مكاوى سعيد ومقتنيات وسط البلد
الله يرحمه، ما كانش شخص، كان حالة.
فى فترة من الفترات، العقد الأول من الألفية، الواحد على مستوى شخصى تعب من أوساط الصحافة والثقافة والكتاب، مش لـ إن «الناس وحشة» ولا شىء من هذا القبيل. أنا أساسًا مش بحب النغمة دى اللى فيها إدانة لـ الجميع، واتهام مشاعى لـ الكل بـ إنهم فيهم وفيهم وفيهم، وبـ أشوف إنه كل إنسان قصة وله قصة، فـ الموضوع مش سلوكيات، بس برضه الجو العام ما كانش قد كدا.
ليه؟
الواقع إنه الضغوط كانت كبيرة، وقبل مواقع التواصل الاجتماعى وانتشار الإنترنت بـ شكل عام، كانت التنافسية عالية جدًا على فرص النشر بـ كافة أشكاله، سواء مقالات أو إبداعًا أو كتبًا، بـ التالى فرص الأفراد فى التعبير عن أنفسهم قليلة، ودا خلى الأوساط كلها فى حالة دائمة من التسابق، أحيانًا حتى ما تبقاش عارف هو السبق على إيه، بس الحالة موجودة. فى الأجواء دى بـ تقل طبعًا بـ شكل تلقائى مساحة التفاعل الخالى من السعى نحو أهداف الحياة، بـ معنى إنه كل قعدة بـ تبقى غالبًا فى إطار التحضير لـ أمر ما/ قرار ما/ تخطيط ما/ اتفاق ما، وهكذا، والواحد ما كانش ملاحق، واليوم قصير والمساعى كتير، وكنت نادرًا ما تاخد نفسك، وهنا لازم تذكر اسم مكاوى سعيد.
كان مكاوى مقيمًا بـ شكل دائم فى «زهرة البستان»، وكان لقاؤه دومًا وعد بـ فاصل زمنى قصر أو طال مفيهوش غير كلام فى الأدب والفن وعن القاهرة وشوارعها ووسط البلد وتاريخه، ونقاشات جادة مليئة بـ الابتسامات، وبس. بعدها كل واحد يروح لـ حاله، وهذا أمر، لو تعلمون، مريح.
الواقع إنه هو كمان كان متعدد الاهتمامات، غزير المعرفة، لا يدعى إطلاقًا «على الأقل فى تفاعله معايا» دور خاص فى الحياة الثقافية، أو خلينا نقول غير منشغل بـ إثبات أن له تأثيرًا وتاريخًا وعلاقات متينة بـ الأسماء الكبيرة «رغم إنه كان له كل هذا» لكن بـ أتكلم عن خصلة سيئة عند كتير من البشر وهى إنهم ٢٤ ساعة فى وضع «تقديم الذات لـ الآخرين».
هكذا قضينا ساعات طوال فى تفتيح نوافذ كتير، فى اللغة والأدب والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لهم، يمكن هو سجل كتير من الأفكار والمشاعر دى فى أعماله، بـ الأخص فى كتاب «مقتنيات وسط البلد» وتقديرى إنه تأثير الكتاب دا على ناس كتير أقوى مما يبدو.
متهيأ لى الكتاب دا عمل تطبيع بين البشر ووسط البلد، ومنها لـ القاهرة عمومًا. القاهرة مدينة ساحرة، لكنها فى الوقت نفسه ضاغطة وقاهرة فعلًا، لـ ذلك هى مخيفة لـ الكثيرين، حتى مش ضرورى يتعرضوا فيها لـ تجارب صعبة علشان يخافوا منها، لأ، هى من بره كدا تحس إنها شاطئ مكتوب عليه: «لا يوجد منقذ، السباحة مسئوليتك»، ودا يخوف حتى لو ما انتاش ناوى تنزل المية.
مكاوى فى الكتاب بـ يزيل كتير من هذا الضغط وتلك الرهبة، مش بـ إنه يطمنك إن دا مش حاصل، لأ، لكن عبر تحويل كل هذا لـ لحم ودم، وتشريح الأمور بـ دقة وبساطة ومن غير أفورة فى الأحاسيس، وفى إنه كل هذا له جوانب إنسانية مش بـ الضرورة ترويعية، بل إنها لا تخلو من شجن، بـ الظبط زى ما كان بـ يعمل فى قعداته.
من ساعة ما اتوفى مكاوى، ما عديتش على «الزهرة» غير يمكن تلات أربع مرات، وفى كل مرة أبص بـ طرف عينى على الكرسى اللى كان معتاد يقعد عليه، وأبتسم، وأروح لـ حال سبيلى.