الثلاثاء 03 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

راهب الكتابة.. فصول من مذكرات محمد سلماوى

حرف

- حين يموت لك حبيب يموت جزء منك ويذهب معه

- ما إن صعدت روحها إلى بارئها حتى أسلمت شمس المغيب الوردية المكان لمساء حزين

- فاروق حسنى كان يرى أن إحدى آفات العمل الثقافى هى أن من يديرونه هم الموظفون الحكوميون وليسوا المثقفين

- كنت قد أصدرت قبل الثورة بأسابيع قليلة روايتى «أجنحة الفراشة» التى انتهت أحداثها بقيام ثورة كبرى فى ميدان التحرير

- الرواية سريعًا ما ذاع صيتها خارج مصر والوطن العربى واتصلت بى دار جونتى وهى واحدة من كبريات دور النشر الإيطالية طالبة حق ترجمة الرواية إلى الإيطالية

بين المسرح والرواية والصحافة، رسم الكاتب الكبير محمد سلماوى مسيرة إبداعية استثنائية، جعلته أحد أبرز الأصوات الثقافية فى مصر والعالم العربى، فلم يكن مجرد كاتب، بل ظاهرة فكرية وفنية شاملة، جمعت بين العمق الفكرى والجرأة فى الطرح، والالتزام بقضايا الوطن والإنسان.

وفى عيد ميلاده الثمانين تنشر «حرف» فصولًا من مذكرات محمد سلماوى، الصادرة فى جزءين الأول يحمل عنوان «يومًا أو بعض يوم»، والثانى بعنوان «العصف والريحان».

ويروى «سلماوى» فى المذكرات قصته مع الحياة من طفولته إلى نبوغه الأدبى ومعاصرته عمالقة الفكر، وخوضه معاركه الصحفية إلى مواقفه الشجاعة كرئيس لاتحاد الكتاب.

اليتم هو رحيل الأم 

سيظل يوم الإثنين ١٤ يونيو عام ١٩٩٣ منطبعًا فى ذهنى مثل الختم الحديدى الساخن الذى تكوى به الأبقار كعلامة ملكية لا تزول مع الزمن؛ فهذا هو اليوم الحزين الذى رحلت فيه أمى بعد معاناة مع المرض دامت عامًا كاملًا. يقولون إن الإنسان لا يشعر باليتم إلا برحيل أمه، وسواء كان فى مرحلة الطفولة أو النضج فالشعور بالفقد واحد، واليتم فى الحالتين واحد، وهو اليتم الحق الذى يشعر فيه الإنسان بأنه أصبح وحيدًا فى هذه الدنيا. 

فى ذلك اليوم كان عندى لقاء بالتليفزيون تقدمه السيدة سميحة غالب، أرملة الشاعر صلاح عبدالصبور، والمسئولة وقتها عن البرامج الثقافية فى التليفزيون المصرى. كان لقاء على الهواء فى شكل حوار شامل حول أعمالى المسرحية، تتخلله مشاهد من تلك الأعمال. لكن حالة والدتى الصحية كانت قد ساءت، وتوجسنا خيفة أنا وأشقائى، لذلك فكرت فى الاعتذار عن البرنامج تحت ضغط الظروف. فلم أكن أتصور أنه بعد أن أمضيت سنة كاملة إلى جوار أمى أنتقل معها من مستشفى إلى مستشفى، وأتابع مع الأطباء تطورات حالتها صعودًا وهبوطًا، وأباشر مع ممرضات كل مستشفى تناولها العلاج فى مواعيده المحددة وتغيير أكياس المحاليل كلما فرغت أن ترحل فى النهاية وأنا بعيد عن سريرها. لكن شقيقتى أمينة قالت لى: وبماذا سيفيد وجودك إذا ما جاءت الساعة؟ إنها فى غيبوبة كاملة، وسواء كنت إلى جوارها أو لم تكن، فالأمر واحد بالنسبة إليها. 

