الخميس 10 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

رد الاعتبار للمفكر الكبير

اغتيال عقل.. القصة الكاملة لـ«محمد أحمد خلف الله»

محمد أحمد خلف الله
محمد أحمد خلف الله

- خلف الله ولد لأم مصرية وأب سودانى كان غائبًا فى السودان يوم ميلاد ابنه ولهذا السبب تأخر قيد الابن فترة طويلة لذلك كان خلف الله يقول: على كل حال أنا أكبر من عام 1916

- كتب 3 مقالات تناول أعمال نصر حامد أبوزيد وتشرح كيف يمكن كتابة تقرير علمى

- موضوع الدكتوراة الذى اختاره عن «الفن القصصى فى القرآن الكريم» 

- كان هو أول من اقتحم ميدان الدراسات القرآنية من بين طلاب قسم اللغة العربية

كان الكتاب جديدًا ولامعًا. اسمه «مفاهيم قرآنية»، صادر عن سلسلة «عالم المعرفة» التى يصدرها المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب بالكويت، عدد يوليو من عام 1984، أما المؤلف فهو الدكتور محمد أحمد خلف الله. 

كان عمرى وقتها لا يزيد على أحد عشر عامًا، أغرانى عنوان الكتاب، كنت وقتها منجذبًا بقوة إلى أى كتاب دينى، وفهمت أن «مفاهيم قرآنية» حتمًا هو كتاب دينى، أمسكت به من بين الكتب التى امتلأت بها مكتبة أحد الأصدقاء- كنت وقتها أصادق من يكبروننى سنًا- فقال لى: لن تفهم ما فى الكتاب بسهولة.. يمكن أن تقرأه بعد أن تكبر.. خلف الله ليس سهلًا عليك. 

اختزن عقلى الاسم، لم يغادره ضمن أسماء أخرى كانت تعترض طريقى، ولم يقدر لى الله أن أجده فى طريقى مرة أخرى إلا فى 8 يناير عام 1992. 

يومها كنت أزور معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى أجريت على هامش فعالياته المناظرة الشهيرة «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية» التى راح ضحيتها المفكر الكبير فرج فودة. اقتربت من المنصة التى يجلس عليها المتناظرون لأجده جالسا بينهم. 

كان الدكتور محمد أحمد خلف يجلس إلى جوار الدكتور فرج فودة فى مواجهة الشيخ محمد الغزالى والدكتور محمد عمارة والمستشار مأمون الهضيبى، وبينهم الدكتور سمير سرحان الذى أدار المناظرة باحترافية شديدة. 

الزحام كان شديدًا فلم أتبين أو أنصت لكثير مما قيل فى المناظرة، لكننى توقفت أمام الرجل الذى جاء مناصرًا للدولة المدنية فى صف واحد مع الدكتور فرج فودة فى مواجهة كهنة الدولة الدينية، وكان عمره وقتها 76 عامًا، فهو من مواليد الشرقية عام 1916.

بعد ما يقرب من خمسة أعوام وفى يونيو ١٩٩٧ مات محمد أحمد خلف الله. 

بدأت أبحث عنه وعن كتاباته، وبعد أن تعرفت عليه جيدًا، أصبح بالنسبة لى واحدًا من الذين دفعوا ثمنًا باهظًا لا لشىء إلا لأنه قرر أن يفكر ويفارق المعتاد.

يوم وفاته عدت مرة أخرى إلى كتابه «مفاهيم قرآنية» الذى كنت قد قرأته بعد سنوات من اكتشافى له، فوجدته متعففًا عن ذكر ما جرى، أراد فقط أن يوضح للناس ما يريده، وأعتقد أن ما أراده كان خيرًا وصدقًا وخدمة للإسلام، رغم أن من هاجموه طعنوًا فى دينه وتدينه واتهموه بأنه يريد هدم الدين من خلال هدم أساسه وهو القرآن.

