فساد ثقافى.. محاولات تصنيع أشباه أدباء ونقاد
- الوسط الثقافى يعانى من أشباه المبدعين وأشباه النقاد أيضًا
- كتاب وأدباء يتصدرون مقدمة الصورة الآن دون أى استحقاق
لن يكون فيما أقوله هنا هجومًا على أحد ولا انتقاصًا من أحد.
منذ ما يقرب من شهرين كنت أجلس مع صديقى الشاعر والباحث والمؤرخ الثقافى الكبير شعبان يوسف، الذى يتحدث طول الوقت بحماس شديد، وفجأة وضع أمامى ما اعتبره هو ظاهرة فى الوسط الثقافى.
قال لى شعبان إن هناك بعض النقاد ومجموعات القراءة وكتاب الأعمدة من يهللون لأعمال أدبية بلا قيمة، يمنحون رواية بمجرد الإعلان عن صدورها ودون أن يتحملوا عناء قراءتها أوصافًا فى الغالب ليست فيها ولا فى كاتبها أو كاتبتها، يعطونهم رصيدًا مسبقًا، وهو ما يشكل شكلًا من أشكال المصادرة على ذائقة القراء، فتجد عملًا تافهًا يحتل مساحة كبيرة من الاهتمام لمجرد أنهم يعرفون الكاتب أو الكاتبة.
ولأن شعبان يتحدث بالأسماء دائمًا دون خشية من أحد، فقد عدد لى بعض الكتاب الذين يحظون بهذه المنح النقدية دون استحقاق، وهو ما يجعل الوسط الثقافى يعانى من أشباه المبدعين وأشباه النقاد أيضًا، فى الوقت الذى لا يلتفت فيه هؤلاء النقاد لكتاب مهمين ولأعمال أدبية مهمة، لا لشىء إلا لأن هؤلاء الكتاب والكاتبات خارج نطاق تغطية هؤلاء النقاد، أو أنهم لا يمتون إليهم بصلة، أو أنهم ليسوا فى شلتهم.
تذكرت ما صرح لى به شعبان عندما كان ضيفى فى برنامج الشاهد، عندما قدمت موسم شهادات على العقل المصرى فى بدايات العام ٢٠٢٤.
جاء شعبان يوسف على سيرة نجيب سرور، فسألته عن سره.
قلت له: لماذا يتعامل معه جمهور الثقافة وأحيانًا الجمهور العام فى مصر والعالم العربى على أنه أيقونة وصاحب قيمة أدبية عالية، وأنه كان مناضلًا كبيرًا؟
لم يجبنى شعبان على سؤالى، بل فجر مفاجأة كبرى عندما قال: نجيب سرور لم يكن مناضلًا ولم يكن أديبًا فارقًا أيضًا، وكنت أحبه على المستوى الشخصى، وقابلته كثيرًا فى مجلة «الكاتب»، وكان صلاح عبدالصبور يحتفى به كثيرًا، وأنا قد أحب الشخص ولا أحب كتابته.
كان لا بد من تفسير ودليل، فمضى شعبان يضرب لى الأمثلة على رؤيته فى نجيب سرور.
قال: خذ عندك مثلًا قصيدته المشهورة والمرتكزة على الشتائم والسباب، والتى طالما احتفت بها شرائح مختلفة من المثقفين، هى بالفعل قصيدة مشهورة، لكن ليس لها قيمة أدبية أصلًا، وهذا مثال على أن الشاعر الرائج أحيانًا يكون الشاعر الشتام، يعنى مثلًا صلاح عبدالصبور على سبيل المثال أهم من نجيب سرور فى الشعر، لكنه لم يحظ بما حظى به الأخير من قراءات وشهرة.
قلت لشعبان: لكن كثيرين يتحدثون عن براعة نجيب سرور فى الكتابات المسرحية، ويتحدثون عن مسرحيته الشهيرة «ياسين وبهية»؟
كانت مفاجأة شعبان الثانية أن شهرة مسرحية «ياسين وبهية» جاءت من جودة الإخراج وليس جودة الكتابة، وقال: «ياسين وبهية» كانت فى الأصل رواية وليست مسرحية، وكان كرم مطاوع هو من نشرها وأخرجها، ونجاحها يعود إلى احترافية الإخراج وليس إلى النص الأدبى.
