الخميس 20 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

القديسة.. متى أصبحت أم كلثوم من المحرمات؟

أم كلثوم
أم كلثوم

- الست: ليس لى أى دور سياسى لكن يمكن دور مواطنة مصرية تحب بلدها

- كوكب الشرق: نحن نستطيع بالموسيقى الشرقية والآلات الشرقية أن نقدم أوبرا حقيقية صادرة من تراثنا

- أم كلثوم تدافع عن استقلالها وكيانها من احتلال عبدالوهاب

فى أوراقى الخاصة ثلاثة مشروعات مؤجلة عن السيدة أم كلثوم. 

المشروع الأول بدأته ربما من خمسة وعشرين عامًا. 

كان عنوانه «أم كلثوم.. وكل هؤلاء الرجال»، شغلتنى فيه فكرة أن السيدة التى أصبحت رمزًا لا تقدر على طيه الأجيال هى فى الأساس صنيعة رجال، تحركوا على خريطتها بطرق مختلفة وأساليب متباينة، ورغم اختلافاتهم وتناقضاتهم وقربهم منها وبعدهم عنها.. إلا أنها استفادت منهم جميعًا فى بناء إمبراطوريتها التى تتسع حدودها عبر الزمن. 

المشروع الثانى بدأت التفكير فيه منذ سنوات قليلة. 

أعتقد أنه لن يسعد كثيرين. 

فأنا من أنصار أن أم كلثوم أضرت بالحب ضررًا بالغًا، فما نقابله فى أغنياتها من مشاعر وأحاسيس ومعانٍ ليس موجودًا على الأرض، جاء لها الشعراء بما لا يقدر أحد أن يتحمله من البشر، ولذلك فكرت فى مشروع يكون عنوانه «بعيد عنك.. جناية أم كلثوم على العشاق». 

أما المشروع الثالث فقد وجدت فى أوراقى قدرًا كبيرًا من مادته، يحتاج الأمر فقط إلى جلسات كتابة مكثفة، فكان عن الخريطة التى تحدد موقع أم كلثوم بين الكتاب والصحفيين، لا أتحدث عن علاقاتها الشخصية بهم، رغم أنها كانت عديدة ومتشعبة ومتشابكة، ولكن ماذا كتبوا عنها وماذا قالوا؟، وهو المشروع الذى تساندنى فيه مادة صحفية هائلة مدفونة بين صفحات الصحف والمجلات المصرية. 

ولأن لكل مشروع سؤالًا محوريًا، فقد كنت أبحث من خلال المشروع الثالث عن اللحظة التى تحولت فيها أم كلثوم فى حياتنا الفكرية والفنية ذاتًا مصونة، لا يقترب منها أحد، لا بنقد ولا حتى عتاب. 

كيف استطاعت أن تصنع من نفسها كيانًا فوق القياس أو التقييم؟ 

كيف أصبحت فى حياتنا من المقدسات التى يعتبر مجرد عدم الإعجاب بما تقدمه كفرًا بالنعمة والموهبة؟ 

لسنوات طويلة كانت أم كلثوم فنانة يتعامل معها الصحفيون والكتاب مثلما يتعاملون مع الآخرين، يخضع ما تفعله للنقد والأخذ والرد. 

فى أرشيفها الصحفى مقال كتبه عزيز أحمد فهمى عن فيلمها «دنانير»، نشرته مجلة «الرسالة» فى عدد 18 نوفمبر 1940. 

لنقرأ معًا فقرة واحدة من هذا المقال. 

يقول كاتبه: ما الذى حدث لأم كلثوم حتى إنها استحالت فى نظرى من فنانة تشبع النفس إشباعًا مريحًا إلى هذه الجديدة التى حين سيطرت على عمل فنى كبير مثل «دنانير» خرج من تحت يدها وهو فاشل ميت مع وفرة المال الذى بذل فيه وطواعية المعاونين الذين عاونوها فيه؟ 

ويحاول كاتب المقال الإجابة على سؤاله. يقول: لا بد أن يكون قد حدث لأم كلثوم شىء أصاب نفسها وقعد على روحها، فالكاميرا صاحبة العين النافذة تقول لنا إن أم كلثوم اغترت، وإن إحساسها ركد، وإن بدنها طغى على روحها، وإنها استمرأت التكللف والتصنع حتى نضبت سجيتها وجفت عواطفها، فانحرمت من الفرح تبعًا للذى أرادته من الامتناع على الألم، وقد قالت لنا الكاميرا أيضًا إن أم كلثوم تحجرت.

ظلت الصحافة تتعامل مع أم كلثوم كفنانة لها ما لها وعليها مع عليها إذن، وما هذا المقال إلا واحد من مقالات كثيرة كانت تشد على كوكب الشرق وتقسو عليها. 

لكن يظل السؤال: متى توقف كل هذا؟ 

لقد لفت نظر الكاتب الكبير جلال أمين عند عرض المسلسل الشهير الذى كتبه محفوظ عبدالرحمن وأخرجته إنعام محمد على عن أم كلثوم، أن صناع المسلسل قدموا الست فى صورة ملائكية لا يمكن أن تكون حقيقية. 

وكتب فى مقال نشرته له مجلة الهلال فى عدد فبراير 2000 مشيرًا إلى إحجام المسلسل عن التعرض لأى شىء سلبى فى حياة أو شخصية أم كلثوم، وهو المسلسل الذى حاز قدرًا هائلًا من الكتاب لم يشر منهم إلا عدد قليل ولو من طرف بعيد إلى هذا النقص، وهو الإحجام عن التعرض لأى نقيصة قد تكون شابت السيدة أم كلثوم. 

القضية شغلت كثيرين إذن، وقد حاول كثيرون الوصول إلى السر. فهل تحولت الست إلى قديسة لمجرد موهبتها الخارقة؟ 

هل أصبحت من المحرمات لمجرد أنها واصلت الغناء كل هذه العقود؟ أم لأنها كانت مؤسسة عملاقة أدركت أنها موهوبة ولا بد لها من الحفاظ على هذه الموهبة التى لم ينعم الله بها على أحد فى تاريخ الغناء العربى كله على غيرها. 

ما أنشره هنا هو جزء من مادة المشروع الذى سأعمل عليه خلال الشهور المقبلة. 

مجرد محطات لما جرى من أم كلثوم وعليها فى عالم الكتاب والصحفيين. 

وأعتقد أنه جهد تستحقه أم كلثوم، ويستحقه كل من تحركوا على جغرافيتها الغنائية.

عباس العقاد: أنت من وحى الله.. ولله فى الفن أنبياء

لسنوات طويلة كان الكاتب الكبير عباس محمود العقاد حريصًا على عقد صالونه الأسبوعى كل يوم جمعة. 

فى كتابه «٥ شارع أبو الفدا» يحكى مؤلفه المهندس فكرى صالح أن والده كان يصطحبه فى أوائل الستينيات إلى صالون العقاد، ومن بين ما لاحظه أن العقاد كان حريصًا على الاستماع إلى أغنية من أغانى الست قبل أن تبدأ الحوارات والنقاشات فى الصالون، وكان يبدو عليه الانسجام الشديد، وكانت حالة الانسجام تزداد إذا صادف يوم الجمعة اليوم التالى لحفلة أم كلثوم التى كانت تذاع الخميس الأول من كل شهر. 

فى واحدة من جلسات الصالون سأل أحد الحاضرين العقاد: هل صحيح أنك تفكر فى تأليف كتاب عن السيدة أم كلثوم؟ 

أجاب العقاد: نعم.. فكرت بالفعل فى تأليف كتاب عنها، وقررت أن أسميه «عبقرية أم كلثوم»، ليضاف إلى كتب العبقريات التى ألفتها، لكن السيدة أم كلثوم رفضت الاسم احترامًا للعبقريات الأخرى التى كتبت عنها. 

لم يناقش العقاد أم كلثوم فيما أرادته، على العكس تمامًا، احترم وجهة نظرها، وأكد أن موقفها يدل على ذكائها وأصالتها، فهى لا تريد أن تقرن نفسها بأصحاب العبقريات الذين كتب عنهم العقاد. 

فكر العقاد فى اسم بديل للكتاب، وكانت أمامه عدة بدائل منها «أم كلثوم العبقرية» أو «أم كلثوم المعجزة»، لكن الموت كان أسرع من تحقيق أمنيته، فمات دون أن يكتب كتابًا كاملًا عن أم كلثوم. 