نعم كانت فى غيبوبة عميقة لكنى كنت موقنًا أنها تشعر بوجودى إلى جوارها، وتدرك ما يجرى حولها، على الرغم من عدم قدرتها على التواصل معنا. كانت قد مرت سنة كاملة منذ اتصلت بى شقيقتى التى كانت مع والدتى فى المصيف بالإسكندرية لتخبرنى بأن أمى أصيبت بنزيف حاد فى المرىء، ونقلت على عجل إلى المستشفى. كان الوقت مساءً ولم أنتظر حضور السائق فى الصباح لأسافر إليها، ولم أكن أستطيع القيادة بنفسى إلى الإسكندرية وأنا فى حالة القلق والتوتر التى سيطرت علىَّ، لذلك قررت أن أستقل إحدى حافلات السفر العاملة بين القاهرة والإسكندرية، وتصورت أننى أستطيع أن أحصل على قسط من الراحة أثناء الرحلة، لكنى ظللت متنبهًَا طوال الساعات الثلاث التى قطعتها السيارة جلست فى مقعدى إلى جوار النافذة أرقب القمر بدرًا فى السماء، وقد أخذت السحب فى تلك الليلة الصيفية تتكالب عليه محاولة حجبه ووأد نوره الفضى الرقيق كانت بعض السحب سوداء داكنة، أخذت تتعقب القمر حتى تخفيه تمامًا عن الأنظار، لكنها سرعان ما كانت تزول وتنقشع ويعود القمر ليبزغ منتصرًا بأشعته المضيئة فينير السماء من جديد، ظللت أتابع ظهور القمر بعد اختفائه فأتفاءل بمصير والدتى. تعلقت بهذا المثل كالغريق الذى يتعلق بقشة صغيرة تمثل له الأمل فى النجاة، وتطلعت لأن أصل إلى الإسكندرية فى الصباح فأجد وجه والدتى جميلًا مضيئًا، كالقمر وقد انقشعت عنه سحب المصير الأسود الذى كنت أخشاه. 

محمد سلماوى مع والدته فى حفل أم كلثوم بسينما قصر النيل

وتحقق الأمل ووصلت إلى المستشفى لأجد والدتى مشرقة كما عهدتها، وإن اعتلت وجهها بعض علامات الإعياء. كان كيس الدم معلقًا على يمينها يقطر فى أوردتها دمًا ليس، دمها، وعلى اليسار كانت محاليل التغذية. قالت لى بمجرد أن رأتنى:

- لماذا تركت عملك وأتيت؟ 

كنت وقتها مدير تحرير الأهرام ويكلى، وتصورت أننى سأغيب يومًا أو اثنين لأطمئن على والدتى وأعود، هكذا أبلغتهم تلفونيًا فى اليوم التالى لوصولى إلى الإسكندرية، لكن الأيام امتدت لأسابيع ولم تتمكن والدتى فى النهاية من العودة إلى القاهرة إلا بسيارة إسعاف. وفى القاهرة امتدت الأسابيع شهورًا، نسيت خلالها كل التزاماتى ومكثت إلى جوارها بالمستشفى لرعايتها أنا وإخوتى كى نعوض آفة مستشفياتنا التى تفخر بأطبائها المقتدرين لكنها تئن من تدنى مستوى التمريض. كنا نتقاسم الساعات نوبات بيننا طوال النهار والليل. 

محمد سلماوى رضيعًا

وفى الصباح الباكر لأحد الأيام وصلت إلى غرفتها فوجدتها ما زالت نائمة وقفت عند قدم سريرها، محاولًا قراءة التقرير الطبى المعلق على حافة السرير. حين استيقظت ظلت تنظر إلىّ برهة من دون أن تتكلم، ثم قالت بصوت خافت وكأنها تتأمل شريط حياتها وتحدث نفسها: 

- إنت أكثر إنسان حبيته فى حياتى. 

ومع الوقت بدأت حالتها تسوء مما استلزم رعاية زائدة قررت أن أنقطع لها تمامًا، وما بين مباشرة حالتها عن قرب، والاتصال بالأطباء لمناقشتهم فى تطورات مرضها، واستطلاع آراء أطباء آخرين غير من يشرفون عليها، والتأكد طوال الوقت من قيام الممرضات بعملهن وإعطائها الأدوية فى مواعيدها، كانت ساعات اليوم تنتهى من دون أن أتمكن من مباشرة أى عمل آخر، وحين تمكنت بعد فترة من الذهاب إلى مكتبى، وجدت أنه تم تعيين مدير تحرير آخر للجريدة وأننى أصبحت مستشارًا للتحرير، وعلى الرغم من مفاجأتى بالأمر فقد التمست العذر للجميع وقمت على الفور بتسليم مفاتيح مكتبى، وعدت إلى مكانى من جديد بجوار والدتى المريضة من دون ندم ولا غضب. 