فى كتابه مفاهيم قرآنية يحكى لنا خلف الله عن بدايات علاقته بالدراسات القرآنية، عندما كان طالبًا بقسم اللغة العربية بجامعة فؤاد الأول- جامعة القاهرة الآن- والذى تخرج فيه عام ١٩٣٩. 

يقول: كانت هناك مادة دراسية هى «الدراسات القرآنية» يقوم بتدريسها الأستاذ الشيخ أمين الخولى، الذى نهج منهجًا جديدًا فى الدراسات القرآنية يليق بكلية الآداب، ويقوم على أساس من دراسة القرآن دراسة أدبية. 

كان أمين الخولى يقول لطلابه: لقد درس الفقهاء القرآن، ودرس اللغويون القرآن، ودرس اللغويون القرآن، ودرس الفلاسفة وعلماء الكلام القرآن، لكن الأدباء لم يقوموا بعد بهذه الدراسة على الرغم من أن القرآن الكريم معجزة أدبية فى المقام الأول. 

لم يكن أمين الخولى هو منشئ هذا المنهج، كان يستند فيما يفعله إلى الأستاذ الإمام محمد عبده الذى وضع حجر الأساس لهذه الدراسة عندما ذهب إلى أن القرآن الكريم يجب أن يفهم على الأساس الذى كانت تفهمه عِلية العرب وقت نزوله، من حيث فهم الألفاظ اللغوية والعبارات الأدبية. 

كان خلف الله يستمع إلى هذه الكلمات فتمتلئ نفسه بها، ويشعر شعورًا داخليًا قويًا بأنه من دون زملائه يرغب فى هذه الدراسة ويقدر عليها، فبدأ يدرب نفسه مبكرًا على معرفة محيط المفاهيم القرآنية، وما أبقاه القرآن الكريم على حاله، وماذا أخرجه وأعطاه معنى مجازيًا أو معنى دينيًا، وهو العمل الذى استلزم منه التعرف على استخدامات الألفاظ فى القرآن الكريم كله وإلا جاء العمل ناقصًا. 

بعد تخرجه التحق محمد أحمد خلف الله فى الدراسات العليا بقسم اللغة العربية وتخصص فى الدراسات القرآنية بالذات، وكان موضوع رسالته الأولى لنيل درجة الماجستير هو «جدل القرآن»، وهو الكتاب الذى نشره فيما بعد تحت اسم «محمد والقوى المضادة» وأوضح فيه أن هذه القوى المضادة هى التى كانت تثير الجدل حول محمد عليه الصلاة والسلام وحول القرآن الكريم. 

أما موضوع الدكتوراه الذى اختاره فكان عن «الفن القصصى فى القرآن الكريم»، وكان هو أول من اقتحم ميدان الدراسات القرآنية من بين طلاب قسم اللغة العربية، ثم تتابعت دراساته القرآنية، وأخرج فى ذلك كتبًا عديدة من بينها «القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة» و«القرآن والدولة» و«القرآن والثورة الثقافية» وهكذا يبنى الإسلام» و«الأسس القرآنية للتقدم».. وهذا الكتاب «مفاهيم قرآنية». 

يحدثنا خلف الله عن قيمة ما فعله، فقد حدد الأساس فى دراساته القرآنية التى دخلها بمدخل أدبى، وهو دراسة المفاهيم التى دفعته إلى العناية بالكتب التى اقتصرت على دراسة ألفاظ القرآن الكريم. 

وكان مما عنى به كتاب «المفردات فى غريب القرآن» للراغب الأصفهانى، ودفعته العناية به إلى إعادة نشره ليكون بين أيدى الراغبين فى مثل هذه الدراسات. 

