الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ست الدنيــا.. بيروت فى الضمير المصرى

بيروت
بيروت

- عبر صوت فيروز الذى يصدح فى بيوتنا، وموسيقى «الرحبانية» التى أحببناها، تستقر بيروت فى الضمير المصرى

ترتبط القاهرة وبيروت بعلاقات ثقافية راسخة، لا يمكن اختزالها فى الجانب الرسمى، حيث تقف القاهرة مع بيروت ضد العدوان الهمجى الآنى الذى تشنه إسرائيل، بل تمتد لحال من الشغف المتبادل، فالحواضر المركزية فى الثقافة العربية ستبدأ دائمًا من القاهرة وتمتد إلى بيروت وعواصم أخرى، وفى رسائل تل العمارنة سنجد ذكرًا لبيروتا، أى بيروت، ولملكها القديم عمونيرا أو أمونيرا. تنتمى بيروت، إذن، لعالم الحضارات القديمة، فالفينيقيون شكلوا جزءًا غير منكور من تاريخ العالم، لكن الحضور الواعد لبيروت المدينة والمكان، الفن والتاريخ، الواقع الإشكالى المركب والمعقد أيضًا، والآمال المعلقة دائمًا فى غدٍ أكثر تسامحًا وإنسانية، تجعل بيروت ابنة الآن وهنا بامتياز، وابنة لحظتها المتحولة باستمرار.

كان الهوى المصرى اللبنانى متبادلًا، فالروح المصرية مثلت شغفًا خاصًا لدى أشقائنا العرب والدور التاريخى للأمة المصرية فى التصدى للمحن والنوازل العربية، والقوة الناعمة المصرية التى شكلها الفكر والأدب والسينما والموسيقى والفنون بتنويعاتها المختلفة.

كانت بيروت مسرحًا مستمرًا لحركات التجديد الفكرى والإبداعى، سواء فى الشعر أو الموسيقى أو حركة النشر التى طبعت الكتب البيروتية بطابع خاص على مستوى الإخراج الفنى وجودة الطباعة. وكان الإسهام البارز للأخوين اللبنانيين «سليم وبشارة تقلا» فى تأسيس جريدة «الأهرام» العريقة عام ١٨٧٥، عنوانًا على الدور الذى لعبه اللبنانيون فى تاريخ الصحافة العربية. تحضر «فيروز» فى الوجدان المصرى ليس فقط عبر أغانيها الملهمة، ولكن عبر أدائها الرفيع دومًا، والتنوع الخلاق فى نتاجها الفنى الذى لا يشبه أحدًا غيرها. والذى كرس أيضًا لموسيقى الرحبانية التى اتسمت بالاختلاف عن السائد والمألوف. يمكننا أيضًا الإشارة إلى الدور الرائد الذى لعبته فرقة «سليم النقاش» المسرحية فى القرن التاسع عشر، ومن قبله مباشرة «مارون النقاش»، كما يمكننا فى هذا السياق استدعاء حركة الشعر الرومانسى التى يبرز فيها «خليل مطران» الذى أطلق عليه لقب «شاعر القطرين» فى الإشارة إلى «مصر ولبنان». والأعمال الإبداعية التى خلفتها حركة «شعراء المهجر»، ممثلة فى «ميخائيل نعيمة، وإيليا أبى ماضى»، و«جبران خليل جبران» بكتابه المهم «النبى»، فضلًا عن الإسهام اللبنانى الفاعل فى حركة التجديد الشعرى عبر مجلة «شعر» التى أسسها الشاعر «يوسف الخال»، وانضم إليها كوكبة من رموز التجديد الشعرى فيما بعد، لعل من أبرزهم الشاعر اللبنانى «أنسى الحاج». 

ولسنا هنا بصدد استقصاء مظاهر التفاعل الخلاق بين الثقافتين المصرية واللبنانية، ولكننا أمام «ترميزات» دالة على مشهد تتجلى فيه الرغبة الحقيقية فى معانقة الجمال والشغف والانتصار رغم كل شىء للجوهر الإنسانى الأصيل. 