وحتى لا يتجرأ أحد على ما رأى شعبان فى نجيب سرور، اسمعه وهو يقول: عندما تقرأ المقالات التى تحدثت عن مسرحية نجيب سرور ستجد أن ٨٠ بالمائة منها تنتقد النص، وتنسب النجاح للمخرج كرم مطاوع.
قلت لشعبان، لكن هناك من يرى أن نجيب ظلم، وأن عبقريته الأدبية كانت سببًا فى محاصرته.
قال: الحقيقة أن نجيب سرور كان أكثر شخص «متدلع» فقد كان من الممكن أن تعرض له فى الموسم الواحد ٣ مسرحيات، رغم رداءة العمل أو مستواه الضعيف، وتم نقده فى هذا الوقت بشكل كبير.
ويكشف لنا شعبان عما جرى فى مسرحية «آه يا ليل يا قمر» التى أخرجها جلال الشرقاوى بشكل محترف، لكنها لم تُعجب نجيب، فتصرف تصرفًا غريبًا جدًا، حيث كتب مسرحية أخرى اسمها «آه يا بهية وخبرينى» كانت كلها شتيمة واضحة جدًا فى جلال الشرقاوى، وللأسف الشديد أخرجها كرم مطاوع، وكانت تتضمن خروجًا على الأخلاقيات، خاصة ونحن نشاهد مخرجًا يخرج مسرحية يسب مؤلفها ويشتم مخرجًا زميلًا له.
المفصل الأهم كان فيما يقال عن نضال نجيب سرور ومقاومته للسلطة.
يقول شعبان: لم يكن نجيب مناضلًا أو مقاومًا للسلطة، وكان يكتب بحرية، ولم يحبس فى أى قضية شهيرة مثل جمال الغيطانى أو عبدالرحمن الأبنودى أو صلاح عيسى، بل إنه كتب قصائد مدح فى جمال عبدالناصر، وأخرج أول مسرحية عن نص للدكتور رشاد رشدى الذى أصبح خصمًا له بعد ذلك وهاجمه بشكل عنيف.
ويفسر شعبان رواج نجيب سرور الكبير على أنه الناقد للسلطة وصاحب القيمة الأدبية العالية إلى أن النقاد والقراء على السواء يهتمون بقصة الكاتب أكثر من الاهتمام بالكتابة نفسها.
عدت إلى بعض ما قاله شعبان يوسف عن نجيب سرور، فقد قال كلامًا كثيرًا عنه مذاعًا ومنشورًا، ويستعد لإصدار دراسة كاملة عنه، لأننى أجد فى هذه الأيام ما يشبه ما حدث مع نجيب سرور.
فقد صدرت منذ أيام رواية أولى لكاتبة ناشئة، عندما انتهيت من قراءتها أدركت أنها بلا قيمة أدبية على الإطلاق، بل يجب حظرها، ولكن مع ذلك تم الاحتفاء بها ربما قبل أن تصدر أو يقرأها أحد، تمت استضافتها فى برامج إذاعية وتليفزيونية وأجريت معها حوارات صحفية، بل إن مجلة أدبية مرموقة- على غير عادتها- نشرت ملفًا وأجرت خلاله حوارًا مطولًا معها، وتبارى رفاق للكتابة على الفيسبوك عن عبقرية الكاتبة وميلاد روائية عبقرية، رغم أننا أمام كاتبة متعثرة وأتعجب كيف مررت لجنة القراءة بدار النشر الكبيرة والشهيرة هذه الرواية وسمحت بنشرها.
معنى ذلك أن القاعدة التى أشار إليها شعبان يوسف وهى الاهتمام بالكاتب وانتمائه وخلفيته الاجتماعية وما يروجه عن نفسه وما يرتبط به من علاقات فى الوسط الثقافى أهم من كتابته، فليس مهمًا أن تكون مبدعًا حقيقيًا، لكن الأهم من ذلك أن يكون لك معارف وأصدقاء ومريدون ومنتفعون، ولن تجد عناءً بعد ذلك فى أن يكون عملك، حتى لو كان بلا قيمة، عملًا مهمًا وعبقريًا وعظيمًا ومجددًا ومتجددًا.
