زيارة ودية إلى منصة مخيفة.. «لوشا» و«أم ساجدة» فى مملكة العبث
- هناك ذوق فاسد هو الذى يحكم ويتحكم ويسهم إلى درجة كبيرة فى تسييد نمط أشباه «لوشا وأم ساجدة»
هناك فى عالم يتفاعل فيه ملايين المصريين يمكننا أن نقابل كل أشكال العبث واللا معنى واللا قيمة واللا شىء على الإطلاق، لكنه للأسف الشديد عالم موجود ومؤثر، وبدأ يطل علينا برأسه دون حياء ولا خجل.
أحدثكم عن مملكة «التيك توك» التى يحتلها آلاف ممن يطلقون على أنفسهم «منتجى المحتوى»، ويستبيحون باسم ذلك كل ما تعارفنا عليه من قيم وأخلاق مجتمعية وأصول وأعراف إعلامية، ويتحدون كذلك كل منطق وأى عقل، ويتجاوزون عن كل ما يسهم فى ضبط إيقاع المجتمع.
السعى وراء المال والرغبة فى الشهرة هما المحركان الأساسيان فى هذا العالم.
لا أنكر أن هناك من يجتهدون فى تقديم محتوى محترم وراقٍ ومتحضر عبر منصة «التيك توك»، لكن هؤلاء للأسف الشديد يتيهون فى زحام المحتوى الغث الذى أصبح هو المسيطر، وأصبح من يقدمونه هم النجوم الذين يعرفهم الناس ويرددون أسماءهم ويتعقبون أخبارهم، بل ويأخذون عنهم الحكمة فى زمن غابت عنه وفيه الحكمة.
توقفت قليلًا أمام حوار أجراه الزميل أحمد عبدالعزيز على قناة «الحدث» الفضائية مع اثنين من منتجى المحتوى على التيك توك.
يطلقان على نفسيهما «تيك توكر»، ويعلنان فى جرأة شديدة عن أنهما يقدمان رسالة للناس، وعندما سألهما أحمد عبدالعزيز عن الرسالة التى يتحدثان عنها؟
قال أحدهما: رسالتنا إننا نوصل لقلوب الناس.
وقال الثانى: بنعمل مواقف درامية عشان الناس تاخد منها العظة والعبرة.
رغم ظهور الاثنين فى الحلقة- الأسماء هنا ليست مهمة حتى الآن- فإن نجمة الحلقة الحقيقية كانت «أم ساجدة» التى رفضت أن تظهر على الهواء مباشرة، لأنها ترفض أن تجلس معهما، فقد كانت هناك خلافات كثيرة حالت دون أن تطل على الجمهور معهما، فقام عبدالعزيز بحيلة ذكية بتسجيل بعض دقائق معها فى الكواليس، تحدثت عن سبب عدم ظهورها، ووعدت بأن تظهر فى حلقة بمفردها لتتحدث مع جمهورها الذى ينتظرها.
لا أخفى عليكم أننى أشفقت على هذا المجتمع مما رأيت، فالذين يتحدثون كنجوم فى عالم التيك توك جاءوا من خلفيات أبعد ما تكون عن الخلفيات التى يجب أن يأتى منها منتجو المحتوى.. أى محتوى، ثم إنهم فى الغالب لم يستكملوا دراستهم، لكنهم يتفاخرون بأنهم يحققون ملايين المشاهدات، وهى المشاهدات التى تتحول إلى أرصدة بمئات الآلاف وربما الملايين أيضًا.
لقد تحولت «أم ساجدة» التى توصف بأنها سيدة مصرية بسيطة لم تكمل تعليمها- وكانت تعمل على عربية كبدة فى حى السيدة زينب- إلى نجمة بمصادفة بحتة، عندما ذهبت إلى الكوافير وحيد لاشين الذى يسجل فيديوهات مع زبائنه، وبمجرد أن قالت أنا عايزة «فواتشح» تقصد فواتح للون شعرها، تحولت إلى نجمة بعد أن حصد الفيديو ملايين المشاهدات.
