه لا يريد أن يرى وجهة نظرى، أو أن وجهة نظرى لا تستحق منه إلا أن يتجه بنظره بعيدا عنها، قلت: إن وجهة نظرى يا أستاذ أن الذى يكتب عن عيد ميلاد العقاد ليس ابن أخيه، فعيد ميلاد العقاد ليس مناسبة عائلية، إنما مناسبة أدبية قومية، فلم يسترح إلى ذلك. 

لم تتوقف المواجهة بين أنيس والعقاد عند هذا الحد، يكمل أنيس: وعدت لأقول له: ولكننى لست الذى منع نشر المقال، إنما منعه سكرتير التحرير، وليس من الضرورى أن يكون من قراء العقاد أو من محبيه، ولم أعرف ما الذى قاله الأستاذ، ولا كيف كان غضبه، ولكن زملائى أخبرونى بعد ذلك كيف امتقع وجهه، وكيف تراجع فى مقعده، وتحولت كلماته إلى ذراعيه تعلوان وتهبطان وتعتصران من الجو ما لا أعرف ولم يعرف أحد، وكيف أنه قام وقعد، وكل الذى أدركته من غضب الأستاذ قوله: إن صحيفة التايمز البريطانية قد خصصت عددًا ممتازًا لأديبها ريتشى، مع أنه ليس إلا كاتبًا متواضعًا.

لم يكن هذا هو كل شىء، كان هناك ما هو أكثر. 

يمكننا أن نعود سويًا إلى واقعة مجلة روزاليوسف التى حكاها أنيس منصور، وكان هو طرف الواقعة الذى قال، ولم نسمع من العقاد الطرف الثانى شيئًا عنها. 

يحكى أنيس: فوجئت بأن مجلة روزاليوسف نشرت حديثًا للأستاذ سنة ١٩٥٢، يقول فيه: من هذا الأنيس منصور؟ ولم أصدق أن يقول عنى ذلك، فوقتها كنت محررًا بأخبار اليوم، أكتب باب الأدب، وكنت محررًا بروزاليوسف، وقدمنى الصديق إحسان عبدالقدوس فى مجلة روزاليوسف وفى مجلة الإثنين على أننى فيلسوف الجيل، وأن أسلوبى وتفكيرى مزيج من سارتر والعقاد وطه حسين والحكيم وشقاوة الشباب. 

وقال مرة أخرى: انتظروا هذا الشاب، وكنت مدرسًا للفلسفة فى الجامعة، ألقى محاضرات عن الفلسفة الوجودية وما بعد الطبيعة والفلسفة اليونانية وتاريخ الحضارة وفلسفة الجمال وعلم الأديان المقارن، ثم أن الأستاذ يعرفنى منذ أكثر من عشر سنوات، أتردد بانتظام على صالونه الأدبى، وهو الذى قرأ لى بعض المقالات، وأبدى ارتياحًا إلى ذلك. 

كانت الحسرة تأكل عقل وقلب أنيس بسبب تجاهل العقاد وتعاليه عليه. 

يكمل مندبته ويقول: وأظن أن حديثه فى روزاليوسف قد أجرته السيدة مديحة عزت، ولما قرأت الحديث وجدت أن الأستاذ لا يعرف من أنا، أو من أكون، أو إن كان لى وزن أو حتى مستقبل، ولا ألومه، فلم أكن قد أصدرت عملًا أدبيًا أو فلسفيًا، ولم أكوّن رأيًا فى قضية متكاملة، إنما أنا واحد صحفى يكتب فى الأدب والفلسفة، فأنا أديب يشتغل بالصحافة أو فيلسوف يشتغل بالأدب، أى بالكتابة اليومية أو الأسبوعية فى موضوعات متنوعة، ولكنى تضايقت جدًا، ولم أعرف كيف أواجه إحسان عبدالقدوس الذى تنبأ بأننى سوف أكون شيئًا، ولا أعرف كيف أواجه الذين يعرفون صلتى بالأستاذ، أى صلتى من جانب واحد، هو جانبى وليس جانبه. 

سأل أنيس العقاد فى التليفون إن كان قال شيئًا من ذلك، فأنكر قائلا: إنهم أولاد ال... بتوع روزاليوسف، لكن أنيس تأكد أن العقاد تورط فى الحديث، ولم يتصور أن أحدًا يمكن أن ينشره. 

ذهب أنيس منصور إلى روزاليوسف وكتب ردًا على الأستاذ فى مقال قصير، يقول: كان عنوان المقال «عباس محمود العضاض»، وأذكر أننى قلت إن الأستاذ العقاد مثل كل جهاز ميكانيكى كبير له ماسورة عادم ضخمة، وإن هذا الذى قاله عنى قد خرج من ماسورته، ثم اعتذرت فى التليفون قائلًا: إنهم أولاد ال... بتوع روزاليوسف.