إننى أتحدث عن آفة ابتلى بها الوسط الثقافى فى مصر، وهو بلاء يضرب بجذوره فى تاريخنا الثقافى، وإذا فتحنا هذا الملف، سنجد أنفسنا أمام حالة من الفساد الثقافى التى لا يمكن أن يستوعبها عاقل أو يقرها صاحب منطق.
وما يحدث من النقاد فرادى، يحدث منهم وهم يعملون فى لجان التقييم التى تمنح الجوائز، سواء الخاصة أو جوائز الدولة، ولك أن تتخيل مثلًا أنه يشاع فى الوسط الثقافى أن أحدًا ممن حصلوا على جائزة مهمة من جوائز الدولة لم يتحقق له ذلك، إلا لأنه يعرف أعضاء اللجنة، وأنه أهدى لأحد أعضاء اللجنة زجاجة ويسكى، ففاز بالجائزة التى لا يستحقها، لهزال إنتاجه الفكرى وتهافته.
لا يمكن أن يتوقف هذا السلوك بالطبع، ولا يمكن أن نطالب من يقومون به أن يتوقفوا عنه، فنحن أمام منظومة متشابكة ومعقدة من العلاقات والمصالح التى لا تخفى على أحد، وهى منظومة تشكل المجال العام فيما يخص الإبداع والمبدعين، وترتب الكتاب، ليس حسب قيمتهم ولا ما يقدمونه من أعمال تستحق التقدير والجوائز، ولكن حسب ما يرددونه عن أنفسهم وطبقًا لما أصبحوا عليه من صداقات وانتماء لشلل بعينها.
كانت النتيجة التى أعتبرها منطقية جدًا أن يتقدم الصفوف أشباه المبدعين بفضل أشباه نقاد، وتستمر هذه الحالة لما يتمتع به أشباه المبدعين من تبجح شديد فى فرض أنفسهم وتسييد ما يكتبونه، وكذلك لما يتمتع به أشباه النقاد من تناحة وكلاحة، فهم يروجون للتافه من الكتابة ويقدمون بين يديه ما يحاولون تأكيده بمنطقهم وحسن ذائقتهم، رغم أن ذائقتهم فاسدة.
لدينا نقاد منحوا العمل الثقافى الكثير، وقدموا لنا أعمالًا مهمة، شهاداتهم فيها وعليها كانت دقيقة وعلمية، وقد يعيب عليهم البعض أنهم كانوا يقومون أحيانًا بمجاملة كاتب هنا لصداقة تربطهم به، أو كاتبة هناك لفرط إعجابهم بها، وهو إعجاب يتخطى الكتابة والإبداع، لكن هؤلاء لم يقوموا بخيانة أنفسهم، فقد كانوا يفعلون هذا مرة أو مرتين.
لكن ما يحدث الآن أننا أمام ظاهرة أصبح فيها التافه من الأعمال الأدبية هو المتن، وتأخرت الأعمال الجادة حتى سكنت الهامش فلا يلتفت إليها أحد.
نتج عن هذه الظاهرة تصدر كتاب وأدباء مقدمة الصورة دون استحقاق، وراجعوا ما جرى مثلًا فى ظاهرة علاء الأسوانى، فقد صنعته طائفة من النقاد والكتاب لأسباب أبعد ما تكون عن القيمة الأدبية لأعماله، وهناك مثل علاء الأسوانى كثيرون أعتقد أن النقاد والقراء على السواء يعرفونهم جيدًا، لكن آليات السوق الثقافية تجعل الجميع يلتزمون الصمت.
وقد تسأل: لماذا أصبحت ظاهرة الترويج للكتابات التافهة وغير المكتملة هى السائدة الآن؟
سأقول لك ببساطة إننا ومنذ العام ٢٠٠٠ تقريبًا أصبحا نعيش عصرًا يمكننا أن نطلق عليه «عصر الطوفان الروائى»، فلأسباب تجارية بحتة رصدتها دور النشر، أصبح المفضل لديها هو نشر الروايات، لأنها أصبحت أكثر رواجًا وانتشارًا واقبالًا عليها من القراء.
