محمد هجرس: لا أكتب إلا عن الريف لأنه مُلتصق بجلدى
- أنصح أى مبدع ألا يعمل فى الصحافة لأنها قاتلة للإبداع
- «الأرجوحة» صورت كيف تحول الريف إلى كتل خرسانية
- عرضت أولى رواياتى على يوسف إدريس فقال لى «انساها»
الكتابة مثل الداء العضال الذى لا يخرج من الجسد، لذلك لم يستغرب الروائى والقاص محمد هجرس من عودته للكتابة بعد انقطاع طويل، من خلال نشر مجموعته القصصية «الفراش البارد» قريبًا، بعدما نشر فى السابق عدة أعمال روائية وقصصية.
محمد هجرس ابن الشرقية الذى يعمل بالصحافة فى الإمارات العربية المتحدة منذ سنوات طويلة، ما زال حتى اللحظة متعلقًا بكل شىء داخل الريف الذى تربى داخله وتشرب تقاليده وذكرياته، ويسيطر على حكايات مجموعته الجديدة.
عن مجموعته الجديدة «الفراش البارد» وتفاصيل كتابتها، وعن مشواره فى عالم الكتابة، أجرت «حرف» الحوار التالى مع محمد هجرس.
■ لغة المجموعة لا تشى بأنها الأولى التى تصدر لك.. هل سبقتها مجموعات قصصية أخرى؟
- هذا صحيح. سبقتها مجموعة قصصية أخرى اسمها «علاقة حب» فى عام ١٩٩٣، عن دار كانت تسمى «النصر» ومقرها العتبة فى ذلك الوقت. كما أننى أصدرت مع نفس الدار كتابًا عن حوارات أجريتها مع الفنانين فى مصر آنذاك. قبل أن أعود لأهتم بالإبداع القصصى بعد توقف طويل، مع ترك ما نُشر قديمًا وعدم محاولة إعادة نشره مرة أخرى.
كما كانت هناك مجموعة للأطفال، عبارة عن قصص مصورة من ٦ كتب، صدرت عن الدار الشرقية للنشر فى مدينة نصر، وقررت وزارة التربية والتعليم هذه القصص على المرحلة الابتدائية فى المدارس. وأصدرت رواية «الليل والحرام» عام ٢٠٠٣، والتى تدور حول علاقة المثقف بالسلطة، وأخيرًا رواية «اقتلوا يوسف» الصادرة عن المركز المصرى للدراسات والنشر، قبل مجموعة «الفراش البارد» المزمع صدورها عن دار «صفصافة».
■ هناك فترة طويلة بين المجموعة الأولى الصادرة عام ١٩٩٣، و«الفراش البارد» التى تصدر فى ٢٠٢٤.. لماذا كان كل هذا التوقف؟
- كان هناك العديد من الالتزامات والفترات الصعبة التى عشتها. هذا كان له تأثيره على الكتابة والإبداع لدىّ فتوقفت. لكننى أنجزت الكثير من الروايات وقصص الأطفال والسيناريوهات التليفزيونية والسينمائية لا تزال فى الأدراج وأتمنى أن ترى النور.
كما أننى كتبت مسرحية للطفل نُشرت فى قصور الثقافة، اسمها «الخروف الشقى»، تم الاحتفاء بها فى عدة ندوات، ونُفذت فى دولة الإمارات كمسرحية، رغم أنها نُشرت فى تسعينيات القرن الماضى.
بعدها تركت القصة القصيرة واتجهت إلى الرواية، وخلال هذه الفترة كنت أقرأ كثيرًا. قرأت مثلًا كل أعمال نجيب محفوظ مرة أخرى، رغم أننى قرأته قديمًا، وتحديدًا فى السنة الثانية من الجامعة، إلى جانب قراءة يحيى حقى.