كان رأى العقاد فى أم كلثوم واضحًا، قال عنها: أم كلثوم بدون شك معجزة إلهية وهبها الله لمصر، الإعجاز هنا ليس فقط فى صوتها وأدائها وفنها، بل فى شخصيتها وذكائها الخارق، لم يجد الزمان بمثلها من قبل ولن يجود بمثلها فى المستقبل.

فى العام ١٩٤٩ وعندما كانت أم كلثوم عائدة من رحلة علاج بالخارج، أقام لها معهد الموسيقى حفلًا كبيرًا حضره عدد من الأمراء وكبار الشخصيات السياسية والأدبية والفنية. 

فى هذا الاحتفال أهداها العقاد قصيدة تدل على رؤيته لها، وهى القصيدة التى يقول فى مطلعها: أم كلثوم يا بشيرًا من الله بالرجاء/ أنت من وحيه ولله فى الفن أنبياء/ ذلك الصوت صوتك العذب من عرشه نداء/ فيه سر من جنة الخلد لكنه ضياء.

وبعد هذا الحفل كتب العقاد مقالًا نشرته له مجلة المصور وصف فيه أم كلثوم بأنها راية متوجة بالحرير. 

قال فيه: عندما قلت عن أم كلثوم إن صوتها لا يماثله صوت، فإنى أعنى فى الماضى والحاضر على السواء، ويفتح هذا الكلام سؤالًا يسبق الألسنة وهو كيف نحكم على أصحاب الأصوات فى الماضى ونحن لم نشهده ولم نسمعه.

ويقول: صوت أم كلثوم من البرانو المديد، امتاز بالحسن والنقاء، فمن الممكن أن يفضل السامع نوعًا من الأصوات على آخر، لكنه لا يستطيع أن يجد بينها حسن ونقاء كنقاء صوت أم كلثوم، وقد سمعت جميع المطربين والمطربات الذين اشتهروا فى مصر وفى الشرق، وسمعت أم كلثوم منذ نشأتها الأولى، سمعتها لأول مرة فى حديقة الأزبكية، ورأيتها فى الكوفية والعقال ففهمت أنها بدوية، وسمعتها تغنى الشعر والأدوار الشعبية فما شككت منذ اللحظة الأولى أنها ستنفرد بعرش الغناء فى هذا الزمان، وسمعتها بعد ذلك فى عرس، وفى مسرح البسفور، وفى رأس البر، واقتنيت الأسطوانات التى سجلتها، وعرف أصحابى أن خير نخبة موسيقية عربية اسمعها إياهم فى بيتى هى أسطوانة لأم كلثوم. 

ويختم العقاد مقاله بقوله: أم كلثوم هى راية متوجة بالحرير، وما زالت راية تخفق فى ظل النعمة والنعيم.

وفى العام ١٩٦١ وبعد شهور من بداية التليفزيون فى مصر كان العقاد ضيفًا على أحد برامجه. 

سألته الإعلامية أمانى ناشد عن رأيه فى أم كلثوم. 

فقال لها: أم كلثوم فضيلتها الكبرى فى صوتها، صوتها أعطى للفن قيمة جديدة، فيه نفسه ميزة تزيد المعنى والتأثير فى النفس، صوتها مستقل عن الملحن والمؤدى والآلات، هو نفسه معبر، وهذه ميزتها الكبرى. 

هذا الود الهائل لم تبادله أم كلثوم بود كبير. 

فى مايو ١٩٦٠ كانت أم كلثوم تقيم حفلًا فى المنصورة، رافقتها إلى هناك الكاتبة الصحفية الشابة حسن شاه، التى أجرت معها حوارًا، اهتمت فيه بمعرفة قراءات أم كلثوم وكتابها المفضلين. 

من بين ما جاء فى هذا الحوار ويخص العقاد، وهى تستعرض كتابها المفضلين أنها لم تقرأ كتاب العقاد «المرأة فى القرآن». 

قالت لها شاه: العقاد يقول فى هذا الكتاب إن المرأة لا تصلح لشىء، وينكر عليها التفوق فى أى ناحية من نواحى الخلق والابتكار والفن. 

ردت أم كلثوم: هل قال العقاد هذا الكلام فعلًا؟ 

ولما أكدت لها حسن شاه أنه قاله، ردت أم كلثوم ساخرة: لن أرد بصفتى فنانة، وسأترك الناس الآخرين يردون، وأحب أن أقول لـ«العقاد» بهذه المناسبة إن الله خلق الناس من جنسين، ومنح كل جنس مواهب معينة ليست موجودة بنفس الدرجة فى الجنس الآخر، فلماذا يتباهى أحد الجنسين على الآخر بمواهبه، هل يستطيع العقاد أو غير العقاد أن يعيش بغير المرأة.. و هل كان العقاد يصبح له وجود أصلًا بغير المرأة.

طه حسين: كلما قابلت أم كلثوم أردت أن أقبل يدها

طه حسين وأم كلثوم

من بين ما كان يعترف به الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى لأم كلثوم، فضلها على اللغة العربية. 

يقول عنها: أم كلثوم بصوتها النادر فى امتيازه، سواءً فى الجمال أو فى سلامة نطق اللغة العربية، أسهمت عندما غنت القصيدة فى إثبات جمال اللغة وطواعية موسيقاها حتى فى أصعب الكلمات لموسيقى الغناء، وكان لصوتها فضل فى انتشار الشعر العربى على ألسنة العامة والخاصة.

هذه الشهادة لم تمنع بعضًا من المزاح الحاد الذى جمع بين الست والعميد.

كان مجمع اللغة العربية قد عقد اجتماعًا ليضع تصورًا للغة العربية التى يجب أن يكتب بها كتاب المسرح الذين يقدمون نصوصهم لتعرض على مسرح الدولة. 

دعيت السيدة أم كلثوم إلى هذا الاجتماع، وسمعت الدكتور طه حسين وهو يقول إنه يفضل اللغة العربية الفصحى، حتى إذا كانت الرواية التى ستتمسرح لا علاقة لها باللغة العربية، وذلك حتى يفهمها كل من يتكلم العربية بعيدًا عن العامية التى يفهمها أهل البلد الواحد.

اعترضت أم كلثوم على ما ذهب إليه طه حسين. 

قالت له: أعتقد أنه من الأفضل أن يكتبوا باللغة التى تكتب بها الجرائد يا سيادة العميد.. فهى أقرب إلى أفهام الجميع. 

لم يقر طه حسين أم كلثوم على رأيها، ومازحها بقوله: طيب يا أم كلثوم.. المرة الجاية تغنى «غنى لى قليلًا قليلًا» بدلًا من «غنى لى شوى شوى». 

كان طه حسين يعرف للسيدة أم كلثوم قدرها، وهو ما يظهر فى الحوار الذى أجرته معه جريدة الأهرام فى ٧ يونيو ١٩٦٩. 

فى هذا الحوار الذى أجراه الكاتب الصحفى كمال الملاخ، تحدث طه حسين عن أم كلثوم وعن بدايات معرفته بها. 

قال: أول مرة سمعت أم كلثوم كانت سنة ١٩٢٢ أو قبل كده بشوية، فاكر يومها كان معنا محمد حسين هيكل باشا، بعدما غنت وخلصت أول دور كانت بتشوفه، كانت بلدياته. 

ويصف طه حسين أم كلثوم بأنها لطيفة جدًا، ويتذكر: أنا عزمتها فى الجامعة تغنى للطلبة، لما كنت عميدًا لكلية الآداب، أول ما حضرت كان معى على باشا إبراهيم، حيتنا بحرارة، وأنا حتى الآن عندما أقابلها أود دائمًا أن أقبل يدها، وغنت للطلبة مجانًا. 

وعندما سأله كمال الملاخ عن رأيه فى صوت أم كلثوم، قال: سمعتها مرة فى حفل عائلى، كنا معزومين على العشاء، عند المرحوم سعيد لطفى، وبعد العشاء غنت لنا شعرًا من مهيار الديلمى، فاكر إن سعيد كان يبكى، وكان هناك حافظ عفيفى ولطفى السيد، وكنا مبسوطين جدًا لأنها غنت من غير عود ولا آلات، صوت أم كلثوم هادئ، إنها رائعة.

