الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

توفيق الحكيـم.. اليسار المصرى وعودة الوعى

توفيق  الحكيـم
توفيق الحكيـم

- اليسار غير الرسمى كان عبارة عن مجموعة تنظيمات سرية مثل حزب العمال الشيوعى المصرى وحزب المطرقة

- لم يختر توفيق الحكيم أن يوجه رسالته إلى اليسار عبثًا ولم يختر أن يكون بينهما حوار طويل إلا كنوع من تكثيف ما كانت تفرضه المرحلة

لا بد قبل أن نخوض فى العلاقة الجديدة التى نشأت على ضفاف كتاب «عودة الوعى»، ذلك الكتاب- الموقف الذى اتخذه توفيق الحكيم لسحب كل ما اعترف به وباركه لمدة عشرين عامًا، أو بالتحديد منذ قيام ثورة 23 يوليو عام 1952، حتى رحيل جمال عبدالناصر، قائد الثورة فى 28 سبتمبر 1970، وبعد صدور الكتاب فى أغسطس 1974 ثار كثيرون من الكتاب الذين ينتمون إلى ثورة يوليو بكل ما فيها من انتصارات وانكسارات، وكانت حملة كما فصلنا ذلك فى حلقات سابقة لم تحدث فى مواجهة الحكيم على مدى حياته كلها، لأن جمال عبدالناصر نفسه، هو الذى كان يدافع عنه، ويمنحه الأمان والجوائز، والألقاب، وكان موقف جمال عبدالناصر فى الدفاع عن الحكيم، يمنع كثيرًا من أشكال الهجوم، ولم يثبت لدينا أن توفيق الحكيم اتخذ موقفًا فى مناصرة اليسار الشيوعى عندما قضى قادته وقواعده وبقية أعضاء تنظيماته فى المعتقلات خمس سنوات كاملة، من 1959، إلى 1964، لم يقل شيئًا، ولم يعلن احتجاجًا، ولم يبرز موقفًا اعتراضيًا، ولكنه كان ينعم فى حرير السلطان.

حديث بين عبدالناصر وتوفيق الحكيم

حديث بين عبدالناصر وتوفيق الحكيم

بالطبع فهذا لا يقلل من شأنه ككاتب مسرح، أو كاتب رواية وقصة قصيرة، ولا ينتقص من قدره ككاتب مقال بارع، وهذا الكلام ينسحب على كثيرين من مفكرى وكتّاب وأدباء مصر فى ذلك الوقت من الجيل القديم، وعلى رأسهم دكتور طه حسين، ولكن طه حسين لم ينف مواقفه، ولم يقل إنه كان فاقدًا للوعى، كذلك نجيب محفوظ الذى كان يبث شجونه وتأملاته فى رواياته، ولكنه كان قليل الكتابة فى المقالات، ورغم أنه كتب رواية «الكرنك» التى عبّرت عن رأيه، إلا أنها كانت امتدادًا طبيعيًا وجدليًا لرواياته التى ظهرت فى مطلع عقد الستينيات، مثل «اللص والكلاب، وميرامار، وثرثرة فوق النيل»، تلك الروايات التى أظهرت احتجاجًا واضحًا لنجيب محفوظ على ما حدث، وما كان يحدث، ولكنه عبّر عنه فى ما يعرفه ويجيده، وهو فن الرواية، ولكن السلطة لم تكن غائبة عن جنوح كتابة محفوظ الأدبية نحو انتقاد الأوضاع السياسية على لسان شخصيات رواياته.

