رحم العالم.. شيرين أبوالنجا: المرأة مشكوك فى أمرها إلى أن تصير أمًا!
سؤال «هل هناك ما يُقال عن الأم؟» قادنى لكتابة «رحم العالم»
الأمومة سلطة تمنح وتمنع وتحظى بقدسية عالية تفتح أبواب الاستثناء
العقل الأبوى ليس من مصلحته زعزعة «منظومة المزايا المُقدمة من الأم»
أصدرت الدكتورة شيرين أبوالنجا مؤخرًا، كتابها الجديد «رحم العالم.. أمومة عابرة للحدود»، عن مكتبة «تنمية» للنشر والتوزيع، والذى يغوص فى البحث عن الأم، ومحاولة الوصول لتعريف لدورها الباقى بقاء هذه الحياة.
وعبر الكثير من القراءات فى الأعمال الروائية والشعرية التى تناولت الأم ودورها، تتوصل الدكتورة شيرين أبوالنجا للعديد من النتائج، مع اعتقادها فى الوقت ذاته بالحاجة إلى كتب أخرى عن الأم، ودورها العظيم كوطن كبير وملاذ آمن للجميع.
عن الكتاب ومراحل خروجه إلى النور، والأسباب التى دفعتها لكتابته، وغيرها من التفاصيل الأخرى، يدور حوار «حرف» التالى مع الدكتورة شيرين أبوالنجا.
■بداية.. كيف جاءت فكرة كتابك «رحم العالم.. أمومة عابرة للحدود»؟
- هى متعة طرح السؤال، السؤال الذى فقد شغفه وحجب عن ذاته أى فضول. سؤال تحول إلى قول بديهى: «هل هناك ما يُقال عن الأم؟»، وكأن الأمومة ذات جوهر ثابت ساكن لا يتغير ولا يتأثر بما حوله، أو فعل مستقل تقع ممارسته بمعزل عن الأفراد وعلاقات القوى والسياق. ولماذا لا نطرح السؤال أصلًا؟ لنعيد طرح السؤال القديم ونخرج برؤى تساعدنا على الفهم، بدلًا من «اكتب ١٥ سطرًا عن الأم». وبما أن الأمومة لا تتأثر بحدود أو مكان فليكن السؤال عابرًا للحدود.
■ لماذا غابت السرديات العربية عن تناول الأمومة كما وضحت فى مقدمة كتابك؟
- تحظى الأمومة بقدسية عالية، تتحول إلى سبب ونتيجة ومبرر، تفتح أبواب الاستثناء، تسمح بما هو ممنوع على الآخر. الأمومة سلطة تمنح وتمنع، تفرض وترسم الحدود، تعيد إنتاج الخطاب، وعندما يقترن كل هذا بقول الرسول الكريم: «الجنة تحت أقدام الأمهات» يكتسب الأمر بُعدًا دينيًا موغلًا فى القدسية بما يمنع طرح أى سؤال حوله. كأنك تطرح المقدس للسؤال، أو تحاول إعادة سرد ما تم تقديسه. والمقدس لا يحتاج سردية أدبية أو فكرية. هو يقوم على الإيمان المطلق، وفى طرح السؤال أو محاولة تقديم سردية ما له «جرح للقدسية».
من ناحية أخرى، مَن الذى يعكف على كتابة السردية؟ من له سلطة الحكى والسرد وإعادة السرد، عقل أبوى حظى بكل المتع والمزايا التى تقدمها الأم فى المطلق، وليس من مصلحته زعزعة استقرار المنظومة بأى شكل؟ فإعادة النظر فى القوالب الثابتة، والمنظومة الشعورية المتوقعة، والممارسة التى تُسير قواعد تقسيم الأدوار بشكل صارم، كلها أفعال تخلخل ميزان القوى، ليس فقط فى العائلة بل فى المجال العام أيضًا.
■ مع أن كثيرين تناولوا دور الأمومة، تبقى إيمان مرسال وكتابها: «كيف تلتئم؟.. عن الأمومة وأشباحها» حجرًا حرك الراكد وانتشر كواحدة من السرديات الفريدة عن الأمومة.. كيف ترين هذا؟
- أراه كما يقول السؤال، حرك المياه الراكدة، لفت النظر إلى المسكوت عنه، نبه إلى مشروعية وإمكانية الكتابة عن الأمومة من وجهة نظر الأطراف المعنية. كتاب إيمان مرسال جعلنا نلتفت إلى إمكانية تحويل الأمومة إلى سؤال. لا يعنى هذا أن غيرها من الكاتبات لم يكنّ مهمومات بمشروع/ سؤال/ فعل الأمومة.
الأمومة فى النهاية فعل يتجذر فى جسد المرأة واختياره لأحد أشكال وجوده. لكن الكتاب شجعنا على طرح السؤال انطلاقًا من أرضية قد تبدو شخصية لتتسع فى الأفق تدريجيًا، وتتمكن من عبور الحدود. ولكى لا يكون التحليل فى المطلق التجريدى جعلت من النصوص الأدبية وبعض الأعمال الفنية والشهادات مدخلًا لقراءة نماذج متعددة.