 نجيب محفوظ: أديب نوبل قال لهيكل: هاتوا لى أم كلثوم فى عيد ميلادى

مرة واحدة التقى فيها نجيب محفوظ بأم كلثوم. 

فى عام ١٩٦١ فكرت شلة الحرافيش أن تحتفل بعيد ميلاد الأستاذ نجيب بطريقة مبتكرة، واستقر تفكيرهم على أن تستضيف جريدة الأهرام الاحتفال، بحيث تدعو له عددًا من الكتاب والمفكرين والفنانين. 

حمل صلاح جاهين الذى كان أحد أعضاء شلة الحرافيش الاقتراح إلى محمد حسنين هيكل الذى استجاب على الفور، ومن بين من دعاهم إلى الاحتفال بنجيب كانت السيدة أم كلثوم. 

لم تكن دعوة أم كلثوم إلى الحفل فكرة هيكل، ولكنها كانت رغبة نجيب محفوظ. 

تواصل معه هيكل قبل الحفل، وسأله: تحب نجيب لك إيه هدية فى عيد ميلادك؟

ضحك نجيب ضحكته المشهورة عنه، وقال لهيكل: هاتوا لى أم كلثوم. 

لم يكن نجيب جادًا فيما يبدو فيما يطلب، ولكنه قالها على سبيل المزاح، لكن هيكل حول طلبه إلى واقع، وعندما دخل نجيب إلى قاعة الاحتفال وجد أم كلثوم من بين المدعوين، وكانت سعادته بالغة عندما عرف أنها استجابت لطلب هيكل ورحبت به. 

يتحدث محفوظ عن واقع هذه اللحظة عليه، يقول: كانت مفاجأة لى، لأنى لم أتوقع أن يكون لها اهتمامات بالقصة أو الرواية، وكنت أسمع كثيرًا عن ثقافتها واهتمامها بالشعر، ولم أتخيل أن توافق بهذه السهولة على المشاركة فى احتفال أدبى خالص. 

أطلق نجيب محفوظ على إحدى بنتيه اسم أم كلثوم محبة فى الست وتقديرًا لها، وعندما سأله مفيد فوزى فى أحد حواراته التليفزيونية معه: هل يزعجك أن توصف بأنك أم كلثوم الرواية العربية؟ 

أجاب نجيب بكل تواضع: بل يسعدنى هذا.. وأنا سعيد لأن حياتى ارتبطت بأعظم صوت رجالى وهو محمد عبدالوهاب، وأعظم صوت نسائى وهى أم كلثوم. 

فرضت أم كلثوم نفسها على المنتج الأدبى لنجيب محفوظ، وهو ما رصده فى دراسة مهمة الأديب والمؤرخ مصطفى بيومى، فقد سيطرت عليه وأرغمته على أن يؤرخ لمصر فى أدبه من خلال أغنياتها. 

توفيق الحكيم: أسكن الله أم كلثوم الجنة فى الآخرة.. كما أسكنتنا الجنة فى الدنيا

أم كلثوم وتوفيق الحكيم

بعد أن شارك الكاتب الكبير توفيق الحكيم فى تشييع جنازة أم كلثوم، عاد إلى مكتبه ليكتب فى وداعها ما يليق بها. 

قال الحكيم: روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه قال «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه».. وأم كلثوم كانت هى الإتقان، فقد كانت تؤدى كل قصيدة وأغنية وكل لحن ونغم الأداء الكامل، كانت أم كلثوم تريد أن تغنى لترضى فنها، فإرضاء الفن من أهم صفات الفنان، وهو من أجل ذلك يستميت فى الاتقان، فحققت بذلك كلمة نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه واستحقت حب الله العظيم.. رحم الله أم كلثوم رحمة واسعة وأدخلها فسيح جناته فى الاخرة، كما أدخلت الناس فى الدنيا فى جنات فنها الرائع بالاتقان.

لم يكن الحكيم مستمعًا محترفًا لأم كلثوم فقط، بل كان صديقًا مقربًَا منها، ومن النوادر فى حياة الكاتب الكبير أن أم كلثوم كانت الوحيدة التى أجبرته على أن يتبرع ببعض من ماله الذى كان يعتبره أعظم ما يملكه فى الحياة. 

فى العام ١٩٧٠ زارت أم كلثوم جريدة الأهرام، وكان الهدف هو جمع تبرعات لأبناء المهجرين من مدن القناة. 

من بين من جلست معهم أم كلثوم فى هذه الزيارة كان توفيق الحكيم. 

يومها دار بين الست والكاتب الكبير حوار طريف لم ينقذ الحكيم مما كان يخشاه وهو التبرع فى النهاية. 

أم كلثوم: باختصار كده أنا بجمع تبرعات نهديها عيديات لأبناء المهجرين فى العيد ده.. وكل سنة وأنت طيب. 

الحكيم: ما هو إحنا طيبين؟ مش كده ولا إيه؟ 

أم كلثوم: حتتبرع بكام يا توفيق؟

الحكيم : بس يعنى.. أصل الحكاية. 

أم كلثوم: مهو أنا مش حا اطلع من هنا إلا لما تطلع المحفظة. 

الحكيم: إيه بس لزوم المحفظة؟... أصل الحكاية شوفى يعنى حتبرع بجنيه واحد. 

أم كلثوم: إزاى بس ده؟.. توفيق الحكيم يتبرع بجنيه، هو ده يصح؟

الحكيم: يصح يا ست والله يصح، طيب اتنين جنيه .. مهو مش أكتر من كده؟

ترفض أم كلثوم وتتفاوض مع الحكيم حتى يصل التبرع إلى ٧ جنيهات، يخرجها من محفظته وهو يقول لأم كلثوم: منك لله خلتينا متبرعين على آخر الزمن، فترد عليه أم كلثوم بقولها: أعتقد دى أول مرة تتبرع فيها وهتكون الأخيرة. 

لكن الحكيم يفاجئها: لا.. كان فيه مرة قبل كده.. وكانت على إيدك برضه.. فاكرة من ٢٠ سنة لما اتبرعت بـ٥ جنيه لمعهد الموسيقى العربية؟.. دى كانت أول مرة.

موسى صبرى: وهو يعنى إيه أم كلثوم؟

حتى العام ١٩٥٤ لم يكن الكاتب الصحفى الكبير موسى صبرى قد تحدث مع السيدة أم كلثوم أو قابلها ولو صدفة، فى هذا العام تولى رئاسة تحرير مجلة «الجيل»، ومن بين ما كلفه به مصطفى أمين أن يتواصل مع الست؛ ليسألها كيف عرفت نبأ توقيع الجلاء، وكيف ذهبت إلى الإذاعة، وكيف تحدثت فى الميكروفون تقدم نشيد الجلاء الذى سبق وغنته فى حفلة الجيش. 

فى مذكراته «٥٠ عامًا فى قطار الصحافة، يقول موسى: اتصلت بالسيدة أم كلثوم، وكان هذا الاتصال سببًا فى صدام بيننا». 

يحكى صبرى: اتصلت بها، وروت لى القصة، وكتبتها، وأرسلتها قبل النشر إلى مصطفى أمين لمراجعتها، على أساس أنها صديقته، وراجعها ونشرها فى مجلة الجيل. 

حدث بعد النشر أن كان موسى صبرى فى الإسكندرية يجلس فى بهو فندق سيسل مع كامل الشناوى وفتحى غانم، وفجأة ظهرت أم كلثوم، كانت تقيم فى الفندق واتجهت من المصعد لتحية كامل الشناوى. 

قدم الشناوى موسى صبرى لأم كلثوم، فإذا بها تسلم عليه من طرف أصابعها فى تعال وهى تقول بسخرية: وإيه يعنى؟ 

فقد موسى أعصابه وارتعش، وقال لها فى استعلاء أكثر: وإيه يعنى أم كلثوم؟ 

سألته: وإيه يعنى اللى بتكتبه فى الجيل؟ 

فقال: أنا لا أكتب إلا الحقيقة.

وأدار ظهره لها وكامل الشناوى مرتبك بينهما. 

بحث موسى صبرى عن سبب الطريقة التى عاملته بها أم كلثوم. 