هى نفسها الواقعة التى أمسك بها سيد زهران لينفى عن أنيس أنه كان يحضر صالون العقاد، أعرف ذلك جيدًا، لكننى أتيت عليها مرة أخرى لهدف مختلف تمامًا. 

فى المقال الذى كتبه أنيس ردًا على العقاد يكشف نفسه أمامنا دون عناء، أرجع إليه مرة أخرى وأسمعه وهو يقول: لا أعرف كيف أواجه الذين يعرفون صلتى بالأستاذ، أى صلتى من جانب واحد، هو جانبى وليس جانبه. 

هنا يعترف أنيس بأن علاقته بالعقاد كانت من طرف واحد، ولم أمنع نفسى من تفسير ما جرى على النحو التالى. 

فى العام ١٩٥٢ كان أنيس منصور محررًا صحفيًا لا يزال فى بداياته، لم يكن اسمًا كبيرًا فى الصحافة، وقد يكون أخذ من حضوره بعض جلسات صالون العقاد وسيلة لادعاء الوصل بكاتب كبير، فهذا يمنحه قيمة كبيرة ما فى ذلك شك، وقد يكون العقاد عرف ما يردده عنه أنيس منصور دون وجه حق، وهو ما دفعه لأن يصرح بما قاله لروزاليوسف، متجاهلًا إياه، ومتسائلًا عمن يكون هذا الأنيس منصور؟ 

ورغم أن الرسالة وصلت لأنيس، إلا أنه لم يترك الفرصة، فكتب مقالًا روجه بعد ذلك على أنه كان ندًا للعقاد، دخل معه فى معركة صحفية، وانتصر عليه فيها، وهو ما يؤكد أن أنيس كان يضخم كل ما يربطه بالعقاد على غير الحقيقة. 

إحدى حلقات
فى صالون العقاد

لقد ربح العقاد كثيرًا، عندما قدمه أنيس منصور إلى أجيال لم يكن لها أن تعرف هذا العملاق الكبير. 

لكن أنيس هو الآخر ربح كثيرًا، فلا يذكر العقاد الآن إلا ويذكر إلى جواره أنيس، بل جعل هذا الكتاب المهم أنيس فى درجة أخرى من الاهتمام، وهو ما رأيته فيما كتبه عنه يوسف إدريس. 

ففى سياق إشارته للكتاب فى أحد مقالاته قال يوسف: كتاب «فى صالون العقاد» تاريخ لهذه الفترة من تلمذة أنيس منصور على العقاد، و«تأستذه» عليه أيضًا، فقد كان طالبًا مشاغبًا تمامًا، ولكنه ذلك الشغب الجميل حين أجد أنك قرأت كتابًا فأشاغبك بأننى قرأت ما هو أحدث منه، هكذا كان يفعل أنيس مع أستاذه، وهكذا كان أستاذه يفعل معه، باعتباره أول عصامى أو بالأصح الأول العصامى، إذ هو لم يذهب لثانوى أو لجامعة يستمتع فيها بالأولية، فآثر أن يخلق لنفسه متعة أكبر، وذلك بألا يدخل مدارس أبدًا، ولكنه يصبح الأول على كل خريجى المدارس، إذن هو أول فى صالون أول. 

إحدى حلقات
 فى صالون العقاد

ويضيف يوسف: وكم أسفت أننى لم أتتلمذ على يد كاتب كبير مثل العقاد، إذ حين نادانى الأستاذ الكبير طه حسين إلى عموده كان الأمر قد انتهى، وكنت قد تعديت مرحلة التلمذة، أقول كم أسفت لأننى أحسست وأنا أقرأ الكتاب بعمق الصلة وعمق البصمات التى يتركها المعلم على التلميذ، هذا الإصرار الرهيب على الاطلاع، أكان ممكنًا أن يتخذه أنيس منصور دينًا لو لم يره ويشغف به عند أستاذه، إن الأستاذ بمثابة الأب، ولا يستطيع أن يعرف قيمة الأب إلا من تربى يتيمًا، ولهذا فأنا أحسد أنيس على أبيه الروحى، فقد تعلم منه الكثير، وأكاد أقول إن العقاد أيضًا تعلم من أولاده، على رأسهم أنيس، الكثير، فلولا الإحساس بضرورة الاحتفاظ بصورة الأستاذ أمام تلاميذ أشقياء، لا يتورعون عن مسابقة الأستاذ، بل سبقه فى أحيان، ما ظل العقاد محتفظًا بقوامه الفكرى والفلسفى، بل النفسى أيضًا.

كان ما كتبه يوسف إدريس شهادة واحدة من بين شهادات كثيرة صدرت فى حق أنيس منصور بفضل كتابه عن العقاد، وأعتقد أن من كتبوها لم يكونوا يعرفون أن أنيس فى كتابه كان مؤلفًا أكثر منه موثقًا، وأن التلميذ النجيب لم يكن أكثر من متسلق على كتفى أستاذ، صاغه على هواه وربح منه ما يريد.

آخر احتفال بعيد ميلاد العقاد ولم يكن أنيس منصور موجودًا