■ فى رواية ألبير كامو «الغريب» كان موت الأم الحدث الأعظم الذى بنيت عليه الرواية وجعل افتتاحيتها الأعظم وفق وصف كثيرين.. هل استغلت الأعمال الأدبية المنحى العاطفى العظيم تجاه الأم ووظفته بالصورة اللائقة فى رأيك؟
- ليست أعمالًا تستغل المنحى العاطفى، لكنها تحفزك على التفكير فى الشخصية بشكل أكثر عمقًا، فالذى فقد أمه هو المحتل الفرنسى فى مقابل شعب كامل فقد أرضه ووطنه. بهذا تتعقد المعادلة: مع مَن تختار الاصطفاف؟ مع المستعمَر أم المستعمِر؟ مع مَن تتعاطف؟ مع من فقد أمه منبع الأمان، أم مَن فقد وطنه الأم منبع الاستقرار؟ بهذا تتحول الأم هنا إلى هوية ومركز وملجأ، لا تبقى الأم مجرد شخصية فى الخلفية، بل تحمل العديد من الدلالات التى ينبغى تفسيرها للوصول إلى جوهر «الغريب».
■ وماذا عن الأديان وتعاملها مع المرأة كما تطرقت لها فى كتابك؟
- فى النهاية تتحول الأفعال الإيمانية والممارسات الفقهية إلى جزء من الخطاب الذى يُنظم المجتمع، حتى وإن كان ذلك يحدث بدون قصد أو وعى. للأم وضع لافت للنظر فى الأديان بشكل عام، وفى القرآن الكريم والحديث الشريف، جاء تبجيل الأم من صعوبة دورها: الحمل ثم الإنجاب ثم الرعاية. من هنا اكتسبت دعوة ورضا وصحبة الأم أهمية فى الخطاب الحياتى.
فى الحياة اليومية وخطابها الرسمى والشعبى، يتراجع الدين تاركًا المساحة لخطاب يدّعى أنه ينهل من الدين، وهو فى الحقيقة يقوم على اختزال الدين، كأن يقول لك ما هو مقتطع من سياق كامل: «ناقصات عقل ودين»، فيما هو فى الواقع يرسخ تقسيم الأدوار، ويقوم على أساس مصالح اقتصادية بحتة.
فى الأزمات الاقتصادية، تكون أولوية العمل للرجال، لأن النساء لا بد أن يكن أمهات «مصنع الرجال» على سبيل المثال. لاحظ أن الخطاب الدينى كثيف للغاية فى حياتنا اليومية. وهو لا يعنى أننا ملتزمون بخطاب فقهى صحيح، بل نحن نعيد نسجه فى الخطاب المجتمعى، لنمرر من خلاله ما نراه ملائمًا لنا اقتصاديًا وسياسيًا ومجتمعيًا فى اللحظة.
■ قلت فى كتابك إن الكثيرين نظروا إلى الأم «نظرة أُحادية»، وإن هذا أصبح متمركزًا فى الذاكرة الجمعية، واعتبرتِ أن هذا خطأ.. فى رأيك مَن المستفيد من هذه الرؤية الجمعية؟
- السلطة الأبوية «رجالًا ونساءً» بكل أشكالها: الفكرية، الأكاديمية، الاقتصادية، النفسية، الأخلاقية، السلوكية. مَن الذى قد يرغب فى المساس بمنظومة أحادية، خط سيرها مقرر سلفًا، وسلوكها لا بد أن يخرج من ذات الكتاب، وكل ما هو متوقع منها أن تفنى ذاتها فى ذوات الأبناء مهما كان الثمن؟
فى الرؤية الأحادية تكمن الراحة. أما التعددية والاختلاف فما مصدران للقلق الفكرى. الأم امرأة يشعر تجاهها المجتمع بأمان، الأم ليست- من وجهة نظر نفس المجتمع- مصدرًا للخطر، لا تحوم حولها الشكوك، بالرغم من جرائم صفحات الحوادث. الأم لها ذات معروفة، بخلاف المرأة التى لا تكون أمًا. باختصار، المرأة مشكوك فى أمرها إلى أن تصير أمًا.
■ قلتِ إن فلسطين قدمت نموذجًا مغايرًا للمرأة التى تقنع نفسها بأنها مهيأة للفقد.. كيف ترين وقع هذا على الأم؟
- تعددت نماذج الأمومة فى هذه الحرب، وأظهرت بطولات وآلامًا وأحزان بقدر متساو، ماذا نطلق على هذا النموذج؟ أمهات تحت القصف؟ أم أمهات الحروب؟ أم أمهات منسيات؟ ماذا نسمى تلك الأم التى كانت تبكى وتصرخ لأن أطفالها ماتوا جوعى؟
ظهرت هذه الأم على شاشات التليفزيون والقنوات الفضائية التى تحول المآسى إلى نص صادم وقصير، وتنبه المشاهد إلى وجود محتوى لا يلائم أصحاب القلوب الضعيفة، فيما يعنى أن المشاهد الحاضر أمام الشاشة يمتلك قلبًا قويًا، وتنبه أيضًا أنه لا يلائم الأطفال، لكن النص الذى تعرضه الشاشة يُظهر الأطفال، فلماذا نحجب عن الأطفال إمكانيات مستقبلية تنتظرهم: موت وبكاء وصراخ ويُتم وأسئلة وخذلان؟!