يقول: عرفت أنها غضبت من القصة التى نشرناها عن يوم اتفاقية الجلاء، وطلبت من كامل الشناوى أن يقول لها فى أى مناسبة مقبلة، إننى نشرت نص كلماتها، وإن المنشور عرض على صديقها مصطفى أمين قبل النشر، والحق أننى لم أر فيما نشر مدعاة للغضب، ولكن كامل الشناوى أبلغنى بأن المنشور فهم منه، وكأنها خرجت من بيتها إلى الإذاعة بقيمص النوم، أو هكذا فهمت، ودهشت من هذا الفهم الغريب، ودارت الأيام وأصبحنا صديقين. 

تكرر اللقاء، ففى يوم عيد ميلاد على أمين، اقتصرت الدعوة إلى منزله على أربعة أم كلثوم ومصطفى أمين وموسى صبرى وزوجة على خيرية خيرى، وكان على يحتفظ بتسجيل لأغنية لأم كلثوم لحنها لها عبدالوهاب. 

يحكى موسى: أدرنا التسجيل، وكنت أنا فى حالة طرب شديدة، واستعدت مقاطع من الأغنية عدة مرات، وعبرت عن إعجابى الشديد، وقد كان هذا مسلكًا طبيعيًا منى، انطلقت فيه بكل مشاعرى بمنتهى الصدق، وأعجب هذا أم كلثوم، التى كانت فى قمة السعادة لنجاح اللحن. 

عندما أصدر موسى كتابه «قصة ملك و٤ وزارات» أهداه لها، لتفاجئه فى اليوم التالى باتصال تليفونى، قائلة إنها أمضت طول الليل ساهرة تقرأ كتابه، وقد انقطع التيار الكهربائى، فاستعانت بشمعة أكملت القراءة على ضوئها حتى آخر صفحة، وكان ذلك أروع تحية لموسى من أم كلثوم. 

تواصلت العلاقة، دعته أم كلثوم ليسافر معها إلى أسوان، لكنه لم يتمكن من تلبية الدعوة، وظلت علاقته بها طيبة إلى أن ماتت وكان وقتها فى الخارج. 

لكن حدث ما عكر صفو هذه العلاقة، وكان السبب وهو مصطفى أمين. 

يحكى موسى لنا الحكاية كاملة، يقول: قالت لى آمال فهمى ذات يوم إن أم كلثوم لا تزال تحب مصطفى أمين؟ 

قلت: كيف؟ 

قالت: كنت أروى لها ما حدث فى حفل استقبال حضرته، وإذا بها تسألنى عشرات الأسئلة عن مصطفى أمين الذى كان بالحفل، ماذا كان يرتدى؟ ومع من تكلم؟ وماذا قال؟ 

وبكل البراءة روى موسى هذه القصة لمصطفى أمين، وفوجئ بآمال فهمى تحضر إلى مكتبه فى قمة الحزن، لقد روى مصطفى أمين لأم كلثوم ما قالته له، وعنفتها الست بقسوة. 

أسرع موسى إلى مكتب مصطفى أمين، وسأله: هل قلت لأم كلثوم ما قلته لك؟ وأجاب نعم.. وأنا آسف. 

استطاع موسى تسوية الخلاف بين أم كلثوم وموسى صبرى، لكن ظلت بينهما جفوة لم تنفرج، إلا بعد هزيمة ٦٧، عندما كتب موسى مقاله الشهير «خذوا القدوة من أم كلثوم»، وهو المقال الذى أشاد فيه بها فى حملتها الشهيرة من أجل المجهود الحربى، وكشف لمن لم يكن يعرف أنها كانت قد تبرعت بخمسة آلاف جنيه وبإيراد عشر حفلات للمجهود الحربى دون أن تعلن الخبر، لكن أصبح ما فعلته معروفًا بعد الإعلان عن قائمة التبرعات، ثم إنها قدمت شيكًا بعشرين ألف جنيه إسترلينى كتبرع للمجهود الحربى، كانت قد جاءتها من الكويت مقابل إذاعة تسجيلات لها، ولم تعلن عن ذلك أيضًا، وعرف الناس الخبر بعد أن أعلنه أحد موظفى وزارة الخزانة. 

إحسان عبدالقدوس: يرسب فى اختبار أم كلثوم 

إحسان عبد القدوس وأم كلثوم

تثبت السلطة دائمًا أنها أقوى من كل توقعات الكتاب والمفكرين والأدباء.

فى عام ١٩٥٩ أجرت مجلة الكواكب حوارًا مطولًا مع الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس، الذى كان قد أصبح نجمًا فى عالم الصحافة والفن أيضًا، بعد أن بدأت قصصه ورواياته تتحول إلى أعمال سينمائية. 

فى الحوار الذى أجراه الناقد الفنى الكبير جميل الباجورى سأل إحسان: هل تعتقد أن أم كلثوم يمكن أن تغنى من ألحان عبدالوهاب؟ 

رد إحسان على وجه السرعة: ولا فى المنام.. أم كلثوم ذكية، وتعرف أن فى هذه الخطوة خطورة على شخصيتها وكيانها كمطربة الشرق الأولى، وهى تدافع عن نفسها برفضها الغناء لعبدالوهاب. 

أضاف إحسان لمزيد من التأكيد على وجهة نظره: أم كلثوم تدافع عن استقلالها وكيانها من احتلال عبدالوهاب، لأنها تعرف أن عبدالوهاب ملحن استعمارى، يستعمر الأصوات التى يلحن لها، فلو لحن لها عبدالوهاب لن تستطيع أن تغنى لغيره بعد ذلك، فتضيع وتذهب سمعتها وهيبتها إن غنت لأحد غيره. 

فسر إحسان توقعه لعدم التعاون بين أم كلثوم وعبدالوهاب بأنها مطربة ذكية وشخصيتها قوية.. ولا شىء عندها أعظم من استقلالها الذى ستدافع عنه إلى الأبد.

بعد خمس سنوات فقط من توقع إحسان الحاسم، خيبت أم كلثوم ظنه، وغنت عام ١٩٦٤ من ألحان عبدالوهاب أغنيتها «انت عمرى» التى جاءت بأمر مباشر من الرئيس عبدالناصر، الذى كان يكرمهما فى عيد العلم، وسألهما متى يستمع لصوت أم كلثوم على ألحان عبدالوهاب، ولما كان الرئيس لا يسأل بل يُكلف، امتثلت أم كلثوم لما ظلت ترفضه لسنوات وهو التعاون مع عبدالوهاب. 

خسر إحسان عبدالقدوس فى اختبار التوقع فيما يخص أم كلثوم، لكنه لم يخسر لأنه فشل فى قراءة خريطتها النفسية، ولكن لأن السلطة تدخلت وفرضت ما تريد، وهو ما جعل إحسان يعلق وقتها على ما جرى بقوله: يبدو أن السلطة فى بلادنا أقوى من أى توقع.. وأعمق من أى تفسير.. ويبدو أن ما تريده السلطة يتحقق حتى لو كان يدخل فى باب المستحيلات. 

وكما فعلت أم كلثوم مع آخرين، جلست أمام إحسان عبدالقدوس تحاوره فى مكتبه، ورغم أن الفيديو الذى يوثق للحوار منتشر على صفحات السوشيال ميديا المهتمة بأم كلثوم وإحسان عبدالقدوس معًا، إلا أن أحدًا لم يوثق تاريخ الحوار. 

الحوار الذى جرى بين الكاتب والست كان ضمن برنامج «الميكروفون مع» الذى قدمته الإذاعة المصرية فى شهر رمضان عام ١٩٦٧، وجمعت حلقة اليوم الأول بينهما، وبدأت أم كلثوم تداعب إحسان بأن لديها سلاحًا وأنها ستوجه إليه كل الأسئلة التى تريدها، فعقب إحسان بأن الأسئلة ستكون جميلة كصوتها، إلا أنها قاطعته، ليبدأ الحوار: 

أم كلثوم: لا.. أنا هسألك أسئلة جامدة. 

إحسان: برضه الجامد منك حلو. 

أم كلثوم: انت ليه متحمس لكل حاجة جديدة؟.. وإيه رأيك فى الجيل الجديد؟ وإيه الفرق بينه وبين الجيل القديم؟ 

إحسان: مش بفرق بينهم بشكل ثابت، العمر مش هو اللى بيقيم الناس، فى الجيل القديم فى ناس كويسين وناس منجحوش، والجيل الجديد كده برضه، احنا بنغلط لما بنحكم على الجيل الجديد بظروفنا، فبنصدر أحكام ممكن تكون مش صحيحة، لأننا مش بنراعى ظروفهم، وعايزينهم يعملوا زينا.