فى عام ١٩٧٤، لم يكن اليسار موحدًا كالعادة، كان هناك يسار رسمى، والذى كان تم تكليف الكاتب عبدالرحمن الشرقاوى بتشكيل تجمع واسع باسم «اليسار الوطنى الديمقراطى»، ولكنه لم يحدث وفشل، ولكن ظل ذلك اليسار الرسمى منبثًا وفاعلًا فى جزر الحياة السياسية، ومجسدًا فى مجلات وصحف متنوعة، وكانت مجلة روزاليوسف على وجه الخصوص تضم قطاعًا منهم، وعلى رأسهم طبعًا فرسان اليسار القديم على تنوعهم، مثل صلاح حافظ، وحسن فؤاد، وعبدالستار الطويلة، وعبدالرحمن الشرقاوى، وغيرهم، وحتى هؤلاء كانوا مختلفين فى مواقفه من الرئيس السادات، إذ كان عبدالستار الطويلة أعلن تأييده المطلق للسادات، ولم يفعل مثله الآخرون، ولكنهم بشكل أو بآخر كانوا يتأرجحون بين الرفض والقبول، التأييد والمعارضة، بين اللغة الناعمة حينًا، واللغة الحادة حينًا آخر، وسار على نفس الوتيرة يسار مجلة الطليعة وقائدها ورئيس تحريرها لطفى الخولى، ومعه أبوسيف يوسف ورفعت السعيد، وفاروق عبدالقادر، وخيرى عزيز، وحسين شعلان وغيرهم، ويمتد الأمر إلى مجلة الكاتب التى كان يرأس مجلس إدارتها وتحريرها أحمد عباس صالح، وكان مجلس التحرير يضم فى إهابه د. أحمد القصير، ود. عبدالعزيز الأهوانى، وصلاح عيسى وغيرهم، وكان هناك فى صحيفتى الجمهورية والأخبار بعض صحفيى اليسار مثل محمد عودة وفريدة النقاش وصلاح عيسى وفتحى عبدالفتاح وغير ذلك كانت هناك بعض تجمعات صغيرة ليست تنظيمية، تنتصر لهذا أو لذلك من اليسار.

هذا رسم كروكى لليسار الرسمى، والذى ينطلق من قلاع صحفية رسمية، قلاع خاضعة لشكل سياسى وفكرى محسوب، مثل الأهرام والأخبار والجمهورية، فمجلة الطليعة كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام، وعندما أعلنت المجلة فى إحدى مقدماتها فى أكتوبر عام ١٩٧٥ عن موقف سياسى يخصها، كان أول شىء فعلته إدارة الأهرام، هو طرد مقر المجلة من الدور السادس، إلى الدور الأول فى كشك كان ملحقًا بمبنى مجلة الأهرام الاقتصادى، والذى قامت عليه عمارة الأهرام الجديدة، أو المبنى الثانى، أما اليسار غير الرسمى فهو كان عبارة عن مجموعة تنظيمات سرية، مثل حزب العمال الشيوعى المصرى، وحزب المطرقة، و٨ يناير، وغير ذلك من تنظيمات سياسية لم تستطع أن تحقق آمالًا عريضة فى الالتحام مع قطاعات الشعب.

لذلك التقط الأستاذ لطفى الخولى الفرصة، واتفق مع زملائه فى المجلة أن يديروا حوارًا مسلسلًا مع توفيق الحكيم فى المجلة، وفى ديسمبر ١٩٧٤ كتب الأستاذ لطفى الخولى فى افتتاحية العدد ما يلى: «لم يكن توفيق الحكيم بالنسبة لمصر مجرد كاتب كبير، ولم يكن كذلك بالنسبة لليسار الرسمى، واليسار وهو يضع على كاهله عبء الدفاع عن كل ما هو مخلص وشريف فى أرض هذا الوطن، ظل وعلى الدوام يعتبر توفيق الحكيم واحدًا من أهم الطلائع المستنيرة فى سماء هذا الوطن... وإيمانًا من أسرة (الطليعة) بأهمية الحوار مع توفيق الحكيم كرمز أو كبداية لحوار مثمر متصل بين كل الفصائل الوطنية والتقدمية، فإنها تستضيف هاتين الرسالتين على الصفحات المخصصة لافتتاحيتها..».

ونشرت المجلة الرسالتين المتبادلتين بين لطفى الخولى وتوفيق الحكيم، كانت رسالة الخولى مكتوبة فى ١١ نوفمبر ١٩٧٤، ورد عليه الحكيم فى ١٧ نوفمبر، وكان هذا الأمر لافتًا للنظر فعلًا، ومعبرًا عن ذكاء واضح من لطفى الخولى، وكذلك استجابة الحكيم كانت تعبر عن ذكاء من نوع آخر، وربما تكون هناك أحداث تمت فى الكواليس بين كل الأطراف لإنقاذ الحكيم نفسه من أظافر الناصريين، رغم أن لطفى الخولى وفريق التحرير لم يكونوا على خلاف مع الناصريين حول عبدالناصر، ربما تكون هناك بين الماركسيين وبين ناصر ورفاقه خلافات كانت تحدث بين الحين والآخر، وتصل بالبطش الشديد بهم، والزج بهم فى المعتقلات غير الآدمية، وقتل البعض منهم مثل شهدى عطية وفريد حداد ومحمد عثمان وغيرهم، والتنكيل بهم بأشكال وحشية، تلك الخلافات بالطبع لم تزل، ولم تنمح بعد سنوات من التعاون بين الماركسيين الذين تولوا مسئوليات كبيرة فى الدولة والسلطة الناصرية، تلك الخلافات هى التى كانت تميز وضع الناصريين مثل محمد عودة وحسنين كروم وأحمد محمد عطية من ناحية، وبين المنتمين إلى اليسار الماركسى مثل لطفى الخولى وعبدالعظيم أنيس وآخرين من ناحية أخرى، وأعتقد أيضًا أن الخولى أراد أن يقول لسلطة السادات آنذاك: هانحن قادرون على إنقاذ رجلكم من سكاكين الناصريين، وسوف نجرى حوارًا عقليًا، لا تشوبه العصبية والمبالغات وجو الانفعالات الذى كان سائدًا فى تلك الفترة، بصدد مناقشة الحكيم وكتابه.