يقول خلف الله: أعتقد أن تجاربى العديدة قد أكسبتنى خبرة لا بأس بها فى ميدان الدراسات القرآنية بصفة عامة، ودراسة المفاهيم القرآنية بصفة خاصة، والمنهج الذى سرت عليه أنى قمت أولًا باختيار نوعين من المفاهيم: نوع يميل إلى السياسة، ونوع يميل إلى الاجتماع، وكان الدافع إلى هذا الاختيار أنى رأيت بعض الناس يعمدون إلى القرآن الكريم يتخذون من آياته السند لهم فيما يفعلون فى ميدان السياسة أو ميدان الاجتماع.

لم تتوقف ملاحظات خلف الله عن أداءات المشتغلين بالسياسة من أرضية دينية وتفاعلهم مع القرآن الكريم عند هذا الحد، لاحظ أيضًا أنهم لا يتقون الله فيما يفعلون، فلم يكن الهدف من عملهم هو ممارسة الحياة على أساس من القرآن، بقدر ما كان التماس السند فيما يرغبون فيه من عمل من القرآن، ظنًا منهم أن هذا الصنيع يكسب عملهم القوة التى ينفذ بها إلى قلوب الناس.

قرر خلف الله أن يواجه هؤلاء بما يفعلون، يكشف زيفهم وخداعهم واستخدام القرآن فى تحقيق المكاسب وقنص المنافع والسيطرة على الناس باسم الدين. 

يقول: لهذا جاء اختيارى للمفاهيم القرآنية التى أرد بها على السياسيين الدينيين، والتى أضع بها المفاهيم اللازمة لممارسة الحياة فى المجتمع.

لاحظوا معى أن خلف الله كان يتحدث عما بدأه عام ١٩٤٧، فقد قرر أن يتصدى لمن يستخدمون الدين لأغراض سياسية، يتكسبون به ويحققون به أهدافهم، من خلال فهمه لمقاصد القرآن الحقيقية، وهو ما زلنا نعمل من أجله حتى الآن. 

لم يتحدث خلف فى مقدمة كتابه «مفاهيم قرآنية» عما جرى له، وعما تعرضت له رسالته للدكتوراه، كان مهتمًا أن يصل ما أنجزه للناس. لكن القصة كانت أكبر من ذلك وأعقد. 

بعد أيام من وفاته قرأت تقريرًا مفصلًا عنه وعن حياته كتبه مجدى حسنين فى جريدة «الأهالى»، رسم له من خلاله صورة قلمية مدهشة، وأعتقد أن أحدًا لم يفعلها معه بعد ذلك، وهو ما يفسر لى ندرة المعلومات عن حياته وعما جرى له. 

فى هذه الصورة نعرف أن خلف الله ولد لأم مصرية وأب سودانى، كان غائبًا فى السودان يوم ميلاد ابنه، ولهذا السبب تأخر قيد الابن فترة طويلة، وقيد بعد ذلك من سواقط القيد، لذلك كان خلف الله يقول: على كل حال أنا أكبر من عام ١٩١٦. 

خلف الله من مواليد قرية بندق التابعة لمركز «منيا القمح»، وفى القرية حفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم انتقل إلى معهد الزقازيق الأزهرى، ودخل مباشرة الصف الثالث الابتدائى نظرًا لتفوقه واجتيازه امتحان القبول بتفوق ملحوظ. 

بعد أن التحق بمعهد الزقازيق الأزهرى، لم يسترح إلى دراسته، فتقدم لامتحان التجهيزية وهى مرحلة تحضيرية للالتحاق بمدرسة القضاء الشرعى أو دارالعلوم، وفى السنة الثانية التجهيزية تجاذبته الدراسة الجامعية، خصوصًا دراسة المنتسبين، لكن حرصه على الحضور دفعه للتعرف على أساتذته عن قرب، مثل طه حسين والشيخ الخولى والشيخ مصطفى عبدالرازق وهو ما أيقظ الجوانب المدنية فى روحه التعليمية. 