أم كلثوم: أنا بشوف الجيل الجديد واعى أكتر من الجيل القديم، الحياة متاحة له بشكل أكبر، جيل صريح ممكن الواحد فيهم يشرب السيجارة وميخبيش على أبوه فى البيت، وده بالنسبة لى أفضل لأنه مش بيكذب.. رأيك إيه؟

إحسان: لأ.. الجيل الجديد فيه شباب واعى وشباب بيتناول الأمور بسطحية زى الجيل القديم، ممكن تلاقى راجل عنده ٦٠ سنة بيفكر أفضل من شاب عنده ٢٥ سنة، لكن الجيل اللى بعد الجيل الجديد، هيلاقى نفسه أكثر تطورًا. 

أم كلثوم: أنا بفضل الجيل الجديد، لأنه واعى وصريح ومتفتح.. حاجة تانية غير الجيل القديم. 

إحسان: وأنا صغير كنت متربى فى بيت جدى، أزهرى متدين، لو بنت صغيرة بصت من الشباك يدينى العصاية ومكنش بيضربها هو عشان يربونى على تقاليدهم، مبقتش موافق على الكلام ده وجيلنا كله رفضه. 

استوقف إحسان أم كلثوم وقال لها: مش معقول أبقى قاعد مع الست ومسمعش منها حاجة. 

اعترضت أم كلثوم وقالت له: أنا النهاردة مذيعة ولست مطربة، لكنه ألح عليها وطلب منها أن تغنى له كوبليه «القمر من فرحنا هينور أكتر» وبعد أن غنت قالت له: سمعت يا أخويا وارتحت نكمل حوارنا بقى. 

أم كلثوم: ما هو الفرق بين كاتب الأدب وكاتب السياسة؟ 

إحسان: أنا لا أتعمد الكتابة فى السياسة، أكتب دائمًا بإنفعال، وأنا طول عمرى غاوى كتابة شعر وزجل وأدب، لكن عندما كانت تقع أحداث سياسية كنت أنفعل بها، وأكتب فيها، وأنا أهتم بالسياسة وأكتب فيها وانفعل بها بنفس انفعالى بالأدب وكتابة الروايات والقصص، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعيش على الأحاسيس فقط، لا بد أن تكون هناك دراسة، وأنا درست الحقوق وقرأت المذاهب السياسية وعشت فى عالم السياسة حتى أستطيع الكتابة فيها وعنها، والأدب أيضًا يحتاج إلى دراسات. 

سألت أم كلثوم إحسان عن أعظم كتاب قرأه. 

فقال لها: القرآن الكريم.. ولا يمكن لأى كاتب أن يبنى نفسه إلا إذا قرأ القرآن كثيرًا، ليس من أجل الإيمان فقط، ولكن ليتعلم موسيقى اللغة. 

محمد حسنين هيكل:أحبك.. ولكن عزة نفسى مانعانى 

أم كلثوم وهيكل

فرضت السيدة أم كلثوم نفسها على محمد حسنين هيكل. 

الكاتب الصحفى السياسى الأول فى مصر لم يستطع تجاهلها، فقد تقاطعت مع عمله ومع حياته الشخصية أيضًا. 

فى نهاية الأربعينيات كان هيكل مكلفًا من قِبل مصطفى أمين رئيس تحرير أخبار اليوم بتغطية حفل زفاف السيدة زينب الوكيل شقيقة صاحبة العصمة حرم مصطفى النحاس باشا زينب الوكيل، كانت الحفلة فى الأريزونا، ولم يكن بين المدعوين أخبار اليوم ولا آخر ساعة، وبينهما وبين النحاس باشا ما صنع كل الحدادين فى العالم، ومع ذلك كان لا بد لآخر ساعة أن تدخل الحفل وأن تلتقط الصور وما كان ينبغى أن يفوتها هذا الحفل الذى كان أكبر حفلات الموسم.

تسلل هيكل إلى داخل الحفل مع الشبان الوفديين الذين كانوا يحرسون مداخل الأريزونا ومخارجه، وجد نفسه أمام النحاس باشا وأمسك قلبه بيده ينتظر ما سوف يفعله، وكانت المفاجأة الكبرى أن ذاكرة النحاس باشا وهى ذاكرة حادة خانته، فلم يتذكر أن هيكل من أبناء أخبار اليوم. 

ويحكى هيكل ما جرى: فجأة قال النحاس باشا لفؤاد باشا سراج الدين ولى: تعالوا نسمع أم كلثوم، وكانت أم كلثوم تغنى أغنية «أهل الهوى يا ليل» أو ستبدأ فى غنائها، وذهبنا إلى الصف الأمامى وجلسنا، استبد الطرب بالنحاس باشا فصاح وهو يعبر بيديه ورجليه وكيانه كله.. إيه، واستطردت أم كلثوم: واتجمعوا يا ليل صحبة وأنا معهم، وصاح النحاس النحاس باشا.. ليه؟، وأجاب: لازم حيطلعوا بيان، وضحكت وابتسم فؤاد باشا وقال: النحاس باشا سعيد الليلة.

لاحظ المصور محمد يوسف الذى كان يصطحب هيكل أن النحاس باشا يصفق لأم كلثوم بحماسة ومال على أذنه، وقال له: ما رأيك فى صورة للنحاس باشا وهو يصفق؟ وافق هيكل، والتقط يوسف الصورة للنحاس بعد استئذانه، وعادا بها إلى أخبار اليوم، وكان فى ذهن هيكل أن يكتب تعليقًا على الصورة: الرجل الذى تصفق له الملايين. 

قال هيكل لعلى أمين: أنا اتفقت مع النحاس باشا على أن الصور هتطلع. 

رد على: لا يمكن لأخبار اليوم التى تعادى النحاس أن تكتب: الرجل الذى تصفق له الملايين. 

فاتفقا على حل وسط، أن يكتبا تحت الصورة: عندما يصفق الرجل الذى اعتاد أن يصفق له الناس. 

وافق على أمين، وبينما كانت الجريدة فى المطبعة جاء مصطفى أمين ولما قرأ التعليق قال: معقول أكتب فى جورنالى: الرجل الذى يصفق له الناس.. لا يمكن.

شطب مصطفى السطر الثانى من التعليق فأصبح هكذا: عندما يصفق «الرجل الذى...».

مرة أخرى وعندما زار هيكل مرشد جماعة الإخوان حسن الهضيبى فى السجن الحربى عام ١٩٥٤، ليجرى معه حوارًا على هامش تورطه فى محاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى المنشية كانت أم كلثوم حاضرة. 

فى استراحة السجن كانت الإدارة تذيع خطبة عبدالناصر فى المنشية، ثم تعقبها بأغنية أم كلثوم التى تقول فى مطلعها «يا جمال يا مثال الوطنية». 

يقول هيكل: راقبت الهضيبى وهو يسمع التسجيل الأول، خطبة جمال عبدالناصر، ثم فجأة الرصاصات الثمانى التى دوت واحدة بعد واحدة، ثم فترة الصمت الرهيب التى قطعها على الفور صوت جمال عبدالناصر ينادى الرجال الأحرار، وكان وجه حسن الهضيبى صامتًا مغلقًا لا تعبر قسماته، وراقبته وهو يسمع التسجيل الذى التقط من إذاعة حفلة نادى ضباط الجيش، وعندما وصلت أم كلثوم إلى المقطع الذى تطلب فيه من الحاضرين أن يغنوا معها، والذى تقول فيه: يا جمال يا مثال الوطنية.. أجمل أعيادنا الوطنية بنجاتك يوم المنشية.. ردوا عليه»، تأملت الهضيبى ولم أكن أتوقع بالطبع أنه سيرد عليها ولكن هذا ما فعله على أى حال. 

وبعد أن أنهى هيكل حواره وهو خارج من السجن سجل انطباعه، قال: كان فى خيالى وأنا أندفع بالسيارة خارج السجن، منظر حسن الهضيبى فى فناء السجن يسمع أم كلثوم ولا يرد عليها بالطبع. 