وبالنسبة لتوفيق الحكيم، استقبل الحوار بحفاوة بالغة، فهى كذلك محاولة إنقاذه بشكل مؤسسى، أى من خلال مؤسسة صحفية، تضم كتّابًا وصحفيين لهم مصداقيتهم فى الحياة الفكرية، لذلك رد فورًا على لطفى الخولى قائلًا: «أشكر لك رسالتك المفعمة بالمودة والمصارحة، كما أشكر لك ولزملائك فى أسرة تحرير (الطليعة) دعوتكم إلى حوار جماعى منظم ومسئول حول تلك القضايا التى ذكرتها فى رسالتك، وهى دعوة تسرنى وتسعدنى..»، وأخطر ما جاء فى الرسالة هو إعادة توفيق الحكيم لتعريف نفسه بطريقة ما، إذ يقول: «.. أنا أرفض دائمًا أن أزرع زرعًا فى أرض ليست فيها جذور طبيعية، سواء فى الفن أو فى الفكر أو فى المبادئ أو فى العقائد، ولقد استخرجت على عجل هذه الصفحات من كتاباتى المنشورة فى الثلاثينيات والأربعينيات مما يمكن أن أسميه (اشتراكيتى)، لترفق برسالتى»، هنا يريد الحكيم بكل الطرق أن يبتز جماعة اليسار، فيعلن أنه اشتراكى، ومنذ متى؟، منذ عقد الثلاثينيات، أى فى عهد الملكية، وهذا بالطبع ابتذال لمفهوم الاشتراكية، ولتكونها، فقبل ذلك الوقت، لم نعرف أن الحكيم زعم أنه اشتراكى، ولكن مجلة الطليعة أتاحت له ذلك، أى نعم إن المفكرين الذين حضروا المناقشات، عصروا الحكيم بكل أشكال الأدب المعروفة، ولكنهم أتاحوا له خروجًا آمنًا من أزمته، فها هى هيئة صحفية يسارية مؤسسية تعطى له منديل الأمان، وفى رسالته ضمنها مقتطفات من كتبه السابقة، وهى مقالات عادية، مثل أى مقالات كان يكتبها زملاء له فى الصحافة، بل كتب مقالًا ضمنه تلك المختارات يحمل عنوانًا لافتًا هو: «لست شيوعيًا ولكن»، وهو يثبت بأشكال مختلفة بأنه لا يكتب ذلك المقال وهو يفكر بالرأسمالية أو الاشتراكية أو الشيوعية، ولكنه يطرح مجموعة أفكار قرأها من قبل فى كتابات مفكرين عالميين لهم روابط بالاشتراكية أو الشيوعية العالمية، ورغم أنه يتبنى تلك الأفكار، إلا أنه يختلف مع معتنقيها، أين هى إذن اشتراكيته؟، إنه يتحدث عن الضريبة المتصاعدة، والتى هى مجرد اقتراح كان يطرحه الرأسماليون فى الغرب، وتمت استعادة كل تلك القوانين فى الثلاثينيات والأربعينيات بفضل عضوى مجلس النواب ميريت غالى، ومحمد خطاب، إذن توفيق الحكيم ليست له علاقة بأصل الفكرة المطروحة، كما أن الأفكار المطروحة لا تمت إلى الاشتراكية بأى رابط، ولكنها الأزمة الطاحنة التى دفعته لكى يستقطب قيدات اليسار الذى يقف على حافة من انهيار العلاقات بينه وبين النظام، خاصة بعد تصفية مجلس إدارة مجلة الكاتب، وبالتالى ما حاق بمجلة الكاتب، من الممكن أن يقع بمجلة الطليعة، إذن كان هذا الحوار برغم فائدته العامة، إلا أنه كان عائدًا بالفائدة على طرفى الحوار، توفيق الحكيم، وقادة اليسار الرسمى، ولا بد أن نشير هنا إلى رسالة توفيق الحكيم فى مجلة روز اليوسف بتاريخ ٢١ أكتوبر ١٩٧٤، وكانت تحت عنوان «لم أنقد لحساب الماضى، وإنما لحساب المستقبل»، وبعد ديباجة متقنة من توفيق الحكيم، ألقى بمبادرته قائلًا: «.. وأنا أقصد بحديثى هنا مخاطبة اليسار، لأننى أيًا كانت مثاليتى، أعتبر نفسى من المسئولين عن الاشتراكية المصرية، وأنا أدرك جيدًا موقف اليسار الحالى والناصرى بوجه خاص، وخوفه من استثمار الرجعية لنقد إنجازات عبدالناصر، ولكن خوف اليسار هذا يكاد يوقفه فى موقف رجعى، فهو ينسى أزمة الديمقراطية التى وقعت فى سنوات ١٩٥٢- ١٩٥٤، وينسى موقفه من رفض النظام الشمولى الذى ساد فى هذه السنوات، صحيح أن موقف الثورة واتجاهها اختلفا منذ قرارات التأميم، ولكن على اليسار أن يتخفف قليلًا من تزيين وتجميل تجربتنا فى الاشتراكية، وتصويرها فى صورة الاشتراكية المثلى، ولعل عذر اليسار فى هذا الموقف خوفه من الردة إلى الوراء وإلى الأسوأ...».