كان يتهلل وجهها، كلما دخلت عليها، كنت بدورى أحدثها فى مختلف الموضوعات وأحكى لها ما قد يهمها من أخبار، حتى أُبقى على صلتها بالحياة خارج جدران المستشفى، كانت الزيارة ممنوعة عنها خشية أن تنتقل إليها أى عدوى فى ضعفها هذا وقلة مناعتها، وكانت هى مرتاحة لمنع الزيارة فلم تكن ترغب فى أن يراها أصدقاؤها الذين كانوا يعرفونها زهرة متفتحة وعنوانًا للإقبال على الحياة - وقد فقدت أكثر من ١٥ كيلوجرامًا من وزنها وشحب لونها وصارت تحتاج إلى المساعدة فى النهوض والرقاد. 

محمد سلماوى فى السنة الأولى من عمره

كانت صديقاتها دائمات السؤال عنها، فكنت أخبرها بذلك أولًا بأول. وكانت زميلاتها بنادى الروتارى يحرصن على إحاطتها بتطورات بعض المشروعات الخيرية التى بدأتها معهن، فكانت تسعد بهذه الأخبار التى كانت تملأ عليها حياتها وقد أصبحت أسيرة داخل جدران غرفتها بالمستشفى. وفى أحد الأيام قلت لها إن الفنان صلاح طاهر يسأل عنها، فقد كانت تربطنا به علاقة صداقة ممتدة، وكان يشجعها دائمًا على الاستمرار فى الرسم الذى تهواه يومها روت لى أنها حلمت قبل أيام بأنها كانت فى مناسبة اجتماعية وكان صلاح طاهر هو الذى سيوصلها إلى منزلها، لكنه اعتذر ومضى وحده قائلًا إن لديه موعد طائرة لا يستطيع أن يتأخر عنه، فلم تعرف ماذا تفعل إلى أن ظهر لها فجأة والدها المتوفى فاحتضنها قائلًا: 

- أنا إللى حاروَّحِك. 

بعد ذلك دخلت فى غيبوبة الكبد اللعينة التى كنا نأمل أنا وإخوتى أن تخرج منها بعد فترة كنا فى كل صباح ننتظر أن ندخل عليها فنجدها قد أفاقت وعادت تفتح عينيها وتتحدث إلينا، بيد أن الغيبوبة كانت تزداد عمقًا مع الوقت. لكن ما هى الغيبوبة؟ هل هى غياب كامل عن الدنيا وما يجرى بها؟ أم هى الشعور بما يجرى مع عدم القدرة على التفاعل معه؟ أى هل المصاب بغيبوبة يشعر بما يجرى حوله أم لا؟ لقد كنت على ثقة أن والدتى تشعر بوجودنا حولها وتسعد به، وأذكر أنها قالت لنا مرة إن أفضل شىء فى مرضها أنه جمعنا كلنا حولها، فقد حضر أخى أشرف من لندن حيث يقيم لكى يكون إلى جوارها، وحضرت شقيقتى الصغرى هداية (هيدى) من السعودية حيث كان زوجها المهندس أبو بكر خيرت يعمل، وكانت شقيقتى أمينة المتزوجة من السفير عبد الرحمن مرعى فى مصر، وكان ابنها أحمد مرعى - القريب جدا من جدته التى تولت تربيته فى بداية حياته - يعمل فى السعودية، فحضر هو الآخر ليكون قريبًا منها، فهل غيبتها الغيبوبة عن كل ذلك؟ لا أعتقد، ففى أحد الأيام دخلت شقيقتى هيدى عليها الغرفة يحدوها الأمل كما كان يحدونا جميعنا، لأن تجدها قد أفاقت، لكنها وجدتها ما زالت فى غيبوبتها، فانهارت وأخذت تهزها بعنف صارخة: 

- فوقى بقى! 

فإذا بالدموع تنهمر من عينى أمى الحزينتين من دون أن تتكلم وكأنها سمعت وشعرت بما جرى لكنها كانت عاجزة عن أن تستجيب. 

من أجل هذا كنت حريصًا على ما يقال وما لا يقال ونحن إلى جوارها حتى لا تسمع ما يضايقها، وكنت مستمرًا فى محادثتها وإحاطتها بالأخبار التى تهمها، فلعل هذا الخيط الواهى الذى يربطها بالحياة يزداد قوة مع الوقت ويساعدها فى أن تعود إلينا من جديد. كانت محبة للحياة ومقبلة عليها، وعاشت حياتها تتابع بحسها الفنى كل ما هو جميل، ومثلما كانت تهوى الرسم وتتابع معارضه كانت أيضًا حريصة على متابعة أحدث خطوط الموضة، وكثيرًا ما كانت تصمم فساتينها بنفسها. 