مرة ثالثة ولكن فى عام ١٩٦٠ وجد هيكل نفسه أمام أم كلثوم، فعندما كتب كامل الشناوى أغنية لأم كلثوم وقال فيها «عندى جمال»، اعترض عبدالناصر عليها، كان ذلك بعد وضع حجر الأساس للسد العالى وحرب السويس والوحدة مع سوريا، تحولت الأغانى الوطنية إلى طوفان، وتحدث عبدالناصر بنفسه مع أم كلثوم وقال لها: أنا ضد ذكر اسمى، فجرى تغيير المقطع. 

أما المرة الرابعة فكانت بعد عدوان ١٩٥٦. 

يقول هيكل عنها: جلست بجوار السيدة أم كلثوم أسمع التجربة الأخيرة، لنشيدها الجديد الذى كتبه بيرم التونسى ووضع لحنه السنباطى، أحسست عندما وصلت إلى الفقرة التى يقول فيها النشيد: ثلاث دول يا بورسعيد متقدمة/ بدبابات وطيارات تملا السما/ الأولة داخلة البلاد مستعمرة/ والتانية بعد الانكسار متجبرة/ والتالتة على العرب متأجرة، أن روح مصر كلها تقمصت كيان هذه السيدة الجالسة بجانبى، أحسست أن مصر نفسها متجسدة فى كيان هذه الفلاحة العظيمة من السنبلاوين، واقفة على شاطئها المنتصر، ترقب موجة البغى تنحسر عن رماله الطاهرة، تشيع غزاتها المندحرين بضحكة ساخرة، أقسى على أسماعهم من صراخ المدافع. 

لم تكن أم كلثوم حاضرة فى المشهد المهنى لهيكل فقط، ولكنها كانت قريبة منه شخصيًا، يصفها بأنها كانت صديقة، لكن ورغم حبه لها، إلا أنه لم يكن يستطع أن يستمع إليها أكثر من ربع ساعة. 

المساحة الشخصية ما بين هيكل وأم كلثوم تظهر فى قصة زواجه. 

تزوج هيكل من السيدة هدايت تيمور فى ٢٧ يناير ١٩٥٥. 

يقول هيكل: يوم زواجى أرادت السيدة أم كلثوم أن تحيى فرحنا، والمشكلة أنه لم يكن هناك احتفال، لأننا نحن الاثنين أنا وهدايت لا نحب حكاية الأفراح، واقترحت هدايت أنه إذا أرادت أم كلثوم أن تهدينا حفلًا، فليكن لصالح جمعية، وهى جمعية النور والأمل، التى كانت هدايت عضوة نشيطة فيها، وكانت تهتم بالفتيات الكفيفات. 

أقيمت الحفلة التى أحيتها أم كلثوم فى سينما راديو، جلس هيكل وزوجته فى الصف الأول، وذهبا إلى الست بعد الوصلة الأولى فى الاستراحة، ودار بينهما هذا الحوار: 

أم كلثوم: اسمع بقى انت قعدت الوصلة بحالها.. أنا عارفاك بتتعذب يا ولد. 

هيكل: أنا مستمتع جدًا. 

أم كلثوم: معلشى علشان خاطرى روح بقى، كفاية عليك الوصلة الأولانية. 

هيكل: حاضر. 

ومن بين الحوارات النادرة والعميقة التى دارت بين هيكل وأم كلثوم، ذلك الحوار الذى كان بعد عودتها من زيارة الأراضى المقدسة، استمع إليهما: 

هيكل: هيه... ماذا قلت وأنت واقفة أمام الروضة الشريفة، قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هل همست فى نجواك بإحدى أغنياتك العابدة الخاشعة، التى تغنيها له وأنت هنا فى القاهرة؟ 

أم كلثوم: اسكت... لم أستطع أن أفتح فمى بكلمة واحدة. 

هيكل: أنت! أنت التى تغنى فى مدحه وفى سيرته أروع ما قيل فى مدحه وفى سيرته من قصائد كالهمزية النبوية ونهج البردة وإلى عرفات الله. 

أم كلثوم: نعم.. نعم.. أنا التى أجد نفسى فى مدحه وسيرته، هنا من على البعد، مثل اللبلب وجدت نفسى فى رحاب قبره وليس على لسانى كلمة واحدة، والعجيب أنى عندما وجدت المدينة المنورة تبدو أمامى قابعة فى أحضان الرمال، ورأيت المآذن والقباب الخضراء، فوق الروضة الشريفة، أحسست بفيض جياش من المشاعر والأحاسيس، وأخذت أتحدث وأعبر عنها فى طلاقة، فلما وصلت إلى الروضة نفسها، ووقفت أمام القبر الطاهر، ران على الصمت وتملكنى السكون. 

هيكل: لم تستطيعى أن تذكرى ولا قصيدة واحدة من أغانيك. 

أم كلثوم: تذكرت أغنية واحدة ولكن بعد أن خرجت؟ 

هيكل: أيها؟ 

أم كلثوم: الأغنية التى أقول فيها «ولما أشوفك يروح منى الكلام وأنساه». 

أجرت أم كلثوم حوارين مع هيكل. 

الأول إذاعى وكان عام ١٩٥٥ ووقتها كان هيكل لا يزال رئيسًا لتحرير آخر ساعة، وسألته يومها عن حركة عدم الانحياز التى انضم إليها عبدالناصر، وشرح لها هيكل الحركة وأهدافها. 

قال لها: حركة عدم الانحياز تعنى أن يكون لنا موقف مستقل حيال كل قضية وفقًا لرأينا. 

لكنها بفطرة الفلاحة المصرية البسيطة سألته: يعنى فى النهاية إحنا هنكون مع مين ضد مين؟ أدرك هيكل أنها لم تقتنع، فأعاد شرحه، لكنها ظلت على موقفها.

الحوار الثانى كان قبل أيام من هزيمة يونيو ١٩٦٧. 

كان هيكل قد كتب فى مقاله «بصراحة» ٢٦ مايو ١٩٦٧، ما يؤكد به دخول مصر فى حرب مع إسرائيل، ويومها وجد السيدة أم كلثوم تدخل عليه مكتبه، ودون كلام عاتبته على حالة الإحباط التى بثها فى مقاله، وقبل أن يجيبها طلبت منه أن يصطحبها إلى مكتب المشير عبدالحكيم عامر لتطمئن منه على حالة الجيش، وبالفعل طمأنها عامر على استعداداتنا، وهو ما لم يكن دقيقًا ولا صحيحًا. 

فى ديسمبر من عام ١٩٦٧ أجرت أم كلثوم الحوار الثانى الذى أذيع فى إذاعة البرنامج العام، وبعيدًا عما يجمع بين الفن والسياسة، تحدثت معه عن القمة العربية فى المغرب ودور الأمم المتحدة فى أزمات الشرق الأوسط. 

فى هذا الحوار سأل هيكل أم كلثوم: كيف استطعت إلغاء الفارق بين الفن والسياسة؟ 

فردت عليه: فى رأيى أن الفن والسياسة توأمان، يعنى مصر لما أرسلت آثار توت عنخ آمون إلى باريس، كان عملًا سياسيًا، بمعنى أن الفرنسيين رأوا حضارتنا وتبادلنا معهم الثقافة فى نفس الوقت. 

ويعلق هيكل على ما قالته الست بقوله: أنا أعتبر السياسة تستعمل الفن كما تستعمل الاقتصاد وأشياء أخرى، هناك توافق بين العمل السياسى والفن، لكن أنت فعلت شيئًا غير هذا، عملت توافق بين العمل السياسى والعمل الفنى؟ 

فتقول أم كلثوم: لا أبدًا.. ليس لى أى دور سياسى، لكن يمكن دور مواطنة مصرية تحب بلدها، وتعبر من خلال فنها عن وطنها. 

فى عام ١٩٦١ كانت أم كلثوم حاضرة إلى جوار هيكل، عندما قرر أن يحتفل بعيد ميلاد نجيب محفوظ الخمسين، دعا أم كلثوم فاستجابت وحضرت وأضافت إلى الاحتفال زخمًا هائلًا، والغريب أن هذه الصورة هى الوحيدة التى تجمع بين نجيب والست. 

ولن يكون غريبًا عليك عندما تعرف أن المقطع الذى كان هيكل يردده لأم كلثوم دائمًا هو قولها فى أغنية «حيرت قلبى معاك» «وعزة نفسى مانعانى».. ليس لأنه يتناسب مع شخصية أم كلثوم فقط.. لكن لأنه يتناسب مع شخصية هيكل أيضًا. 

