الجمعة 09 مايو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صراع الفقه والزمن.. العوا والهلالى.. حدود الله وحدود الاجتهاد

الدكتور سعد الدين
الدكتور سعد الدين الهلالي

- الاجتهاد لا يُعد خروجًا عن الدين

- تكفير العقول خطر أكبر من اختلاف الآراء

- الفكر الإسلامى لن يُبعث من جديد عبر التكفير

فى حوار انفعالى غلبت عليه نبرة العاطفة على المنهج العلمى الرصين، على موقع ذات مصر، وجَّه الدكتور محمد سليم العوا هجومًا شديدًا على الدكتور سعد الدين الهلالى، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، على خلفية آرائه المتعلقة بقوانين المواريث وإمكانية إعادة النظر فيها فى ضوء ما يراه بعض المعاصرين من عدالة ومساواة. لم يكتف العوا بانتقاد الفكرة، بل تجاوزها إلى إصدار أحكام دينية خطيرة، وصلت إلى حد اتهام الهلالى بـ«الخروج عن الملة»، مطالبًا بإحالته إلى مجلس تأديب جامعى، بل وذهب أبعد من ذلك حين دعا إلى توبته العلنية من على القنوات الفضائية.

هذا النوع من الخطاب، الذى يصادر الاجتهاد الفقهى ويضع أصحابه فى مرمى التكفير والإقصاء، يفتح الباب أمام أسئلة جوهرية لا يمكن تجاهلها: من يملك سلطة تأويل النصوص الدينية؟ وهل اجتهادات العلماء فى الفقه- الذى هو بطبيعته ظنى متغير- يجعلهم عرضة للمحاسبة الدينية والمؤسسية متى خالفوا المألوف؟ إن ما طرحه الهلالى لا ينطوى على إنكار لعقيدة أو مساس بجوهر الإسلام، بل يمثل رؤية فقهية قابلة للنقاش، تستند إلى فهم اجتماعى معاصر للعدالة، وقد طُرحت مثلها من قبل فى سياقات علمية وازنة داخل الفقه الإسلامى نفسه.

إن التعامل مع أى رأى فقهى غير تقليدى باعتباره «هرطقة» أو «خروجًا عن الملة» يعكس أزمة عميقة فى بنية الخطاب الدينى التقليدى، الذى يميل إلى تقديس الفهم الموروث ورفض كل محاولة للتجديد أو المراجعة. وإذا كانت النصوص قطعية الثبوت والدلالة محدودة فى الشريعة، فإن أغلب ما يُسمى «أحكامًا شرعية» هو فى الحقيقة اجتهادات بشرية خاضعة لتغير الزمان والمكان. فكيف يمكن أن تُغلق أبواب الاجتهاد اليوم بينما تُفتح أبواب الاتهام والوصاية على العقول باسم الدين؟

فى القرن الحادى والعشرين لا يمكن أن يُحاسَب أستاذ جامعى على اجتهاد فقهى لم يُكفّر أحدًا، ولم ينكر أركان الدين، بل طرح رؤية إصلاحية تنبع من داخل المؤسسة الأزهرية نفسها. إن خطر الخطاب الذى تبناه العوا لا يكمن فقط فى إقصاء المختلف، بل فى ترسيخ مناخ فكرى طارد للحوار والتعدد، يقف سدًا منيعًا أمام أى تجديد حقيقى للخطاب الدينى. التنوير لا يبدأ من إعادة إنتاج القديم، بل من الجرأة على مساءلته بعقل مفتوح وروح مسئولة.

حين يتحول الفقه إلى أداة قمع لا تفكير

حين يتحول الفقه من أداة لفهم الواقع ومواكبته إلى أداة لقمع التفكير والاجتهاد، فإن الخطر لا يكون على الفكر الدينى فحسب، بل على تطور المجتمع بأسره. ما لم يدركه الدكتور محمد سليم العوا، أو ربما تجاهله عمدًا، هو أن ما طرحه الدكتور سعد الدين الهلالى لا يندرج ضمن سياق الخروج عن الملة أو إنكار القطعيات، بل يدخل بوضوح فى إطار الاجتهاد الفقهى المشروع. اجتهاد يستند إلى قاعدة أصولية معتبرة فى الفكر الإسلامى، وهى أن «الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والنيات والعوائد»، وهى قاعدة رسّخها كبار علماء الأمة وأقروها كجزء من مرونة الشريعة وقدرتها على التجدد.