■ رغم أنك عشت فترات طويلة من حياتك فى الإمارات تدور أحداث المجموعة فى ريف القرية المصرية.. ما تفسير ذلك؟
- أنا فى الحقيقة سافرت دولًا كثيرة جدًا، لكن الحارات والمصاطب والمزيرة والأسبلة والطرق، والحميمية والحب بين الناس، هى التى تسيطر علىّ، ولا أزال أتذكرها إلى الآن. حين أسافر إلى القرية أظل أبحث عن أصدقائى القدامى الذين كانوا رفاقًا لى فى تلك الأيام الجميلة، هناك فى قريتى «الهوابر» بمحافظة الشرقية، وأحاول أن أستعيد بعض خيوط الماضى الذى كان، وأسترجع هذه الذكريات الجميلة.
الطفولة للمبدع هى الوعاء الذى يغترف منه خيوط إبداعه. وأتذكر أننى كنت متأثرًا بالشيخ الذى كان يحفظنا القرآن فى المدرسة، واسمه الشيخ عطية، الذى كان يمنحنا الكثير من الحلويات حين نجيد الحفظ، ويمسك حصاة يقرص بها أذن الولد حين يخطئ. كل هذه المشاهد تتوالى فى ذهنى حين أذهب إلى هناك، وأذكر يوم دخول الكهرباء للقرية، وشكل الناس وهى تجرى، والعديد من الحكايات الطريفة التى لا يمكن أن تمحى من الذاكرة بالنسبة للمبدع.
■ تحدثت عن موسم الحصاد فى كتابك.. لماذا هذا المشهد تحديدًا؟
- حصاد القمح كانت له طرق خاصة ينفذها الفلاحون فى الشرقية. كانت طرقًا بدائية للحصاد. لكنها قاسية جدًا ومتعبة ومرهقة. كان الحصاد فترة يخافها كل العيال الذين يحصدون القمح تمهيدًا لدرسه. ورغم أن هذه الفترة كانت متعبة، فإنها كانت سببًا فى اجتماع الأهل كل يوم، تحت لمبات «نمرة خمسة» وغيرها، يتسامرون وتعلو ضحكاتهم.
كانت لحظات قاسية جدًا لكن أجمل ما فيها أنها تجمع الأهل والجيران فى الغيطان، حيث نلعب نحن الصبية ونظل نناغش الجميع. لا يمكن أن أنسى هذه اللحظات، رغم قسوة بعضها علينا كأطفال. كانت هناك حميمية لذيذة فى التعامل، والكل فى واحد لا ينفصل.
■ ماذا عن مجموعة «الفراش البارد»؟
- كتبت مجموعتى القصصية «الفراش البارد»، التى تصدر قريبًا عن دار «صفصافة» للنشر والتوزيع، فى ٣ سنوات، والحقيقة لم أكن أخطط لكتابتها. لكن أحيانًا تأتى بعض اللحظات التى تستقر فى الذاكرة، فحين أكون جالسًا ويحدث موقف ما يحتفظ العقل بالموقف، ليخرج بعد ذلك فى صورة قصة قصيرة وهكذا.
كما أن الطفولة لا زالت تحتل عقلى، وأكتب الكثير من القصص عن هذه اللحظات، وأحيانًا هناك أمور لا يلاحظها الجميع ويلاحظها الكاتب، لأن هذا هو الإبداع، أن ترى ما لا يراه الآخرون.
قصتى «البركة الضحلة» مثلًا كانت عن بِركة ماء فى القرية، وكان هناك كلبان يتعاركان بسبب كلبة، ظلت اللقطة فى ذهنى حتى خرجت فى قصة. كما ذكرت قصة السيدة صاحبة الكلبة التى ضربتها، لأنها كانت سببًا فى تفريق الكلبين.