تحولت «أم ساجدة» التى كانت تعانى من شظف العيش، إلى مليونيرة بعد أن قررت أن تتحول إلى منتجة فيديوهات، وهو ما دعا أصحاب محال ومنتجات أن يستعينوا بها فى تقديم إعلانات عنهم، ولا تتعجب أن تجدها جالسة فى مسمط لتعلن عما يقدمه من أكلات شعبية.
تحولت السيدة الشعبية التى كانت تقف فى الشارع لتبيع سندوتشات الكبدة إلى «تيك توكر» تحصد فيديوهاتها الملايين، تغير شكلها بفضل وحيد لاشين، قالت إنه حوّلها إلى عروسة المولد، أصبحت ترتدى الذهب بصورة مستفزة تنافس بها المعلمات الكبار فى عالم المخدرات والكيف، لا تكف عن الصياح فى فيديوهاتها التى تعتقد أنها تقدم من خلالها رسالة سامية للمجتمع.
بعد أن تقدمت «أم ساجدة» خطوات فى عالم الشهرة قررت أن تتخلى عن الكوافير وحيد لاشين، الذى أصبح لا يتناسب مع ما وصلت إليه، وقررت أن تستعين بإيمان جبريل التى قالت عنها إنها أحسن ميكيب أرتست فى مصر، وهتفت بأعلى صوتها فى أحد فيديوهاتها: «قالولى إن إيمان جبريل هتغيرلك شكلك كله، وهتنسوا حاجة اسمها أم ساجدة من حلاوة شكلى الجديد».
أصبحت «أم ساجدة» نجمة لا يشق لها غبار فى عالم التيك توك، وهو ما جعل مشاهير المنصة المخيفة يستعينون بها، ومن بينهم «لوشا».
ولوشا هذا قصة أخرى، يطلق على نفسه «لوشا أسد المدينة».
عندما تبحث عنه ستجد أنه تم القبض عليه فى فبراير ٢٠٢٣ لصدور حكم غيابى ضده بالسجن عشر سنوات بتهمة الخطف.
تحول «لوشا» إلى نجم، يقولون إنه الأكثر شهرة على التيك توك، ورغم أن الفيديوهات التى يقدمها فى معظمها تروج للعنف والبلطجة، لكنها تلقى الانتشار الأكبر، والعائدات الأكبر بالطبع، ويتحدث أصدقاؤه والذين ساعدوه فى رحلة صعوده عن تغيره، وأنه لم يعد كما كان، فقد غرته الشهرة وأعمته الثروة، فأصبح متعاليًا حتى على أصحابه.
تعاون «لوشا» مع «أم ساجدة» فى عدد من الفيديوهات، ويبدو أن هذه الفيديوهات كانت السبب فى خلافات نشبت بينه وبين «جودة وشلش»، وقد رفضت «أم ساجدة» أن تظهر معهما فى حلقة أحمد عبدالعزيز حتى لا يغضب منها «لوشا»، رغم أنها حاولت أن تنكر ذلك بإصرار.
البعض يرى أن «أم ساجدة» ليست إلا موضة ستأخذ وقتها على التيك توك وترحل إلى عالم النسيان، كما أن «لوشا» نفسه ليس أكثر من تقليعة يتابعها الناس لبعض الوقت، وبعد أن يملوا منه، سيزهدون فيه ويبحثون عن تيك توكر آخر يتابعون فيديوهاته.
قد يكون هذا صحيًا إلى حد ما.
لكن ما لا يعرفه من يقولون ذلك أن «لوشا» ليس شخصًا فقط، وأن «أم ساجدة» ليست مجرد سيدة جربت حظها فأنعم الله عليها بما لا تتوقعه من شهرة ومال.
