الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أغنية النبى.. بول لينش: أكتب 300 كلمة فى اليوم.. وأكثر من ذلك «كلام فارغ»

بول لينش
بول لينش

بين سطور روايات بول لينش نجد تاريخًا من الصراعات والمآسى التى تُكتب عن أيرلندا، لكنها فى واقع الأمر تعبر عن المآسى والصراعات الإنسانية عمومًا، مع استخدام الكتابة عن الماضى كمنارة تضىء طريق الحاضر وترشد إلى المستقبل.

وبأسلوب يمزج بين الحكاية التقليدية والحداثة الأدبية، أعاد «لينش» إحياء أصوات المنسيين والمهمشين، وهو ما فعله فى روايته الشهيرة « ProphetSong» أو «أغنية النبى»، التى فازت بجائزة «البوكر» العالمية لعام 2023.

«حرف» تحاور فى السطور التالية الروائى الأيرلندى، عن تجربته الروائية بصفة عامة، وروايته الفائزة بـ«البوكر» خلال العام الماضى على وجه التحديد، قبل صدورها فى ترجمة عربية قريبًا.

■ فزت بجائزة «البوكر» العالمية لعام ٢٠٢٣، عن رواية «Prophet Song» أو «أغنية النبى».. ما الذى ألهمك كتابة رواية «ديستوبية» عن انهيار المجتمع الأيرلندى تحت حكم نظام استبدادى؟

- عندما بدأت كتابة رواية «أغنية النبى»، فى ديسمبر ٢٠١٨، كان يخيم شعور عميق بالفوضى والاضطراب السياسى. لكن الأكثر فداحة هو الشعور الأعمق بوجود أزمة روحية مضمرة وغير معترف بها تتكشف عبر العالم الغربى، بالإضافة إلى تفكك روابط السلام. أتذكر اقتباسًا لـ«رودولف جوليانى» قال فيه: «الحقيقة ليست حقيقة»، وعند تلك اللحظة تمامًا، رأيت بوضوح أننا على مشارف الهاوية. 

بدأت فكرة الرواية فى ذهنى ببعض التأملات المتعلقة بسوريا، لكن مع الاستمرار فى الكتابة، أدركت أننى أكتب رواية تعبر عن حقائق سياسية فى أزمنة متعددة، سواء كانت ماضية أو حاضرة أو مستقبلية، هذا كان الهدف، وكلما اقتربت من اللغز، زادت شمولية القصة التى تحملها.

الحقائق التى جاءت فى هذه الرواية حقائق عامة ولا تمثل تهديدًا وشيكًا، بل هى ببساطة ما كنا دائمًا عليه وما سنكون عليه. و«الدستوبيا» فى السياق مجرد حيلة، إذ كيف يمكن لرواية كهذه أن تكون خيالية إذا كانت تعبر عن الواقع المعاش لملايين الناس حول العالم الآن؟

■ تمر شخصية «أيليش ستاك» بطلة الرواية بتحولات كبرى، كيف بنيت وطوّرت هذه الشخصية المعقدة؟

- «إيليش» كشخصية تبهرنى، فهى حديثة وقديمة فى الوقت عينه، امرأة عصرية تمامًا، عالمة وأم لـ٣ مراهقين ورضيع، وزوجة لنقابى، وابنة لأب يوشك على الخرف. هى تمثل بالنسبة لى الضغط الذى يواجهه كثيرون منا فى أوائل منتصف العمر، عندما تهاجمنا الحياة من كل الاتجاهات، ومثلنا جميعًا، هى تؤمن بأن العالم الذى نشأت فيه هو العالم الذى سيستمر.

لكنها قديمة أيضًا، وفى كثير من النواحى أعتبرها يونانية جدًا. فعندما تطرق الشرطة السرية الأيرلندية المُشكّلة حديثًا بابها، فى بداية الرواية، فإن ما تدخله هو المتاهة بعينها. وعندما يختفى زوجها، وتبدأ قوى الشغب تفكيك هذا المجتمع، تجد نفسها وسط المنطق الكابوسى لانهيار البلاد، مُجبرَة على اتخاذ خيار مستحيل تلو الآخر، فى محاولة للحفاظ على عائلتها معًا. ككاتب، أنا مهتم بما أطلق عليه اليونانيون القدماء «آتى»، أو كيف نتصرف كبشر بيقين لكننا نحصد محصولًا مريرًا مما هو غير متوقع. 

تنتقل «إيليش» عبر عالم مظلم، وتحاول اتخاذ الخيارات الصحيحة لحماية عائلتها، مع سعيها إلى التغلب على الأقدار. ولكى أجعلها حقيقية، لم يكن علىّ سوى الإصغاء إليها، والانتباه لتعقيدها الكامل كإنسانة، هذه المرأة الذكية الحازمة الرصينة المليئة بالشراسة والتعاطف والحب، وأن أترك الجُمل تشق طريقها داخل الأشياء المشرقة والمظلمة لتجربتها الحية.