محمد سلماوى

تذكرت كل هذا وأنا جالس إلى جوارها أتأمل ما يفعله المرض بالإنسان، وتذكرت أيضًا الأيام الصعبة التى مرت عليها، خاصة بعد تأميم شركات والدى حين اشترت آلة غزل تريكو وصارت تجلس أمامها بالساعات لتصنع لى أو لأحد إخوتى «بلوفر» توفيرًا لثمن مثيله الجاهز. وحين مرت تلك الفترة الصعبة عادت إلى بهجتها من دون أن يترك ذلك أى مرارة فى نفسها. نظرتُ إليها الآن وانسابت دمعة صامتة من عينى. 

كانت رئتاها تمتلئان بالماء من طول فترة الرقاد وعدم الحركة، ويتم عمل بذل للماء بشكل دورى، لكنه يعود ثانية إلى الرئتين، كتلك السحب اللعينة التى تحجب ضياء القمر، فتقصر أنفاسها وتحتاج إلى التنفس بشكل أسرع لتعوض نقص الأكسجين، وينبض قلبها بالتالى بخفقان أسرع وكأنها تبذل مجهودًا شاقًا، فإلى متى كان يمكن أن يستمر هذا الوضع؟ إلى متى كان جسدها سيتحمل هذا المجهود الذى لا يتوقف؟ إلى متى كانت ستظل أنفاسها تتهدج ويظل قلبها يسرع ضرباته؟ فى مساء اليوم الذى كان علىّ أن أذهب فيه إلى التليفزيون سألت الطبيب تلك الأسئلة، فأفهمنى أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر طويلًا، لكن لا أحد يمكن أن يعرف متى يتوقف القلب عن الخفقان، قد يكون هذا بعد دقائق، وقد يستمر أيامًا. يا إلهى! ما فائدة التقدم العلمى الذى حققه الإنسان على مدى قرون طويلة إذا كان يعود دائمًا فيقف عاجزًا أمام لحظة الرحيل؟! كم من مرة قيل لمريض إنه ليس أمامه إلا بضعة أشهر فعاش بعد ذلك سنين؟ وكم من مرة قيل له إنه سليم معافى فحانت لحظة رحيله بعدها بقليل؟. 

ضغط علىَّ إخوتى كى أذهب إلى موعدى قائلين إن البرنامج على الهواء ولا يمكن أن أتغيب عنه فى اللحظة الأخيرة، ثم إنه مهم بالنسبة لى ككاتب، وإن والدتنا لو كانت قادرة على الكلام لقالت لك أن تذهب، وكانت تهتم بكل ما ينشر عنى فى الصحف وما يذاع لى من أحاديث، وبعد وفاتها وجدنا لديها أرشيفًا كاملًا بقصاصات صحف وتسجيلات احتفظت بها، وأعطانى إياها إخوتى وكأنها هدية منها. ذهبت إلى التليفزيون وأنا مشتت بين ما يجرى أمامى فى الاستوديو وما يحدث هناك فى المستشفى، وكنت أنشغل بعض الشىء بالحديث الذى يدور معى أمام الكاميرا، لكن ما إن يتوقف الحديث لعرض مشهد من إحدى مسرحياتى حتى كان ذهنى يشرد إلى حيث ترقد أمى هناك فى المستشفى بين الحياة والموت فأسأل نفسى: هل ما زالت على قيد الحياة؟ أم رحلت وتركتنا؟ وما إن انتهت الساعة التى استغرقها البرنامج حتى انطلقت عائدًا إلى المستشفى، ودخلت مسرعًا إلى غرفتها بالعناية المركزة، فوجدتها تنتظرنى. ما إن جلست إلى جوارها وأمسكت بيدها واطمأنت هى إلى وجودى حتى رحلت فى هدوء. ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة كمن ارتاح من عناء رحلة شاقة استغرقت ما يقرب من سبعة عقود. بدت أمامى جميلة كالقمر، رقيقة كنسمة الربيع. كانت الساعة السابعة مساء. الساعة نفسها التى ولدتنى فيها قبل ٤٨ عامًا. ما إن صعدت روحها إلى بارئها حتى أسلمت شمس المغيب الوردية المكان لمساء حزين أطبق على الغرفة بظلاله الداكنة، فتحولت إلى ليل بهيم لا يسمع فيه إلا صوت الرحيل. صفير القطارات المغادرة، وزئير السفن الراحلة، ودوى إقلاع الطائرات وهى تترك الأرض لتختفى بعيدًا فى السماء حتى لا تعود نراها. تلك هى الأصداء التى ستدوى إلى الأبد فى صحارى القلب القاحلة مهما علا من حولها صخب الحياة. 