هنا نحن نتعامل مع رجل عجوز وداهية ومراقب لكل ما يحدث ويقال، فما كانت غمزته التى يعلن فيها «على اليسار أن يتخفف قليلًا من تزيين وتجميل تجربتنا فى الاشتراكية» تعنى تاريخًا طويلًا من العبث، وكان أحرى بالحكيم أن يقول «على اليسار أن يتخفف قليلًا من التزييف»، وهذا ما حدث فعلًا فى حقبة الستينيات من قادة مع استثناءات قليلة، وعرفنا من دكتور فؤاد مرسى نظرية «التطور اللا رأسمالى» للاقتصادى الكبير أوليانوفيسكى، وساعتئذ، قيل إن ما يحدث فى مصر، ما هو إلا عملية تقويض للرأسمالية تدريجيًا، ولكنه كخبير وعالم اقتصاد، لم يستطع أن يقول إن ما يحدث اشتراكية، كذلك شاعت فكرة أن التأميمات التى حدثت فى مصر، ما هى إلا خطوة على طريق الاشتراكية، وهذا ما كتبه كثيرون فى مطلع عقد الستينيات، وصدرت كتب فى دراسة الاشتراكية، كما شاعت فكرة الاشتراكية العربية، رغم أن موضوع العروبة هذا، كان موضوعًا سياسيًا براجماتيًا بشكل محض، فلا يوجد شىء اسمه الاشتراكية العربية، رغم أن ذلك الشعار كان سائدًا على ألسنة كل القادة والسادة، وكانت السلطة بعد أن خرجت الشيوعيين من المعتقلات، جعلت كثيرًا منهم أبواقًا لتلك الاشتراكية المزعومة، والتى لا تعنى سوى تصدير الوهم، وكانت مجلة الكاتب فى بداياتها الأولى تقدم وجبات فنية وثقافية وفكرية عالية ورائعة، ولكنها كانت تخصص دراسات كاملة، وندوات فى المجلة حاشدة، لترويج ذلك الوهم، وهذا ما جعل توفيق الحكيم يقول لهم: عليكم أن تتخففوا من التجميل والتزيين، رغم أنه أيضًا وقع فى نفس ذلك التزوير عندما زعم أن الكلام المرسل والمقتبس الذى كتبه فى عقدى الثلاثينيات والأربعينيات، نوع من الاشتراكية، وقال عنه «اشتراكيتى»، فلم يترك المصطلح يسبح فى سديم، ولكنه وضع ياء التخصيص التى تعنى بأنها اشتراكية تخصه، ولو أى مدرس اقتصاد فى مدرسة ثانوية، سيدرك على الفور بأن ذلك الكلام المرسل ليست له علاقة بأى اشتراكية.