■ الرواية تتناول موضوعات مثل القمع والترهيب، فهل أردت إيصال رسالة معينة بهذه الأفكار إلى القارئ؟

- رواية «أغنية النبى» ليست معنية بإصدار تصريحات سياسية واضحة، لكنها تهتم بكشف النتائج الوجودية للسياسة القمعية والاستبدادية، فالأنظمة السياسية المتطرفة التى تنتمى إلى اليسار واليمين تأتى وتذهب، لكن آليات القمع وتأثيراتها على الفرد تظل باقية، وهذا التأثير على الفرد والأسرة هو ما يهمنى.

أريد من القارئ ألا يتوقف عند الحدث السياسى، بل أن يختبر التكلفة الشخصية للأحداث، وأن ينخرط فى الواقع المعاش لشخص عادى وهو يسعى إلى عيش حياته اليومية، أخذ الأطفال إلى المدرسة، والذهاب إلى العمل، والعناية بالوالدين، وغيرها من الأمور المشابهة.

أنا أعتبر أن رواية «أغنية النبى» مثل كل رواياتى، «ميتافيزيقية» فى جوهرها، وتطرح الأسئلة دون السعى لتقديم إجابات، لا تعالج ما يمكن إصلاحه، بل تركز على ما هو خارج صلاحيتنا لمعالجته. بمعنى آخر، هى رواية الحزن وليس التظلم، رواية تهتم بمشاكل المعرفة والمعنى فى عالم تزداد فيه صعوبة معرفة الحقيقة. الحياة كلها خسارة، وما ضاع لا يمكن استعادته.

■ هل لك طقوس معينة أثناء الكتابة؟

- نحن نعيش فى زمن يربض فيه أباطرة العالم داخل جهاز فى جيوبنا، وهذا يجعل الكتابة صعبة للغاية. ذات مرة، تحدث مونتين عن أسفه لسهولة تشتيت انتباهه، لكنه فى الحقيقة لم يكن يدرى شيئًا عن تشتيت الانتباه! الكاتب المحترف لا شىء من دون طقوس. يجب عليك إجبار الإلهام.

بالنسبة لى، يبدأ الطقس بنوم جيد لا يقل عن ٨ ساعات يساعد على مواجهة الصباح دون انقطاع، على الرغم من أن لدى طفلين، وفى الأيام التى يبيتان فيها داخل منزلى، فأنا أشارك فى تربيتهما بعد الانفصال، يتوجب علىّ إطعامهما وتوصيلهما إلى المدرسة، وأنا أستمتع بهذه الطقوس. ويشكل التأمل جزءًا من حياتى اليومية، ورغم أننى لم أعد أشرب القهوة، أجد أن ذهنى يصبح فى حالة تأهب تام بعد حوالى ٣ ساعات من الاستيقاظ، وهذا هو الوقت الذى أبدأ فيه العمل.

يعتبر الإنترنت والبريد الإلكترونى ووسائل التواصل الاجتماعى هى عدو الممارسة الإبداعية، وسبب تشتت الفكر والاهتمام. يجب أن يكون العمل فى سكون تام. أيضًا تساعدنى ضوضاء سماعات الأذن فى التركيز على المسار.

بعد الغداء أطلع على بريدى الإلكترونى وأعيد تشغيل هاتفى. أكتب فى أفضل الأيام حوالى ٣٠٠ كلمة جيدة، وأى شىء أكثر من ذلك يكون كلامًا فارغًا. عادة أكتب لمدة ٣ ساعات على مدار جلستين.

■ وماذا عن مشروعاتك الأدبية المقبلة؟

- إن الفوز بجائزة «البوكر» لا يترك لك سوى القليل من الوقت للكتابة. أفتقد عزلة تلك الأيام الهادئة التى لم يكن فيها العالم يطرق بابى ويطلب منى السفر. كان لدى مشروع قيد التنفيذ لكنى غير سعيد به الآن. آمل أن أعود إلى العمل الجاد فى العام المقبل، حيث إن الممارسة اليومية للكاتب هى المكان الذى نلتقى فيه بأفضل وأصدق ما لدينا، وأفتقد تلك الفرحة الفريدة والمؤلمة لنسيان ذاتى فى العمل.

ولأولئك الذين يسألوننى باستمرار عن موعد روايتى الجديدة، فأنا أدعوهم لقراءة رواياتى الأربع الأخرى التى لم يقرأها الكثيرون بعد. رواياتى الثلاث الأولى «السماء الحمراء فى الصباح» و«الثلج الأسود» و«النعمة» هى استكشافات تاريخية تحفر عميقًا فى النفس الأيرلندية، وروايتى الرابعة «ما وراء البحر» هى قصة وجودية تستكشف طبيعة الواقع لرجلين ينجرفان بقاربهما فى المحيط الهادئ.