ولبيروت حضور واعد فى الرواية المصرية، حيث مثل الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى عام ١٩٨٢، وما قبلها، وما بعدها، إطارًا سرديًا لرواية «الحب فى المنفى» لبهاء طاهر، تلك الرواية المهمة التى تحيلك على جدل العلاقة بين الشرق والغرب فى إطار صيغة مغايرة من التفاعل الندى الثقافى الذى يبرز عبر حكايات إنسانية الطابع، تلوح فيها دومًا وحدتان أساسيتان «الأنا الشرقى الذى يمثله السارد البطل»، والآخر الغربى الذى تمثله الفتاة المنتمية إلى الشمال، وتنفتح الرواية على إشكالية الرواية وصداها الذى يتواتر بانتظام، فى ظل حركة الإيقاعات السردية المتعاكسة والمتقاطعة فى الآن نفسه: «كنت قاهريًا طردته مدينته للغربة فى الشمال، وكانت هى مثلى أجنبية فى ذلك البلد ، لكنها أوروبية وبجواز سفرها تعتبر أوروبا كلها مدينتها»، وتصبح سردية الصراع العربى الإسرائيلى ماثلة هنا على خلفية الدمار الذى لحق بلبنان: «انظر إلى تلك المجزرة فى لبنان وشعب الله المختار يستأصل شعبًا غير مختار ويقول قائد جيشه العربى الجيد هو العربى الميت»!.. كل ذلك القتل لأن القاتل دائمًا هو الأفضل، هو الأرقى، وعجلة المجازر تدور طوال الوقت لتستأصل الآخرين، الأغيار، أعداء الرب، أعداء العقيدة الصحيحة، أعداء الجنس الأبيض، أعداء التقدم.. الأعداء دائمًا وإلى ما لا نهاية. مع أنه لا توجد فى العالم حرب شريفة غير تلك التى تدافع فيها عن بيتك أو عن أهلك أو عن أرضك وكل حرب غيرها فهى قتل جبان.

وفى روايته « بيروت.. بيروت»، يرتحل الروائى صنع الله إبراهيم إلى لبنان، التى تصبح بمثابة الفضاء الروائى المركزى فى النص، حيث يبحث الراوى البطل عن ناشره «عدنان الصباغ»، ليجد «اللا أحد» فى انتظاره، فقد نسفت الدار نسفًا، فى أجواء الحرب الأهلية، ليدور الحوار السردى الدال بينه وبين صديقه القديم الصحافى المصرى «وديع مسيحة»:

«هل عدنان مرتبط بجهة معينة؟

- الإجابة صعبة؛ فقد مضى العهد الذى كان الواحد يرتبط فيه بجهةٍ محددة. الكل الآن ينوعون ارتباطاتهم تحسُّبًا للمفاجآت.

– لكن لماذا ينسفون الدار وهم يعرفون بالتأكيد أنه ليس بها؟

قال وهو يصُب الشاى من إناءٍ خزفى ملوَّن: ربما القصد هو التأديب أو الإنذار».

تبدأ الرواية زمنيًا من لحظة محتدمة فى السياق العام «١٩٨٠» ويصبح الكشف والمساءلة آليتين أساسيتين فى استجلاء المسكوت عنه داخل المدينة المغوية والمركبة فى الآن نفسه: «بسطتُ الجريدة فطالعَنى فى صدرها عنوانٌ كبير نصه: (قرارات حاسمة بوقف إطلاق النار فى بيروت الغربية). بحثت عن التاريخ فوجدتُه السابع من نوفمبر، تشرين الثانى ١٩٨٠، وهو تاريخ اليوم».

تتجادل آليات التوثيق، والسرد السير ذاتى، ومحاكمة الواقع، داخل النص، فضلًا عن تكنيك الرواية داخل الرواية، حيث يشير السارد البطل إلى روايته التى جاء لنشرها فى بيروت، وإلى أجوائها فى حواره السردى مع صديقه وديع:

«لقد جئتُ لغرضٍ واحد فقط، وبمجرد الانتهاء منه سأعود.

– حدِّثنى عن كتابكَ.

أشرتُ بيدى إشارة مبهمة فى الهواء وقلت: إنه عبارة عن رحلة حول العالم العربى تشبه المقامات القديمة؛ فالبطل يظهر فى كل بلد ثم يُطردُ منه ليظهر فى بلدٍ غيره، وهكذا دوالَيكَ».

وبعد.. عبر صوت فيروز الذى يصدح فى بيوتنا، وموسيقى «الرحبانية» التى أحببناها، تستقر بيروت فى الضمير المصرى، والوجدان العام، وفى الخلفية وفى اللا وعى الجمعى تاريخ ممتد من الانحياز المشترك للجمال والمعنى والحرية، والتنوع بوصفه القيمة المضافة للأمم الراغبة فى الحياة، وليس فى الموت، القائمة على التسامح وليس التعصب، المنحازة للجمال والنور، والهاربة من القبح والعتامة.