الهلالى لم يُنكر الآيات القرآنية المتعلقة بالميراث، ولم يُطالب بإسقاطها أو استبدالها، بل ناقش إمكانية إعادة النظر فى آليات توزيع التركة فى ضوء تطور الأدوار الاجتماعية للمرأة وتغير بنية المجتمعات الحديثة. فالمسألة ليست فى النصوص ذاتها، بل فى كيفية تنزيلها على الواقع المعاش. وقد أشار الهلالى إلى أن المجتمع إذا توافقت أغلبيته على مبدأ المساواة فى الإرث، فمن الممكن فقهيًا أن تُبنى أنظمة قانونية جديدة تعبّر عن هذا التوافق ضمن إطار المصلحة العامة، من دون مساس بثوابت العقيدة أو أركان الإسلام.

هذه الفكرة ليست بدعة ولا خروجًا عن تراث الفقه الإسلامى، بل لها جذورها فى اجتهادات عدد من العلماء المسلمين، لا سيما فى المدرسة المالكية التى عُرفت برحابة النظر إلى العوائد والتقاليد الاجتماعية. من هؤلاء نذكر الفقيه المغربى ابن عرضون، الذى طرح اجتهادات تتعلّق بحقوق النساء العاملات ومساهمتهن فى الأسرة، وهو ما يفتح الباب لفهم أكثر عدالة وتوازنًا فى مسألة التوريث، بعيدًا عن القوالب الجامدة التى لا تراعى تغير الزمن. كذلك تعامل الفقهاء فى بعض السياقات المغاربية مع مسألة الإرث بوصفها مجالًا للتقدير فى ضوء المصلحة، وليس حقلًا مغلقًا لا يُمس.

فهل يُعدّ هذا الطرح العقلانى والمبنى على قواعد أصولية ووقائع تاريخية خروجًا عن الملة؟ أم أنه محاولة ناضجة لاستعادة وظيفة العقل المسلم فى الاجتهاد، وربط النص بالواقع، لا لفك الارتباط به، بل لفهمه على نحو يعيد إليه روحه العادلة؟ إن الخطر الحقيقى لا يكمن فى اجتهاد الهلالى، بل فى محاولات إسكات أصوات التجديد والتطوير باسم الدفاع عن الدين، وهو فى جوهره دفاع عن سلطة تقليدية باتت عاجزة عن مخاطبة العصر ومتغيراته.

فقه المقاصد لا فقه النصوص الجامدة

فى قلب الفقه الإسلامى الناضج تقف «مقاصد الشريعة» باعتبارها البوصلة الأخلاقية والعملية التى تهدف إلى تحقيق العدل والرحمة والمصلحة. لكن حين يُصرّ البعض على قراءة النصوص الدينية بمنطق الحرفية الجامدة، فإنهم يُفرغون الشريعة من بُعدها الإنسانى، ويحيلونها إلى منظومة آلية لا تراعى تطور الإنسان ولا تحولات الزمن. الشريعة لم تُنزَّل لتقييد الإنسان أو تجميده فى سياق تاريخى بعينه، بل لترافقه فى مسيرة تطوره، وتوفّر له أُطُرًا تنظيمية مرنة تحفظ مصالحه وتُعلى من كرامته.

يبدو أن الدكتور محمد سليم العوا، فى خضم اندفاعه العاطفى ضد الدكتور سعد الدين الهلالى، قد وقع فى خلطٍ جوهرى بين «الثوابت العقدية» التى لا تقبل التبديل، و«الأحكام الاجتهادية» التى بطبيعتها خاضعة للنقاش وإعادة النظر. هذا الخلط ليس جديدًا، بل هو سمة بارزة فى خطاب الإسلام السياسى المحافظ، الذى يتعامل مع كل فتوى أو رأى فقهى كأنه نص مقدس لا يُمس، متجاهلًا حقيقة أن التاريخ الإسلامى حافل باختلافات فقهية واسعة، بل أحيانًا متناقضة، عبّرت عن وعى مرن بالواقع لا عن جمود مذهبى.