قد يكون لدى الناشرين الحق فيما يفعلون، فهم فى الجانب الأكبر من عملهم تجار يسعون وراء الربح، لكن ترتب على ما قرره الناشرون أن تحول كثيرون إلى شاطئ الرواية وهجروا الأشكال الأدبية التى أبدعوا فيها خلال سنوات طويلة من مسيرتهم، ولأن هؤلاء يملكون أسماءً كبيرة فى تخصصاتهم الأخرى، فقد استقبلت رواياتهم استقباًا لا يتناسب أبدًا مع قيمة ما يقدمونه فى الروايات.
الأخطر من ذلك أنه دخل عالم الكتابة الروائية من لا يملكون مقوماتها أو يقدرون عليها، قرروا أن يكتبوا روايات فقط لأنها الشكل المطلوب، وبحكم أننى قارئ دائم، وليس فى هذا أى ادعاء ، فإننى أعترف أننى لم أستطع إكمال ٨٠ بالمائة من الروايات التى صدرت خلال السنوات الماضية لرداءتها وانحطاط صياغاتها.
وسأضرب لكم مثلًا واحدًا على ذلك برواية «لقد تم حظرك» التى صدرت منذ أيام لنوارة نجم.
فكيف يمكن أن تستمر فى قراءة رواية يكون هذا هو استهلالها: «الجو حار، وبالرغم من أن سحر قد أدارت التكييف إلى أعلى درجة فى سيارتها الحمراء التى تشبه الخنفساء، فإن الهواء يخرج عطنًا كهواء مجفف الشعر من فتحات التهوية ويصدم وجهها الذى يتفصد عرقًا، انتحت بالسيارة يمينًا وتوقفت لتخرج من حقيبتها الضخمة رباط شعر، لملمت شعرها المنسدل بشكل دائرى وثبتته، تحسست قفاها المبلل، تناولت منديلًا ورقيًا من علبة المناديل الملقاة على أرضية السيارة وجففت عرقها».
وكيف تستمتع برواية اللغة فيها محنطة ومفارقة لما حدث من تطور فى كتابة الرواية فتجد فيها تعبيرات مثل: «لا بد أن السيدة المسنة السمينة تجلس الآن تحت النافذة الخشبية القبيحة تنادى على كنتها» أو «خرجا ليجدا اثنين يجلسان على مكتب فى مواجهة المصعد، توجه إليهما ممدوح: شكاوى الإنترنت؟ الشابان فى صوت واحد: آخر الردهة»، أو «أعادت الهاتف لغياهب حقيبتها» أو «جعلت منى أمثولة وأضحوكة بين أصدقائى» أو «لا بد أنها سوف تنهار لموت أبيها الذى عاشت أمامه صغيرة متسربلة فى ثوب العار».
وكيف تثق فى رواية هذه عناوين فصولها: قبل المعركة، هشام فى شبكة العنكبوت، سحر تتأمل سيدة الأرقام، حديث الروح، هشام يعد العدة، الروح ترقب من حالق، المهندسة ليلى: حيث لا ينفع الندم، ممدوح يتبع أنفه، ناهد تنوح على حالها، ليلى تعود صاغرة، سحر ربة الصون والعفاف، سميرة وهمومها الكثيرة، ناهد تبوح بمكنون نفسها، هشام يدخل المعمعة، روح الروح، الضابط الملهم، محمود يطلق الروح، سحر التى كادت نفسها، عصام يكشف سره الدفين، عبدالرحمن البين بين، روح: والتقى الجمعان، محمود يستجيب لأوامر روح، هشام يشحذ ذكاءه، روح تتابع الفانتازيا، هشام يلتقى روح.
الغريب أن هذه الرواية الهزيلة التى تشى بأن كاتبتها لا علاقة لها بكتابة الرواية ولا تمت بصلة إلى الأدب لاقت وتلاقى اهتمامًا إعلاميًا ونقديًا كبيرًا، وتخيل مثلًا لو أن اسمًا مجهولًا هو من كتب هذه الرواية وذهب بها إلى دار النشر الكبيرة، هل كانت ستوافق على نشرها، الإجابة حتمًا ستكون لا، بل ويمكن أن ينصح المسئولون عنها كاتبتها أن تبحث لها عن شغلانة أخرى.