من فترة كنت أعرف بنتًا جميلة جدًا، وحدث أن افترقنا، وحين رأيتها بعد سنوات وجدتها فى غاية الشراهة للأكل، ووزنها زاد بشكل مثير للسخرية، حتى إنها توجهت لطبيب نفسى، وكان الجميع يسخر منها فى مشيتها، ما كان له أثر كبير عليها، فكتبت عنها قصة اسمها «امراة مشوهة».. وهكذا فإن معظم قصص المجموعة عبارة عن لحظات عشتها ودونتها وخرجت فى هذه الصورة.
■ لماذا لم تخرج إلى المدينة خلال الكتابة؟
- لن أخرج من الريف لأنه مسيطر علىّ. ورغم أننى عملت فى المدينة لفترات طويلة، لا زالت تلك الفترات التى عشتها هناك فى الشرقية هى منبع الإبداع لدىّ. لا أحب أن أكتب للمدينة، فللمدينة كُتابها، وأنا أعبر عن بيئتى التى كبرت فيها وحفظت شوارعها وعلاقات الناس ببعضها. والحقيقة أنا مفتقد لكل هذا فى أى مكان أسافر إليه.
■ معنى ذلك أن «النوستالجيا» تفرض نفسها عليك بشكل كلى؟
- بالتأكيد، ولا زلت أفتقد أصدقاء كثيرين إلا واحدًا فقط موجود فى القاهرة ودائم التواصل معه، وحين أقابله أستعيد كل ذكرياتى القديمة، وكأنه باعث حقيقى للعودة إلى هذه الفترة. الحكايات والسامر والخروج لشى الذرة، كانت الحياة سهلة وبسيطة وجميلة، وهناك الكثير من الفترات التى تلح على ذاكرتى وأكتبها، لكننى لن أنفصل عن واقع هذه الأمور.
■ فى قصصك هناك معاناة يتعرض لها كل الشخوص.. هل تقصد ذلك؟
- نعم، هذا حقيقى، البشر كلهم يتشابهون فى معاناتهم، والمعاناة للكاتب هى التى تصنع الإبداع. البشر كلهم يتشابهون فى معاناتاهم اليومية والاحتياجات الشخصية، لكن بدرجات متفاوتة، وكأننا حالة واحدة بدرجات متفاوتة.
عبرت عن المعاناة أكثر فى قصة «ناقص سالب»، فكتبت عن رجل فشل مع ٣ زيجات فذهب إلى طبيب متخصص، ليفاجأ بزوجته الأولى هناك تعالج زوجها الجديد، فنظرت له بعتاب قاسٍ، ونظر لها كأنه يقول: «كلنا شركاء فى الهم».
■ إلى جانب القصة القصيرة صدرت لك روايتان.. ماذا عنهما؟
- روايتى الأولى «اقتلوا يوسف» تدور فى فترة الثمانينيات، حيث نشوء الأحزاب السياسية، والصدام بين المثقف والسلطة. الرواية تكشف كيف كانت السلطة على حق، وأن بعض المثقفين كانوا يبحثون عن مجد زائف، وقناعاتهم لا تعكس ما يؤمنون به، حتى حدث صراع كبير بينهم وانقسموا من أجل الوصول إلى السلطة.
أما رواية «الليل والحرام» فتدور حول رجل يتحول من «الحالة الدينية» إلى رجل يكتب الشعر بعشق حقيقى، ويهجر كل ما كان يؤمن به فى سبيل الشعر، ويعيش بين جنبات الفن والأدب، وعندما يتذكر حياته الأولى يندم كثيرًا على تشدده وما كان يوصى به.
وانتهيت من رواية جديدة اسمها «الأرجوحة»، تدور حول البحث عن الجذور داخل الريف الذى بات يشبه الكتل الخرسانية، وكيف انتقلت المدينة إلى قلبه، حتى لم يعد هناك ريف من الأساس إلا فيما ندر. أعبر عن ذلك من خلال البطلة التى يحاول الجميع التقرب منها، اعتقادًا منهم أن لها تأثيرًا على أكبر مسئول داخل المدينة الجديدة. ورغم أنها لم تكن متزوجة، كانت لها سلطة كبيرة ويدها تطول كل شىء.