إن أحكام المواريث الواردة فى القرآن الكريم جاءت فى سياق اجتماعى محدد، كان فيه الرجل يتحمّل العبء المالى الأكبر بوصفه العائل الوحيد للأسرة، وهو ما انعكس فى نظام توزيع الإرث حينها. لكننا اليوم أمام واقع مغاير تمامًا، تلعب فيه المرأة دورًا محوريًا فى إعالة الأسرة والعمل والكسب والتعليم، بل تتفوق أحيانًا على الرجل فى المسئوليات الاجتماعية والاقتصادية. وهذا التحول الجذرى يقتضى مراجعة فقهية رشيدة لا تلغى النصوص، بل تعيد قراءتها فى ضوء مقاصدها الكبرى. الاجتهاد فى هذا السياق لا يُعد خروجًا عن الدين، بل وفاءً لروحه. فإعادة النظر فى آليات تقسيم الإرث لا تعنى إنكارًا للقرآن، بل سعيًا لتفعيل مقاصده فى العدل والرحمة والمساواة الواقعية، لا النظرية. إن الفقه الذى يتجاهل تغير الواقع يُصبح عبئًا على الدين ذاته، ويحوّل الشريعة من منظومة حية إلى أحكام متحجرة تفقد قدرتها على مخاطبة الإنسان الحديث. ومن هنا، فإن ما يدعو إليه الهلالى ليس إلا محاولة عقلانية لإحياء فقه المقاصد فى مواجهة فقه النصوص الجامدة.

مَنْ يدير المعركة ضد التنوير؟

ليست المشكلة الكبرى فى أن يختلف أحد العلماء مع رأى فقهى، فهذا أمر طبيعى ومطلوب فى تقاليد الاجتهاد الإسلامى، لكن الخطير حقًا هو أن يُحمل هذا الخلاف إلى ساحة التكفير. ما قاله الدكتور محمد سليم العوا بشأن «خروج الدكتور سعد الدين الهلالى عن الملة» لا يمكن اعتباره إلا منزلقًا خطيرًا، يتنافى مع أخلاقيات الحوار العلمى، ولا يليق بعالم يُفترض فيه الوقار والرزانة والانضباط المعرفى. بل ويتناقض مع ما يدّعيه العوا من انتماء لتيار «الإسلام الوسطى»، الذى يُفترض أن يرفض التكفير ويُعلى من قيمة النقاش والاجتهاد.

إن اتهام شخص بالكفر بسبب رأى اجتهادى يندرج ضمن المدرسة الفقهية التى ينتمى إليها، هو فى جوهره تدمير لمنطق الاجتهاد ذاته. فالفقه لم يكن يومًا رأيًا واحدًا، بل تَشكّل عبر القرون من مدارس متعددة واختلافات واسعة، قامت على جدلية النص والعقل والواقع. وإذا تحوّل كل اجتهاد مخالف إلى ذريعة للتكفير، فإننا نعود إلى عصور الانغلاق التى استُبيحت فيها الدماء والأعراض باسم الدين.

الخطورة لا تتوقف عند البُعد الدينى فقط، بل تمتد إلى المجال الأخلاقى والسياسى. فالتكفير فى هذا السياق لا يؤدى فقط إلى اغتيال فكرى للمخالف، بل يفتح أبواب التحريض عليه، ويمنح المتعصبين والمتحمسين غطاءً دينيًا لرفضه وربما الاعتداء عليه. وقد علمتنا التجربة التاريخية أن خطاب التكفير، حتى حين يصدر عن شخصيات أكاديمية، هو أول الطريق نحو العنف المجتمعى وتخريب المجال العام.

من حق الدكتور العوا أن يختلف مع رأى الدكتور الهلالى، بل وأن يرد عليه ويقدّم ما يراه من أدلة، لكن ليس من حقه- ولا من حق أحد- أن ينصب نفسه حَكمًا على إيمان الناس، ويمنح أو يسحب صكوك الإسلام منهم. ما يحتاجه الخطاب الدينى فى هذا العصر هو تحرير العقول لا تقييدها، وتشجيع التفكير لا قمعه. فالفكر الإسلامى لن يُبعث من جديد عبر التكفير، بل عبر الإحياء النقدى والاجتهاد الشجاع والانفتاح على العصر.

لم يقتصر الدكتور محمد سليم العوا فى حديثه على توجيه اتهام التكفير الصريح للدكتور سعد الدين الهلالى، بل مضى خطوة أبعد حين لمّح إلى أن ما يطرحه الهلالى «لا يمكن أن يصدر عن مسلم عادى»، وأن وراءه «وحيًا خارجيًا»، على حد تعبيره. هذا النوع من الخطاب لا يدخل فى نطاق النقد العلمى أو الرد المعرفى، بل ينتمى إلى أسلوب التشويه المعنوى والتخوين السياسى، حيث يُراد إقناع الناس بأن المختلف فى الرأى ليس فقط منحرفًا فكريًا، بل عدوًا خارجيًا متخفّيًا.