لم يختر توفيق الحكيم أن يوجه رسالته إلى اليسار عبثًا، ولم يختر أن يكون بينهما حوار طويل إلا كنوع من تكثيف ما كانت تفرضه المرحلة، ولذلك صرخ الدكتور فؤاد زكريا فى مجلة روزاليوسف بتاريخ ١٤ أبريل ١٩٧٥، أى أثناء شهور إجراء الحوار بين الحكيم واليسار على صفحات مجلة الطليعة، وكتب ثلاثة مقالات تحت عنوان «عبدالناصر واليسار المصرى»، وأثارت تلك المقالات سلسلة واسعة من ردود الفعل القوية والعنيفة، وهو فى تلك المقالات لم يفعل سوى أنه أدان اليسار بشدة، لأن اليسار كان شريكًا لجمال عبدالناصر فى كثير من الأخطاء التى ارتكبها نظامه، وزعم زكريا بأن جمال عبدالناصر قال إنه اشترى اليسار بـ٥٠٠٠ جنيه، إذ أخرجهم من المعتقلات، وفتح لهم مجلة الطليعة، وكانت مجلة الطليعة من الناحية النظرية تطرح الماركسية والمادية الجدلية بشكل واضح وصحيح، وتم إعداد تقارير عن كثير من البلدان الاشتراكية، ولكن عندما تتعرض إلى الوضع الداخلى، تذهب الماركسية بعيدًا، وتحل محلها كل التخريجات الجديدة التى تنتصر للدولة الناصرية، ولا بد أن نضيف ملاحظة بأن كل من كانوا فاعلين فى الحياة السياسية الماركسية، كلهم من تلاميذ شهدى عطية الشافعى، النصير الأول لجمال عبدالناصر، وكان قد كتب كتابًا عنوانه «الحركة الوطنية المصرية من ١٨٨٢ إلى ١٩٥٧»، وثلث الكتاب الأخير لم يكن إلا برنامج عمل بين الحركة الشيوعية، والسلطة الناصرية، والذين ناقشوا توفيق الحكيم، وهم لطفى الخولى، ود لطيفة الزيات، وأبوسيف يوسف، وخالد محيى الدين، ودكتور فؤاد محيى الدين، ودكتور عبدالعظيم أنيس، ود مراد وهبة، ومحمد سيد أحمد، غالبيتهم من الذين كانوا يؤيدون جمال عبدالناصر، وزاد ذلك التأييد عندما برز اليمين فجأة بعد ١٥ مايو ١٩٧١.

ولن ننسى بأن اليسار القديم أو التقليدى، أو الرسمى، لم يكن يريد صدامًا مع السادات، وعدم شيطنته، وشيطنة رجاله، لذلك كتب بعضهم تحليلات سياسية عاقلة تشرح السياسة الساداتية، وعلى رأسهم الأستاذ لطفى الخولى الذى كتب سلسلة دراسات فى النصف الثانى من عام ١٩٧٥ حول ما أسماه المدرسة الساداتية، وقد أغضبت تلك الدراسات بعضًا من اليمين، وبعضًا من اليسار رغم عقلانيتها، وفى العام ذاته، نشر فتحى عبدالفتاح كتابه الشهير «شيوعيون وناصريون»، وحكى حكايته وحكاية رفاقه فى معتقلات عبدالناصر، ورغم أنه كتب ما معناه أنه لم يكتب ذلك الكتاب لكى يستثمره اليمين البشع، ولكنه أراد أن يكتب تحية لا تخفى على القارئ موجهة للرئيس أنور السادات عندما قال: «.. وربما كان أنور السادات، وهو المعتقل والمسجون السياسى السابق، من أكثر الناس إدراكًا بأن مواجهة الفكرة بالسجن أو المسدس أو المعتقل، أمر يجب أن يكون من مخلفات الماضى»، ولا بد أن أشير إلى أن فتحى عبدالفتاح قد حذف تلك الفقرة، عندما أعاد نشره فى عقد التسعينيات، من هنا أدرك الحكيم بأنه يلتقى مع اليسار فى محطات عديدة، ودار الحوار على مدى تسعة أشهر، وتم جمع ذلك الحوار، وصدر الكتاب عن دار القضايا فى بيروت فى نهاية عام ١٩٧٥.