فى سيرة خلف الله أنه عندما التحق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول تكرر معه ما حدث عندما التحق بمعهد الزقازيق الأزهرى، فقد دخل إلى السنة الثالثة مباشرة بعد اجتيازه امتحانات القبول، وصدر قرار من مجلس الجامعة بذلك. 

لكن هذه الواقعة تحتاج إلى مزيد من التدقيق، فقبل أن يلتحق خلف الله بالجامعة كان فيما يبدو فى السودان حيث عائلة أبيه، لأن قرار جامعة قؤاد بدخوله السنة الثالثة لم يكن متعلقًا به وحده، ولكنه كان يخص كثيرين مطرودين من الجزائر والسودان ودول إفريقية وآسيوية أخرى. 

بحثت عن جوانب أخرى فى شخصية الدكتور خلف الله، فوجدت ضالتى فى حوار أجرته جريدة الأهالى مع زوجته السيدة سامية زكى. 

الحوار كان قصيرًا ومقتضبًا، لكنه يضع أيدينا على بعض ملامحه، وإن لم يشف شغفى فى البحث عن تفاصيل حياته. 

دار الحوار على النحو التالى: 

الأهالى: فى البداية كيف كان اللقاء والتعارف مع د. خلف الله؟ 

الزوجة: كنا فى زيارة لأحد الأقارب ودار بيننا حديث سياسى أثناء حكم عبدالناصر، وأنا كنت بحب عبدالناصر قوى، لكن هو كان له تحفظات على نظام الحكم حينها، فحدثت مشاجرة بيننا حول الأوضاع السياسية فى البلد، كنت أدافع فيها عن نظام عبدالناصر وهو مختلف معى، وبعد انتهاء الزيارة طلب يدى للزواج وقد حدث، لأنه رغم اختلافنا أحيانًا إلا أنه كان يجمعنا خط فكرى قومى وحدوى عربى. 

الأهالى: هل هناك جوانب فى شخصية د. خلف الله غير معروفة وتحتاج لإلقاء الضوء عليها؟ 

الزوجة: الدكتور كان صريحًا وجريئًا وكل ما يفكر فيه ويعتقده يعلنه فى مقالاته وكتبه، والدليل على ذلك كتابه الذى أصدره فى بداية حياته «الفن القصصى فى القرآن» وأدى إلى خروجه من عمله بجامعة القاهرة، رغم أنه طبع خمس مرات فى حياته، وهذا نادرًا ما يحدث لكتاب، وقد كان مؤمنًا ومهتمًا بتعاليم القرآن عكس ما يقال. 

الأهالى: ما موقف د. خلف الله من انضمامك للاتحاد الاشتراكى خاصة أنه لم ينضم فى حياته إلا لحزب التجمع؟ 

الزوجة: صحيح هو لم ينضم إليه وكان يعمل على المستوى القومى، لكنه كان يترك لى حرية اختياراتى ولم يفرض على رأيًا، فقد كنا متفاهمين تمامًا، والأهم أن عملنا السياسى لم يكن منعكسًا على حياتنا الزوجية. 

الأهالى: ألم تكن هناك قضية خلافية كبرى بينكما على الإطلاق؟ 

الزوجة: قضية كامب ديفيد كنا على طرفى نقيض منها، فهو كان ضد كامب ديفيد على طول الخط، وأنا كنت ألتمس العذر للنظام لأنه لا حول له ولا قوة، ما دامت أمريكا ضدنا بكل قوتها، فمن الأفضل أن نسترد أراضينا بأية طريقة، ولكن ما حدث من تدهور وصل ذروته بإعلان إسرائيل القدس عاصمة موحدة أبدية لها وموافقة أمريكا على ذلك هو نتيجة تخاذل الشعوب العربية وعدم اتخاذها لموقف عربى موحد قوى. 

الأهالى: هل كانت لديكم هوايات مشتركة؟ 

الزوجة: السفر والترحال، فقد زرنا كل بلاد العالم، لكننا لم نستمتع إلا بوجودنا داخل حدود وطننا العربى. 