كل منهما أصبح فكرة وصيغة يمكن أن يتكررا.
فإذا تبخر لوشا فسوف يخرج مثله ألف لوشا.
وإذا انتهت «أم ساجدة» فستكون هناك ألف أم ساجدة.
وسيتكرر مع الزائرين الجدد نفس ما حدث مع لوشا وأم ساجدة، فيديوهات فارغة بلا مضمون ولا محتوى ولا رسالة تحقق مشاهدات بالملايين، وملايين الجنيهات التى تحول حياتهم وأحوالهم إلى ما لا يتصوره أحد.
السؤال الذى لا بد أن نواجه به أنفسنا ونبحث له عن إجابة واضحة ومحددة هو: أين العيب.. أين مكمن الخلل.. أين العطب.. لماذا نعانى كل هذا العبث؟
فما نراه ونشاهده بلا قواعد ولا أصول ولا معايير.
هل العيب فى «لوشا» و«أم ساجدة» عندما ينتجان هذه الفيديوهات التى لا يتوافر فيها أو لها أى معنى أو قيمة؟
أم أن العيب فى المجتمع الذى يقبل على هذه الفيديوهات ويمنحها مشاهدات بالملايين يتم ترجمتها إلى ثروات هائلة؟
هل العيب فى «لوشا» ابن السيدة زينب الذى لا يعرف أحد له مؤهلًا ولا ثقافة ولا تأهيلًا لإنتاج المحتوى؟
أم فيمن يبحثون عنه ويشاهدون ما يقدمه وهم منبهرون به ويروجون له ويرسلون لبعضهم بعضًا بالجديد الذى ينتجه؟
هل العيب فى «أم ساجدة» التى كل ما فيها مزعج شكلًا وصورة وصوتًا وأداءً للدرجة التى تتعجب كيف يمكن أن يتحملها أحد وهى لا تكف عن الصراخ فى كل من يحيطون بها؟
أم أن العيب فيمن يعتبرونها قائدة رأى، ويتسمرون أمام فيديوهاتها وفى ساعات قليلة تحصد ملايين المشاهدات فى حالة تحتاج إلى تحليل نفسى قبل أن ندخل إليها من مدخل اجتماعى؟
هناك من يعارض هذه الفيديوهات.
وهنا من يعترض على المحتوى المقدم.
وهناك من ينتقد الحالة كلها على بعضها دون أن يترك فيها شيئًا قائمًا على قدميه، فكل ما فى هذه الظاهرة عبثى إلى المنتهى.
لكن تخيلوا أن أمثال «لوشا» و«أم ساجدة» يقابلان هذه الانتقادات باتهام من يرددون هذا الكلام بالحقد والحسد والاعتراض على حكمة ربنا التى اقتضت أن يتحولا هما وأمثالهما إلى نجوم.. شهرة وأموال وتأثير.
يمكننا أن نستسلم بسهولة إلى أن ما يحدث ليس إلا ترجمة لحالة السيولة المجتمعية التى تعيشها مصر منذ أحداث ٢٠١١، فكل شىء متاح ومباح ومستباح، لا توجد قواعد ولا معايير ولا قيم، كل مواطن يمكنه أن يفعل ما يريد دون أن يسأله أحد ودون أن يعارضه أو يعترض عليه أحد.
ورغم أن هذا التفسير صحيح ودقيق فى آن واحد، فإنه لا يكفى، لسبب بسيط أن المجتمع استرد نفسه من حالة السيولة، وبدأ يبنى منظومة جديدة لها معايير وقواعد وأصول، لكن الظاهرة استمرت وتوغلت وأصبحت قائمة، وكلما تبدد «لوشا» ظهر لوشا آخر، وكلما تراجعت «أم ساجدة» ظهرت أم ساجدة جديدة.