فى نهاية أكتوبر ٢٠٢٤، وكان الكيل قد طفح، وبالرغم من استمرارية الإبادة والمجازر، أصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية ملفًا عن الإبادة فى غزة، يتضمن مقالًا تحليليًا عن معنى الأمومة فى قلب المذابح والقتل والقصف.
تقول كاتبة المقال، لمى غوشة، إنه يمكن تعريف الأمومة فى فلسطين بأنها:
«حالة خوف وقهر دائمة؛ فأن تكونى أمًا هنا يعنى أن تهيئى نفسك دائمًا لخبر الفقد، وأن تدربى قلبك على إمكان الانطفاء المفاجئ، والخفقان السريع. أيضًا معناه أن تعودى أبناءك على إمكان الغياب القسرى، وأن تحصنى وعيهم بإمكانات الموت السريع، والاعتقال المباغت، والإصابة الحرجة، والقائمة تطول وتطول، فمسببات الألم هنا كثيرة ومتنوعة، وتحمل كمًا مهولًا من التشويق والإثارة، على عكس مسببات الأمل. وعليه، يُحصر دور الأم الفلسطينية هنا فى إنشاء توازن دائم بين الألم والأمل فى أذهان أبنائها وقلوبهم، لتصبح الحياة ممكنة وغير مستحيلة».
وكأن فلسطين بأكملها تقدم نموذجًا مغايرًا للأمومة، تلك الأم التى تعرف أن الفقد ينتظرها فى كل خطوة، تفقد الأبناء كثمن للاحتلال، تموت الأرحام بقنابل الاحتلال. فى نفس الملف تم توجيه سؤال للباحثة نور بدر عن سياسات نزع الأمومة فى الحرب، والقهر الناتج عن الفقدان المتكرر. فقالت:
«إن الفقدان فى الحرب يجعلنا نتساءل عن قيمة الحياة كأمهات، وهنا تكمن أهمية نزع الأمومة فى السياق الاستعمارى، فمع الفقدان المتكرر، تصيح الأمهات (خذونا معهم، ادفنونا معهم). وبفقدان الأبناء، تفقد الأمهات معنى وجودها فى الحياة. فما معنى قتل حيلة من تعيش المرأة من أجلهم؟ قتلُ أبنائها، بينما يُطلب منها أن تنجب وتنجب، لتتحسر وتتحسر مرارًا وتكرارًا. سأقول هنا كأم، إن الحمل يمكن أن يصبح أمرًا مثيرًا للخوف بدلًا من البهجة، ففى سياق دولة طبيعية، يكون الحمل مبعثًا للفرح والسرور. أمّا فى ظل الحرب، فيكون خبرًا لمزيد من الخوف والريبة، وهذا يتجسد فى الخوف من فقدان هذه الأجنة بعد ولادتها للحياة. فكيف يمكننا إذن أن نتعامل مع الرحم كآلة؟».
■ عبر ١٤ فصلًا ذكرتِ العديد من الحالات المتغيرة للأمومة: الأم الأبوية والأم الهاربة والأم المقاومة والأم المهزومة المأزومة.. هل البيئة والاحتياج هما مَن يمنحان الأم هذا الدور المتعدد أم أن هناك أمورًا أخرى؟
- تتقاطع عدة عناصر لتُشكل دور وهوية الأم. لا يُمكن النظر إلى النموذج على أساس عنصر كونها امرأة وفقط، فالطبقة تلعب دورًا مهمًا، ومعها الخلفية الثقافية. هناك بالطبع السياق التاريخى الذى يستجيب للبُعد السياسى والظرف الاجتماعى، وأخيرًا البيئة المكانية.
لكن الأهم أيضًا هو دور الأب، الذى قد يؤثر سلبًا أو إيجابًا على نموذج الأم، فقد يجعلها مهزومة أو مأزومة. لا يجب أن نغفل السمات الفردية التى قد تدفع الأم إلى الهروب من أمومتها، أو تعملق من رغبة تملك أبنائها.
وهناك بالطبع نموذج «الأم الأبوية»، التى تُعيد إنتاج كل القيم الأبوية تجاه بناتها، خوفًا من المجتمع أو تملقًا له. بالتالى كانت النظرية التقاطعية هى المنهج الأنسب لدراسة هذه النصوص، ووضعها فى تجاور وحوار يجعل من الأمومة نموذجًا عابرًا للحدود.
■ ما المجتمعات التى أنصفت الأم.. وهل المجتمعات العربية من ضمنها؟
نماذج الأمومة عابرة للحدود، ليس هناك شرق أو غرب. بشكل عام، الأم لها قدسية، تتفاوت أشكال التعبير عنها فى كل المجتمعات.