لا يزال هناك ما هو أغرب، فمن بين أسرار هيكل المهنية، أنه كان يحب أم كلثوم ويقتنع بوجهة نظرها، للدرجة التى جعلته يطلب منها أن تكتب افتتاحيات جريدة الأهرام عدة مرات، وهو ما لم يعلن عنه، ولم يحدد أى افتتاحيات تلك التى كتبتها الست.

مصطفى الفقى: درس دبلوماسى من أم كلثوم إلى مصطفى الفقى

عندما تقترب من الدكتور مصطفى الفقى ستعرف أنه ليس شخصًا واحدًا، بل عدة أشخاص يعيشون إلى جوار بعضهم البعض بهدوء شديد ودون ضجيج. 

من بين الشخصيات التى تعيش داخل الدكتور مصطفى الفقى، تلك الشخصية التى تابع من خلالها حكايات الفن والفنانين، سواء من عرفهم عن قرب أو من خلال تتبع أخبارهم وحكاياتهم، وهو الرجل الذى يهتم بتفاصيل كل شىء، للدرجة التى تجعلك تتساءل معها، من أين يأتى بالوقت لكل ما يفعله؟ 

عندما كنت إلى جواره ونحن نعمل معًا على برنامجه الشهير «سنوات الفرص الضائعة» حكى لى عن المرة الوحيدة التى قابل فيها السيدة أم كلثوم. 

كان ذلك فى صيف العام ١٩٧٣، وقتها كان الفقى يواصل عمله الدبلوماسى فى لندن، وإذا به يجد السفير، وكان وقتها السيد كمال رفعت يكلفه بأن يذهب إلى فندق «الجوغنر» ليصحب السيدة أم كلثوم وزوجها الدكتور حسن الحفناوى إلى مطار «هيثرو» لتوديعهما، بمناسبة فترة علاجها فى لندن. 

يقول الفقى: وقفت فى بهو الفندق حتى نزلت حقائب السفر وأطلت علينا «كوكب الشرق» وزوجها الطبيب الشهير، وقد بدت على وجهها آثار الزمن وبصمات العمر، ولكنها كانت متماسكة ويقظة. 

قدم لها مصطفى الفقى نفسه وأخبرها بدرجته الدبلوماسية، فبدا عليها شىء من عدم الارتياح لأن دبلوماسيًا من درجة صغيرة هو الذى يودعها، ثم انطلقت السيارتان إلى المطار، وأخذت جواز سفرها الدبلوماسى واتجهت به إلى ضابط الجوازات البريطانى. 

قال ضابط الجوازات مصطفى الفقى: الاسم المكتوب فى الجواز هو أم كلثوم فقط، ونحن نريد الاسم ثلاثيًا. 

حصل الفقى من أم كلثوم على بيانات الست كاملة، وكان مما لاحظه أن تاريخ ميلادها المدون فى جواز سفرها هو ١٩١٠. 

ويعلق على ذلك بقوله: أظن أن هناك سنوات عشر مختصرة من ذلك التاريخ. 

وقبل أن تصعد السيدة أم كلثوم إلى الطائرة، سألت الفقى: لماذا لم يكن السفير كمال رفعت فى وداعى؟ 

فقال لها: إنه لا يخرج للمطار مستقبلًا أو مودعًا إلا لرئيس دولة أو رئيس الوزراء أو وزير خارجية، فهو من كبار قيادات ثورة يوليو ونائب سابق لرئيس الوزراء. 

باستياء قالت الست: قل له إن الذى كان يودع أم كلثوم فى مطار القاهرة بتكليف من الرئيس السادات هو الدكتور محمد عبدالقادر حاتم، النائب الأول لرئيس الوزراء.

فتحى غانم.. لأم كلثوم: لماذا تهتمين بصوتك أكثر من اللازم؟ والست ترد: أنا كده

جرت هذه الواقعة فى العام ١٩٦٩. 

كان عمر ياسين التهامى وقتها عشرين عامًا. 

الشاب الذى كان لا يزال يدرس فى المعهد الأزهرى بأسيوط يجلس فى شرفة بيته المواجه للنيل، يستمع إلى السيدة أم كلثوم وهى تغنى رباعيات الخيام: سمعت صوتًا هاتفًا فى السحر نادى من الحان غفاة البشر/ هبوا املأوا كأس الطلى قبل أن تفعم كأس العمر يد القدر. 

وصلت السيدة أم كلثوم إلى كلمة «كف القدر» فلم يشعر ياسين التهامى بنفسه، أغمى عليه، وسقط فى النيل، وعندما أخرجوه سليمًا معافى عرف أن السيدة أم كلثوم بعض من قدره الذى ساقه الله إليه، فسار خلفه ولم يفلته من بين يديه، فكان أن اصطحبه معه فى رحلته، تؤنسه ويأتنس بها. 

فى لياليه ينشد ياسين التهامى بعضًا من القصائد التى غنتها السيدة أم كلثوم، فعندما تقلب فيما قدمه لمريديه يمكنك أن تجد بعضًا من أبيات قصائد نهج البردة، وسلوا قلبى، وثورة الشك، وولد الهدى، ورباعيات الخيام القصيدة التى فتنته فافتتن بها، لكن ياسين الذى يعرف قدر أم كلثوم يؤدى هذه القصائد بطريقته، ولا يسعى إلى تقليدها أبدًا. 

يقول عنها: أنا أعتبر السيدة أم كلثوم وجبة روحية متكاملة، منطقة محرمة لا يجب الاقتراب منها، يمكن أن نسمعها، لكن أن يغنى لها أحد، فهذا أمر لا بد أن نأسف له. 

يعيب التهامى من طرف خفى على من غنوا للسيدة أم كلثوم وهم كثيرون، لا ينتقص من قدرهم، لكنه فى الوقت نفسه لا يتصور أن يضع أحدهم نفسه فى مقارنة يعرف هو مقدمًا أنه سيخسرها ولن يربح منها شيئًا، بل أم كلثوم هى التى تخرج فائزة كل مرة. 

قرر ياسين أن تكون له حالته الخاصة مع أم كلثوم، قرر أن يتعلم منها ويستمتع بأدائها دون أن يقترب إلى القدر الذى يعتبره ليس من حقه، وكأنه يعى أنه من يخترق يحترق. 

كل ما يفعله ياسين كما يقول أنه أحيانا يغنى للسيدة أم كلثوم بينه وبين نفسه، أو وهو جالس بين أصحابه وأحبابه فى جلساته الخاصة، على البعد جعل منها نديمة له، يميل إليها ويستمد منها مددًا وطاقة روحية تعينه. 

وأنا أبحث خلفه على «يوتيوب» وجدته بالفعل جالسًا بين رفاقه وهو يغنى لأم كلثوم أغنيتها الشهيرة «هو صحيح الهوى غلاب». 

بسلطنة ليست غريبة عليه ينشد: هو صحيح/ صحيح/ الهوى غلاب؟/ معرفش أنا/ والهجر قالوا مرار وعذاب/ واليوم بسنة/ جانى الهوى من غير مواعيد/ وكل مادا حلاوته تزيد. 

«هو صحيح الهوى غلاب». 

هى الأغنية التى كتبها لها بيرم التونسى ولحنها الشيخ زكريا أحمد، الذى يعتز به التهامى كثيرًا ويعتبره أحد أعمدة الموسيقى العربية. 

لم يكن ياسين التهامى راغبًا فى نشر هذا المقطع الذى كان يغنى فيه للسيدة أم كلثوم بطريقتها، فقد أدى الأغنية بلحن الشيخ زكريا، وليس بطريقته هو، إلا أنه لم يغضب بعد نشر هذا المقطع، واعتبر الأمر مداعبة لطيفة من بعض أحبابه. 

وعندما تسأله: لماذا كنت ترفض نشر هذا المقطع؟ 

تجده يقول لك: ما بينى وبين الست أم كلثوم سر خاص ولا أريد لأحد أن يطلع عليه. 

لكن من أين دخلت السيدة أم كلثوم إلى ياسين التهامى؟ 

يقول لى: عرفتها من عشق أبى الشيخ تهامى حسنين لها، فقد كان محبًا لصوتها، يخطف نفسه إلى أغنياتها منصتًا ومتأملًا، ووقتها كان يرفض أن يزعجه أحد أو يأخذه منها. 