صدرت الطبعة الأولى من كتاب «الفن القصصى فى القرآن» فى عام ١٩٥٠ وصدرها خلف الله من على غلافها بالآية الكريمة «قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى». 

حصلت على هذه الطبعة من واحدة من مكتبات الصحف القديمة، وهى الطبعة التى حرص فيها خلف الله أن يوضح ما تعرض له من إقصاء وتكفير بسبب ما كتبه فى رسالته العلمية، فقررت أن أبحث عن الرجل. 

راكمت فى مكتبتى ما أنتجه من كتب وما كتب من مقالات وما أخذ من مواقف وما شارك فيه من العمل السياسى من خلال عضويته فى الهيئة العليا لحزب التجمع، وقررت منذ سنوات طويلة أن أعود لزيارته من خلال كتاب أحاول فيه تبيان ما جرى. 

فى عام ٢٠٠٨ أصدرت جامعة القاهرة كتابًا تذكاريًا كان عنوانه «الجامعة المصرية والمجتمع.. مائة عام من النضال الجامعى»، حصلت على الكتاب وكان من بين ما استوقفنى دراسة مطولة للدكتور نصر حامد أبوزيد عما تعرض له محمد أحمد خلف الله. 

ومن بين ما توقفت عنده بتأمل ما ذكره نصر، يقول: عام ١٩٩٣ دعوت خلف الله لمحاضراتى فى «علوم القرآن» فوافق بعد تردد من جانبه وتشجيع من السيدة قرينته وإصرار من جانبى، فى صباح ذلك اليوم اتصل بى رحمه الله ليعتذر لعدم قدرته نفسيا أن يطأ الحرم الجامعى بعد أكثر من ٤٥ عامًا من الغياب، كان صوته حزينًا، وتسرب حزنه إلى نفسى، ولم أستطع أن أحبس انفعالى، ياااه.. ٤٥ عامًا من الغياب، إنه ليس غيابك أنت عن المشهد يا أستاذنا، بل هو غياب الجامعة والمجتمع عن غاياته، وما زال الغياب مستمرًا. 

وأنا أعمل على كتاب «إمام التفكير.. زيارة جديدة لنصر حامد أبوزيد»، وجدت هذه القصة بتفاصيل أكثر فى أوراق نصر. 

فى كتاب «صوت من المنفى» الذى سجلت فيه «إستر نيلسون» مذكرات واعترافات نصر، جاء ذكر محمد أحمد خلف الله فى أكثر من موضع، لكننى توقفت أمامه فى موضع موجع للغاية. 

يحكى نصر باختصار عن تجربة خلف الله يقول: عام ١٩٤٧ قدم محمد أحمد خلف الله مدرس مساعد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه بقسم اللغة العربية فى جامعة القاهرة بإشراف الأستاذ أمين الخولى وهو باحث إصلاحى مهم لم تلق أبحاثه التقدير الذى يليق بها، كانت الرسالة تحمل عنوان «الفن القصصى فى القرآن الكريم»، طور الخولى مدخلًا فنيًا لدراسة القرآن الكريم، وهو الاتجاه الذى بدأه محمد عبده، وتلاه طه حسين ثم أكمل هو فى نفس الاتجاه، لقد أثبت بكل وضوح أن النص المقدس يمكن دراسته من زوايا عدة، مثل الزوايا الفلسفسة والأخلاقية، لكن من أجل أن نفعل ذلك يجب أن نبدأ بدراسة القرآن كنص أدبى. 