لا أعفى التكنولوجيا وما أحدثته فى المجتمع من المسئولية، فسهولة التعامل معها والوصول إليها مكن الكثيرين ممن لا يمتلكون أى كفاءات ولا مؤهلات لأن يصبحوا نجومًا يتابعهم الناس بالملايين، وهو ما لن نستطيع أن نواجهه أو نخفف من تأثيره.
لكن السؤال هو عنا نحن، عن الذين يستهلكون هذه البضاعة الفاسدة ويستطيبونها ويتفاعلون معها ويمنحون من ينتجونها شرعية تجعلهم يعتقدون أنهم على حق، ما الذى تعطل فينا، وهل أصبحنا على هذه الدرجة من السطحية والسذاجة والابتذال، ليصبح هؤلاء هم النجوم الذين يتحلق الناس من حولهم بالملايين؟
لعقود طويلة كان بعض المفكرين يذهبون إلى أن شيئًا ما فى أعلى العقل تعطل.
الآن يمكننا أن نقول إن شيئًا ما فى أعلى الذوق تعطل.
بل يمكننى أن أقول إن هناك ذوقًا فاسدًا هو الذى يحكم ويتحكم ويسهم إلى درجة كبيرة فى تسييد نمط أشباه «لوشا وأم ساجدة».
سأحدثكم عن التعليم الذى تراجع كثيرًا، وسأحدثكم عن الثقافة التى أصبحت معلبة، وسأحدثكم عن حالة التيه التى يعيشها المثقفون فلا يقومون بالأدوار التى يجب أن يقوموا بها.
لقد تركوا المجتمع يواجه هذه الكارثة بمفرده، دون أن يمدوا أيديهم لإنقاذه من الكارثة التى تحدق به.
ليس من مبادئى أن أدعو إلى المصادرة.
المصادرة كلمة كريهة.
لكن عندما يكون خطر المحتوى المقدم على المنصات الإلكترونية يساوى تمامًا خطر المخدرات، فإننى أجد واجبًا علىّ أن أحذر منه، بل وأدعو المشرع المصرى أن يقوم بدوره فى التصدى وبقوة لهذه المخدرات التى يتعالى تأثيرها كل يوم دون أن ينتبه إليها أحد.
لقد قسمت الحياة لأم ساجدة أن تكون بائعة كبدة، كان يمكنها أن تطور عملها وتربح منه ما يتناسب مع معرفتها وقدراتها ومؤهلاتها، لكن الخلل الذى أصاب حياتنا حولها من بائعة كبدة إلى صانعة محتوى، تستضيفها البرامج التليفزيونية ويرشحها المنتجون للمشاركة فى المسلسلات الدرامية.
وكان يمكن للوشا أن يواصل حياته بالنمط الذى وجد نفسه فيه، أو حتى يحسن من وضعه قليلًا أو حتى كثيرًا، لكنه أصبح فى غمضة عين وبفعل العطب الذى أصاب المجتمع نجمًا شهيرًا رغم أنه لا يقدم شيئًا له قيمة، ومع ذلك أصبح اسمًا فى مملكة التيك التوك.
يمكن أن يعيب على البعض الاهتمام بأمثال «لوشا وأم ساجدة».
سيقولون إن هذه ظواهر عابرة يجب ألا نتوقف أمامها، فسرعان ما ستنتهى.
لكن ما لا يعرفه هؤلاء أننا أمام نجوم فى عالم سرى يعيش فيه ملايين المصريين يشاهدون ويتفاعلون ويتأثرون وتتغير أنماط حياتهم بفعل ما يجدونه أمامهم، وللأسف الشديد فإن معظم من يقبلون على لوشا وأم ساجدة وأمثالهما من الشباب، وهو ما يجعلنا نقف أمام ما يحدث ليس لانتقاده أو رفضه فقط، ولكن بما يلزم من إجراءات لوقف هذا الزحف الذى دنس حياتنا وابتذلها.
فهل يتحرك أحد؟
أتمنى ذلك.