عشق الشيخ تهامى حسنين السيدة أم كلثوم للدرجة التى أطلق اسمها على إحدى بناته، حيث رزقه الله بولدين وبنتين، محمود وياسين وفاطمة وأم كلثوم. 

وستتعجب من عشق الشيخ تهامى للسيدة أم كلثوم، والتى وصلت به إلى أنه كان يحلو له أن ينادى على ابنته أم كلثوم كثيرًا فقط ليتذوق حلاوة اسم الست على لسانه. 

يطلق ياسين التهامى على السيدة أم كلثوم لقب «ست الرجالة»، وهو توصيف دال جدًا على مكانتها فى قلبه، فنحن أمام رجل تربى ونشأ فى الصعيد، لكنه مع ذلك يضع سيدة فوق كل الرجال تكريما لها، ومعرفة منه بفضلها عليه. 

وقد تسأل: وما هو فضل السيدة أم كلثوم على ياسين التهامى؟ 

يقول لى: تعلمت على يديها الموسيقى، فأنا لم أدرس الموسيقى بشكل علمى أو أكاديمى، لكننى أعتبر السيدة أم كلثوم هى أكاديمتى الكبرى، سماعى لها تدرج من المتعة والوجد، إلى الانتباه إلى ضرورة التعلم منها، فعرفت المقامات على ضفاف صوتها، قبل أن أحاول تعليم نفسى من خلال بعض الكتب التى اجتهدت فى قراءتها وسعيت من خلالها إلى تثقيف نفسى موسيقيًا. 

من اللحظة الأولى التى دخل فيها التهامى إلى عالم أم كلثوم مستمعًا ومعجبًا، وهو يحلم بأن يراها وجهًا لوجه. 

يحكى عنها فى حوار أجرته معه جريدة القاهرة فى سبتمبر ٢٠٠٢. 

يقول: أعشق سماع سيدة الغناء العربى أم كلثوم، ونشأت على انتظار حفلاتها الشهرية، ولم أسعد- لسوء الحظ- بلقائها، والمرة الوحيدة التى سافرت فيها من بلدى أسيوط لحضور حفلتها الخاصة، جاءنى نبأ وفاتها وأنا فى الطريق، وتلقيت فيها العزاء، كما لو كانت من بقية أهلى.

ياسين التهامى: ماذا فعلت «ست الرجالة» بـ«عميد المداحين»؟ 

فى أرشيف الكاتب الصحفى والروائى الكبير فتحى غانم مقال نشرته له مجلة صباح الخير فى العام ١٩٦٠ فتح به حوارًا بينه وبين الست. 

قال فتحى: منذ أكثر من ثلاثين عامًا كانت مغنية بدوية ناشئة تغنى «لى لذة فى ذلتى وخضوعى»، واليوم تغنى أم كلثوم وقد أصبحت مطربة الشرق الأولى أغنية مختلفة تمامًا، إنها تغنى اليوم من كلمات صلاح جاهين «الشعب يزحف زى النور.. الشعب جبال الشعب بحور»، وتغنى أيضًا من كلمات بيرم التونسى «صوت السلام هو اللى فاز واللى حكم»، والفرق شاسع بين المعنى فى الأغنية القديمة والمعنى فى الأغنيتين الجديدتين، وهما آخر ما غنته أم كلثوم، هو تمامًا الفارق بين شعب مصر يوم بدأت أم كلثوم حياتها الفنية وبين شعب مصر والشعوب العربية اليوم. 

ويضيف غانم: حين بدأت أم كلثوم الغناء كانت وسط الفلاحين تغنى فى الموالد، لقوم فى مثل فقرها بملاليم أو قروش معدودة مقابل أو لقاء صوتها الجميل، فلم تكن أم كلثوم وقتئذ فلتة ولا معجزة إلهية حباها الله للشرق، كانت مجرد صوت جميل مثل عشرات الأصوات فى الفلاحين الذين طحنتهم البلهارسيا والأمراض المتفشية بين الفلاحين. 

ويؤكد فتحى المعنى الذى يريده: لم تكن أم كلثوم فى عام ١٩١٤ تغنى للأمراء والأعيان، بل غنت فى الموالد على طبيعتها بلا قواعد أو إيحاءات، وكان الفلاحون يطربون لسماعها، وانتبه الأغنياء لصوت أم كلثوم فاستدعاها رسمى باشا، محافظ دمياط، للغناء وأعجب الحاضرون بصوتها ونصحها أحد الأعيان، وهو توفيق بك زاهر بأن مجدها ليس إلا فى القاهرة، وكان أول ما غنت فى القاهرة قصيدة: مولاى كتبت رحمة الناس عليك.. فضلًا وكرمًا، وما إن سمعها الناس حتى ارتفع صوت أحد السامعين، قائلًا: كتب الغلب علينا يا أختى.. فضحك الناس وبكت أم كلثوم.

ودخل فتحى بعد ذلك فى اشتباك واضح مع أم كلثوم، مهد له بقوله: صاحبة الموهبة الفذة وابنه الشعب الحقيقى من الفلاحين الفقراء أولئك الذين اكتشفوها وكانوا أول من منحها حبه، وهى تعلم أن جمهورها يهتم قبل كل شىء بشخصها هى، ممثلًا فى صوتها قبل أن يهتم بكلماتها أو بألحانها، لذلك فرضت أم كلثوم صوتها على اللحن، كما كان لها الحق الأول والأخير فى اختيار الكلمات التى تغنيها وتعديلها، مهما كان الشاعر الذى يؤلف أغانيها، شوقى أو رامى أو بيرم التونسى. 

لكن رغم كل هذا الإعجاب إلا أن فتحى غانم عاتب أم كلثوم؛ لأن اهتمامها بصوتها أكثر من اللازم جعلها تبتعد عن المشاركة فى المسرح الغنائى ومحاولة خلق الأوبرا المصرية. 

فى العدد التالى ردت أم كلثوم على فتحى غانم بمقال قالت فيه: إن لى رأيًا فيما كان عليه الغناء المسرحى فى مصر، إنه لم يكن أوبرا ولا أوبريتا، ولا غناء مسرحيًا بالمعنى المفهوم، بل كان مجرد أغان فوق المسرح، ولا تنسجم مع القصة المسرحية، بل هى تقطع سباق القصة، وتقف المغنية أو المغنى ليؤديا دوريهما، فتصبح الأغنية فى جانب والموسيقى فى جانب آخر، والقصة نفسها فى جانب ثالث، ولا يربط بين هذه العناصر الثلاثة: الأغنية والقصة والموسيقى أى صلة.

وتابعت أم كلثوم: لم أرض عن هذا الأسلوب فى الغناء، فإما أن تكون لدينا أوبرا وأوبريت بطريقة فنية سليمة، أو أمتنع عن الظهور على المسرح، لا أغنى خلال مسرحية أعتقد أن الغناء لا يتفق معها. 

وأضافت أم كلثوم: نحن نستطيع بالموسيقى الشرقية والآلات الشرقية أن نقدم أوبرا حقيقية صادرة من تراثنا وحياتنا وتبهر العالم كله، بالارتباط بالتراث الموسيقى القديم وإعداد أصوات غنائية مدربة والمحافظة على المقامات الموسيقية الخاصة بنا نحن أبناء الشرق بعيدًا عن الآلات التى تصنع بالخارج. 

وتؤكد أم كلثوم: أنا غامرت بالمال يوم قررت أن أغنى المعانى الدينية والوطنية، وقد نصحنى الكثيرون بأن أعدل عن هذا النوع من الغناء، وكانوا يظنون أن الجمهور لا يهتم إلا بالأغانى العاطفية أو الخفيفة، لكنى صممت على تقديم أشعار شوقى، وكلها معان بعيدة عن تعاليلى يا بطة، وتعالى يا شاطر نروح القناطر. 

وختمت أم كلثوم ردها على فتحى غانم بقولها: ما قدمته لجمهورى كان يحمل قيمًا دينية ووطنية، وكان من الممكن ألا أنجح فى إقناع الجمهور بأن يستمع لمثل هذه الأغانى، لكنى نجحت فى ذلك، وهذا هو أعظم انتصار وإثبات وجود لى فى عالم الغناء.