زينب شتا

توقفت كل الأجهزة المتصلة بجسد أمى؛ جهاز نبضات القلب توقف كأن التيار الكهربائى قد انقطع، وتوقف جهاز الأكسجين، ففصلهما الأطباء ونزعوا الخراطيم التى كانت تخترق أوردتها بعد أن أصبحت الآن لا تحتاج إلى أى منها.

يقول الزعيم الروحى الهندى «كريشنا مورتى»: «حين يموت لك حبيب يموت جزء منك ويذهب معه»، وها قد مات جزء منى. ذهب معها ولن يعود. 

رحلت أمى وأنا ممسك بيدها، ظللت معها لفترة أتأمل ابتسامتها الهادئة، وحين حاولوا سحب يدها من يدى ظلت ممسكة بى وظللت ممسكًا بها. لم تتركنى ولم أتركها. ظلت ما يقرب من عشر سنوات تأتينى كل ليلة. أراها رأى العين من دون أن يكون هناك حلم أروى أحداثه أصحو من نومى مدركًا أنها كانت معى. أرى وجهها وأشعر بوجودها مؤكدًا وطاغيًا، ليلة وراء ليلة. 

ومن الغريب أننى أثناء كتابتى لهذه السطور، رأيت وجهها المنير فى إحدى الليالى بدت كما كانت قبل المرض. لم يكن حلمًا تجرى أحداثه حال حياتها، فقد كنت أعرف فى منامى أنها رحلت لكنها مثلت أمامى، ولم يكن هذا غريبًا بالنسبة إلىّ، بل بدا شيئًا طبيعيًا اعتدت عليه طويلًا. كل ما أذكره فى تلك الليلة هو أن بابًا انفتح أمامى وأشرق وجهها جميلًا كما عهدته. لم يكن ذلك حلمًا، كان رؤيا.

رص كتب فاروق حسنى 

فى نوفمبر عام ١٩٨٦ أصدر الرئيس حسنى مبارك قرارًا بتكليف الدكتور عاطف صدقى بتشكيل الحكومة الجديدة، وفى أكتوبر من العام التالى أجرى رئيس الوزراء تعديلًا شكل بمقتضاه الحكومة رقم ١١٠ فى تاريخ مصر، وعين فيها الفنان فاروق حسنى وزيرًا للثقافة خلفًا للدكتور أحمد هيكل، وكانت النقلة كبيرة ما بين الوزير الدرعمى القديم والفنان التجريدى الجديد. وكان رد الفعل الأول للمثقفين خاصة من يرون أنفسهم - خطأ أو صوابًا - أحق بالمنصب، هو الرفض الكامل لهذا الاختيار، وشن بعض ممن صاروا بعد ذلك من المقربين للوزير حملة ضارية ضد الفنان الشاب، وقاد الحملة كل من الشاعر عبدالرحمن الشرقاوى والروائى ثروت أباظة، رئيس اتحاد الكتاب وانضم إلى الحملة- بشكل علنى أو مستتر- عدد آخر من المثقفين، وقد روى لى بعد ذلك الكاتب والمفكر لطفى الخولى أن المخرج المسرحى كرم مطاوع قال له إن اختيار فنان شاب بلا خبرة ليكون مسئولًا عن الثقافة فى مصر هو صفعة على وجه كل المثقفين، وقال كرم إن عبدالرحمن الشرقاوى أبلغه أن لديه معلومات بأن هذا التعيين لن يستمر. من ناحية أخرى اتجه عدد من المثقفين إلى تأييد الوزير الجديد، وتوقع الوزير السابق منصور حسن، فى تصريحات صحفية أدلى بها لموسى صبرى رئيس تحرير «الأخبار»، أن يكون فاروق حسنى أحد أفضل وزراء الثقافة. وهكذا انقسمت الجماعة الثقافية على نفسها كما لم يحدث من قبل، ليس على قضية قومية أو مصيرية، وإنما على شخص وزير الثقافة.