■ لماذا لم يظهر تأثير أسفارك إلى الخارج فى تجربتك؟
- السر هو تكوينى ونشأتى داخل الريف، شىء التصق بجلدك ولا يمكن الفكاك منه. دائمًا أقارن كل شىء بقريتى، حتى إننى أقارن مصر نفسها بقريتى هذه. لا يمكن الانسلاخ من حكايات الأم وزوجة أبى والجدات، وعلاقتى بعامل المسجد، وبكل تلك المفردات الجميلة. لا يمكن أن أنسى كل الأساطير التى كنا نعيشها هناك، والحارات الجميلة التى كنا نجرى فيها ونلعب. لذا أحاول أن أعيد القارئ إلى الريف القديم وتراثه الجميل، ما عشناه فى أطعمته وشوارعه والمصاطب بين البيوت.
لا يمكن أن أنسى رمضان وطقوسه والتجهيز له، لذا كنت لا أقبل أن أقضى رمضان فى أى مكان غير قريتى بسبب هذه الطقوس. الآن تغير الأمر، ودبت الخلافات، ولم تعد القرية هى القرية، وغزتها المدنية بكل مفرداتها. لم تعد الأسبلة موجودة، وغابت كل مفردات القرية.
■ هل هناك روافد أخرى دفعتك للكتابة؟
- نعم، أمى كانت مؤمنة بى. كنت أحضر ندوات فى «نادى القصة» بالقاهرة، وأرجع ليلًا متأخرًا فأجدها تنتظرنى فرحة بما أفعله. الكل كان يقول لى فى البيت إن ما تفعله خطأ. لكن أمى فقط هى التى كانت تحفزنى على إكمال مسيرتى. كانت قارئة، وحين نشر لى الدكتور فتحى عبدالفتاح قصة قصيرة فى جريدة «المساء»، اشتريت الجريدة وركضت إلى أمى، وحين رأت صورتى فى الجريدة أطلقت زغرودة كبيرة احتفالًا بى، وكأننى أنجزت لها ما كانت تأمله.
■ أنت صحفى منذ الجامعة وراسلت «الوفد» وكتبت فى العديد من الصحف.. كيف كان تأثير الصحافة على إبداعك؟
- الصحافة أثرت على إبداعى، لأننى كتبت قبل أن أتجه إلى الصحافة. أنصح أى مبدع بألا يعمل فى الصحافة لأنها «قاتلة للإبداع». من يحب العمل فى مجال الإبداع عليه أن يقرأ نجيب محفوظ، وكيف كان يكتب من خلال وظيفته. إنما الصحافة تستهلك المبدع وتؤثر عليه كثيرًا بشكل سلبى. صحيح أنها تمنحه اللغة القادرة على الإدهاش، وتمنحه العلاقات اللازمة لمسيرة آمنة لحياته، لكنها فى الأخير تؤثر على إبداعه الشخصى.
■ ما قصة لقائك بيوسف إدريس فى بداياتك؟
- ذهبت إلى يوسف إدريس لكى أعرض عليه رواية كتبتها فى الصف الأول الثانوى، كان اسمها «الأخ الأكبر». قابلته وجلست معه، كان يشرب قهوة فقال لى: «هل تشرب معى قهوة؟»، فقلت له: «أنا شربان». و«شربان» كلمة ريفية يعرفها يوسف إدريس، لأنه من قرية «البيروم» بمحافظة الشرقية، وتشبه قريتى. قهقه يوسف إدريس، وقال لى: «إنت جميل فى الكتابة. لكن يجب أن تنسى هذا العمل نهائيًا»، ثم سألنى: «هل قرأت رواية (الحرام)؟»، فقلت له: «نعم، وقرأت كل أعمالك»، فقال لى: «لا تكتب الآن. اكتب بعد 3 سنوات»، ونصحنى بقراءة كل أعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.