ويضيف نصر: استخدم خلف الله المدخل الأدبى لاستكشاف معانى القرآن، بنى رسالته على تفريق واضح بين التاريخ والقصة فى القرآن، بعد نقاش محتدم غضبت الجامعة على رسالة خلف الله، وأعلنت أن المدخل الذى استخدمه فى دراسة القرآن الكريم يلقى بالشك حول أصولية وقدسية النص الإسلامى، فصلت الجامعة خلف الله وحولته لوظيفة إدارية فى وزارة التعليم، كما منع أمين الخولى من التدريس والإشراف على الرسائل العلمية فى تخصص الدراسات الإسلامية، وسمح له فقط بتدريس النقد الأدبى واللغة العربية التراثية. 

أراد نصر أن يعرف ماذا حدث فى النهاية لمحمد أحمد خلف الله، فاكتشف أنه كتب رسالة أخرى بعد مضى ثلاثة أشهر على رفض الأولى، رسالة تافهة، فقط لينال الدرجة العلمية. 

بحث عنه نصر فقابله وتعرف عليه، ولاحقًا حين بدأت مشاكله التى انتهت بوجوده بالمنفى، كتب خلف الله ثلاث مقالات مهمة تتناول أعماله، وتشرح كيف يمكن كتابة تقرير علمى، كان متحمسًا أن يشرح للجمهور المصرى أن اتهام نصر بالهرطقة والردة كان بسبب أن من اتهموه بذلك لا يعرفون شيئًا عن كيفية أداء البحث العلمى. 

ونأتى إلى مساحة الوجع. 

يقول نصر: حين كنت أدرس بجامعة القاهرة دعوت خلف الله ليأتى ويحاضر طلابى، كانت تلك إحدى طرق التدريس لدى، دعوة الأساتذة من خارج الجامعة ليشاركوا الطلاب خبراتهم وحكمتهم، أبدى تردده فذكرته: أنت جزء من جامعة القاهرة شاءت أو أبت، وحتى المشاكل التى واجهتها مع رسالتك هى جزء من تاريخ هذه الجامعة، أنت باحث بالدراسات الإسلامية، أود لطلابى أن يقابلوك، ستكون مناقشة مفيدة. 

نصر أبو زيد

وافق خلف الله فى النهاية، وفى اليوم المتفق عليه كان نصر فى طريقه ليصطحبه حين اتصل به قائلًا: اسمع يا نصر، أنا آسف، لن أستطيع المجىء، لم آت لجامعة القاهرة منذ خمسين عامًا، أنا فقط لا أستطيع أن أفعل ذلك. 

يعلق نصر على هذه الواقعة بأسى، يقول: تفهمت موقفه فى ذلك الوقت، وربما أتفهمه اليوم أكثر، أتساءل لو أنه قدر لى أن أعود وأدرس بجامعة القاهرة بعد غياب ثمانى سنوات، أوقات كثيرة أشعر فيها أنى كطفل منبوذ، لا بد أن خلف الله كان يشعر بذلك أيضًا.

بعد كل هذه السنوات قررت أن أقوم بالزيارة المؤجلة لمحمد أحمد خلف الله، ليس لإنصافه فقط، ولكن لأنه من حق الأجيال القادمة أن تعرف أنه كان لدينا مفكر كبير، قرر أن يفكر فدفع ثمن تفكيره، ولا يزال هناك من يسيئون إليه وينتقصون من قدره. 

لن أدخل بكم فى متاهات.. فقط سأقدم لكم من واقع الأوراق والوثائق ما جرى، وما قاله خلف الله عن أزمته، فمن حقه أن نستمع إليه مرة أخرى.. هذا إذا كنا نريد أن نتقدم بتجديد خطابنا الدينى إلى الأمام، وإذا كنا نريد أن نخلص الإسلام مما لحق به من طبقات تراب هائلة حجبت حقيقته وجعلت الآخرين يتجرأون إليه. 

ويا سيدى محمد أحمد خلف الله، هذا غيض من فيض أفكارك، نقدمه اليوم لمن فكرت وكتبت واجتهدت من أجلهم.

محمد أحمد خلف الله يتحدث: فتنة «الفن القصصى فى القرآن»