سلماوى مع فاروق حسنى

على أن الدكتور سمير سرحان، رئيس الهيئة العامة للكتاب، والذى كان أحد من رشحتهم الإشاعات للوزارة، كان أذكى من الجانبين، حيث بادر بعقد اجتماع للمثقفين من جميع الاتجاهات بهيئة الكتاب على كورنيش بولاق، لمقابلة الوزير الجديد والتعرف على أفكاره، وأذكر أن الاجتماع الذى عقد بالصالون الفسيح لمكتب رئيس الهيئة، حضره بضع عشرات من المثقفين من مختلف الاتجاهات والتخصصات، أذكر منهم الدكتورة سهير القلماوى، ورجاء النقاش، وعلى سالم. وحمدى غيث، والدكتور محمد عنانى، وهاشم النحاس، وآخرين. ولم يتخذ الاجتماع شكل منصة يجلس عليها الوزير ورئيس الهيئة وأمامهما الحضور، وإنما وُضعت المقاعد فيه بشكل دائرى لا منصة فيه ولا صالة. وساد الاجتماع الذى لم يحضره عبدالرحمن الشرقاوى ولا ثروت أباظة بعض التحفظ، وتحدث فيه كثيرون، لكن معظمهم أظهر ما لا يبطن. فطلبت الكلمة وأبديت أسفى الشديد لحالة الانقسام التى تسىء إلى الجماعة الثقافية أمام الرأى العام، فى الوقت الذى نشكو من تهافت دور الثقافة والمثقفين فى المجتمع، وقلت إنه من حقنا بالطبع أن نختلف إذا شئنا، لكن على أداء الوزير أو على رؤيته، وليس على شخصه أو صغر سنه، وقلت إن من اختير وزيرًا للثقافة هو فنان ينتمى إلى الجماعة الثقافية وليس دخيلًا عليها، ومن يعرفونه عن قرب يعرفون إمكاناته الإدارية، التى جعلت المواقع التى تولى مسئوليتها تحقق نجاحًا لا خلاف عليه، سواء كان ذلك قصر ثقافة الأنفوشى فى الإسكندرية أو المركز الثقافى المصرى فى بولفار سان ميشيل بباريس أو الأكاديمية المصرية فى روما. وقلت إننى لا أفهم أن يكون الحكم على الوزير سابقًا على أدائه وعلى اختبار رؤيته للعمل الثقافى. 

استمر الاجتماع ساعتين تقريبًا، وتحدث خلاله الوزير عن السياسات التى يتطلع إلى اتباعها، وأعقب حديثه نقاش مطول بينه وبين الحضور حول ما طرحه من آراء، وفى نهاية الاجتماع مالت الدفة بشكل واضح إلى تأييد الوزير. وانتهى الاجتماع من دون إعلان موقف ما، لكن كثيرًا من المثقفين الذين لم يكونوا يعرفون فاروق حسنى تعرفوا فى هذا الاجتماع إلى أفكاره وما يتطلع إلى تنفيذه، وتحدثوا إليه عن مشكلات الثقافة والمثقفين، فكُسر الحاجز الزجاجى الذى كان بعض المثقفين يرون الوزير من خلاله من دون أن يتواصلوا معه، وهدأت بعد ذلك العاصفة وبدا أن الرفض الذى عبر عنه البعض ليس موقفًا عامًا بين المثقفين. فى الوقت نفسه لم يتحقق توقع المعارضين بأن الوزير الجديد ستتم إقالته، فبدأوا يغيرون بالتدريج من موقفهم. والتقى الوزير بعبدالرحمن الشرقاوى، الذى أعلن بعد ذلك أنه غرر به، وكان الوسيط فى اللقاء هو كرم مطاوع نفسه. وزال التوتر بالتدريج مع ثروت أباظة، وإن لم تتم المصالحة بينهما واستمرت العلاقة باردة حتى النهاية.

وبعد نحو شهرين من تعيين فاروق حسنى وزيرًا للثقافة، فوجئت بالصديق الصحفى سمير غريب، الذى كان وقتها من أعوان الوزير المقربين، يخبرنى أن الوزير ينتظرنى مساء اليوم نفسه فى منزله المجاور لمنزلى بالمعادى. وكان سمير هو الذى عرفنى على فاروق حسنى قبل ذلك بسنوات، حين زارانى معًا فى مكتبى بـ «الأهرام»، وأذكر أننى قابلته بعد ذلك مرة ثانية أثناء زيارة لى إلى روما، لكن تلك كانت المرة الأولى التى أزوره فيها فى منزله. 