هذا النمط من الخطاب يعكس أزمة أعمق، وهى العجز عن التعامل مع الاجتهادات الجديدة بلغة العقل والحجة، واللجوء بدلًا من ذلك إلى سلاح الشيطنة الذى طالما استخدمته الحركات المعادية للتنوير فى وجه أى دعوة للتحديث أو التفكير النقدى. وهو خطاب يُقصى المخالف ويجعل منه «خصمًا للإسلام» لا مجرد صاحب رأى فقهى. وهنا لا يعود الخلاف حول فكرة أو اجتهاد، بل يتحول إلى معركة وجودية ضد من يُفترض أنهم أبناء نفس الدائرة الإسلامية.

والمفارقة العجيبة أن الدكتور العوا نفسه لم يكن بعيدًا عن دوائر الجدل، فقد دافع مرارًا عن جماعات الإسلام السياسى، وساهم فى تبرير وجودها داخل الدولة، رغم ما ألحقته تلك الجماعات من أضرار بالمؤسسات والمجتمع والنسيج الوطنى. كما تبنى فى مناسبات عديدة مواقف محافظة فى قضايا المرأة وحرية الفكر، مما يجعل حديثه عن «خطر» التنويريين نوعًا من الانتقائية التى تكشف عن موقف مبدئى مناهض لأى خطاب إصلاحى، لا مجرد خلاف مع الهلالى أو غيره.

إن ما يجرى هنا يتجاوز الدكتور الهلالى بصفته الشخصية، ويتعلق بمسألة أعمق: مَن الذى يملك حق التجديد فى الإسلام؟ ومَن يُعطى لنفسه سلطة تحديد مَن «ينتمى» أو «لا ينتمى»؟ معركة التجديد ليست معركة بين أفراد، بل هى صراع بين رؤيتين: واحدة تسعى إلى تحرير الفقه من إساره التاريخى وقراءاته الجامدة، وأخرى تصرّ على حراسة التراث بوصفه مقدّسًا نهائيًا لا يُمَس. وفى هذه المعركة، من المؤسف أن يصطف بعض المفكرين، ممن يُفترض فيهم الانفتاح، فى خندق مقاومة النور باسم الحفاظ على الدين.

ختامًا، يجب التأكيد على أن لا قداسة تعلو فوق قداسة النص القرآنى ذاته، وأن كل ما سواه، من تأويلات واجتهادات وآراء فقهية، يظل فى دائرة الفكر البشرى الذى يقبل النقاش والأخذ والرد. الفقهاء بشرٌ يصيبون ويخطئون، ويختلفون باختلاف السياقات والعصور، ولا يجوز أبدًا التعامل مع آرائهم وكأنها وحى لا يُمس. فالإسلام نفسه فتح الباب واسعًا للاجتهاد، وأعلت مقاصده الكبرى مثل العدل والرحمة والحرية والكرامة فوق التفاصيل المتغيرة.

إن الفكر الدينى الذى يغلق أبواب الاجتهاد، ويرتعب من طرح الأسئلة، ويخلط بين النص المقدس والرأى البشرى، هو فكر ماضٍ فى طريق الجمود والانكماش. هذا النوع من الفكر يعجز عن مواكبة تطورات الواقع، ولا يملك أدوات التفاعل مع متغيرات الحياة الحديثة، فينزلق إلى منطق التخويف والتخوين بدلًا من التحاور والتعقل.

ما طرحه الدكتور سعد الدين الهلالى هو اجتهاد علمى قابل للنقاش، وليس جريمة فكرية تستحق التكفير أو الملاحقة التأديبية. الرجل لم ينكر نصًا، ولم يطعن فى العقيدة، بل سعى إلى قراءة جديدة لمنظومة الميراث فى ضوء متغيرات العصر، وهذا فى حد ذاته دليل على حيوية الفكر الإسلامى حين يُفهم فى سياق مقاصده الكبرى، لا فى حدود قراءاته الجامدة.

إذا كان هناك من يعترض على ما قاله الهلالى، فليكن الاعتراض بالحجة، وبالمناظرة العلمية المفتوحة، لا بمنطق الإقصاء والتخويف. إن تحويل الخلاف الفقهى إلى قضية تكفير ومحاكمة تأديبية هو تهديد مباشر لحرية الفكر، وقتل صريح لروح الاجتهاد التى كانت دومًا ركنًا أصيلًا فى تراثنا الإسلامى.

ملاحظة ختامية:

هذا الرد لا يعنى تبنى كل آراء الدكتور سعد الدين الهلالى، لكنه دفاع عن حقه فى الاجتهاد. فالعقل الذى يخشى من اجتهاد فقيه هو عقل مأزوم، يرى فى كل سؤال تهديدًا، وفى كل رأى مغاير مؤامرة، وهذا أخطر ما يواجهه الإسلام اليوم.