كان فاروق حسنى فى ذلك المساء ينسق كتبه على أرفف المكتبة. كانت الكتب فى صناديقها الكرتونية التى أتى بها من روما حين نُقل إلى القاهرة لاحظت أناقة الشقة، على الرغم من صغرها، وقد استأجرها فاروق حسنى من الفنانة ليلى عزت لفترة، إلى أن اشترى شقة أخرى فى الجيزة إلى حين الانتهاء من تشييد فيلته الفاخرة بمنيل شيحة، التى تركها بعد ثورة ٢٠١١ لينتقل إلى شقته الحالية بالزمالك.

سلماوى مع شقيقه الأصغر أشرف فى مدرسة فيكتوريا كولدج

كان اللقاء وديًا، وشاركته تنسيق الكتب فى المكتبة، وتشعب حديثنا وفق موضوعات الكتب التى كانت تطالعنا من الكراتين ونوعيتها، فنتداول فى الموقع المناسب لكل منها بالمكتبة. وبعد نحو ساعة بدأت أتساءل بينى وبين نفسى عن الغرض من تلك الدعوة، وإن كنت مستمتعًا بحديث الكتب الذى دار فيها، هل كان الوزير يبحث عن شخص يساعده فى رص الكتب بالمكتبة؟ وفى تلك اللحظة كأن فاروق حسنى أدرك ما أفكر فيه، فإذا به فجأة يفصح عن سبب دعوته لى فيقول إنه دعانى لكى يعرض علىّ أن أكون وكيل الوزارة المسئول عن العلاقات الثقافية الخارجية. 

كانت المفاجأة كبيرة، وكان رد فعلى الأولى هو الرفض، فلم أكن أرى فى الوظائف الحكومية- كبرت أو صغرت- إلا- البيروقراطية والروتين. وتذكرت اللوم الذى وجهه إلىَّ الأستاذ محمد حسنين هيكل قبل ١٥ عامًا، حين تسلمت عملى فى هيئة الاستعلامات تنفيذًا للقرار الذى أصدره الرئيس السادات بنقلى من «الأهرام» ورن فى أذنى صوته مرة ثانية وهو يقول لى: «لقد حولت نفسك طواعية من صحفى إلى موظف حكومى». لكن الساعة كانت قد تخطت الحادية عشرة مساء، ولم يكن الوقت مناسبًا لنقاش قد يطول، فرأيت أن أشكر الوزير على تلك الثقة وأقول له باختصار إننى غير مؤهل للعمل الحكومى ولا أميل إليه، وإن رغبتى الوحيدة هى التفرغ للكتابة، سواء من خلال عملى الصحفى أو إنتاجى الأدبى. لكن النقاش امتد والساعات طالت، فلم يقبل الوزير اعتذارى، وقال لى إنه لا يريدنى كموظف حكومى، وإنه يسعى إلى تشكيل فريق العمل بالوزارة من المثقفين المتميزين معتبرًا أن إحدى آفات العمل الثقافى هى أن من يديرونه هم الموظفون الحكوميون وليسوا المثقفين. ثم أخذ يحدثنى عن إدارة العلاقات الثقافية الخارجية التى سأكون مسئولًا عنها، قائلًا إنه يرى أن لدى صفات تؤهلنى لهذا العمل أكثر من غيرى، ومنها انفتاحى على العالم الخارجى وتمكنى من التواصل مع الثقافات الأجنبية بحكم معرفتى بطريقة التواصل مع الأجانب، وتقديم ثقافتنا لهم بالطريقة المناسبة التى تجعلهم يتقبلونها ويُقبلون عليها. وقال إن إحدى مشكلاتنا فى التواصل مع العالم تأتى من أننا كثيرًا ما نتحدث إليه بطريقتنا نحن وبمنطقنا نحن، فنجد أنفسنا فى النهاية نتحدث إلى أنفسنا. 

كنت فى ذلك الوقت قد حققت قدرًا من الاستقرار فى عملى الصحفى بعد سنوات السبعينيات المضطربة، فأصبح لى مقال أسبوعى فى «الأهرام»، وباب ثابت عن الثقافة فى مجلة «الأهرام الاقتصادى»، بالإضافة إلى المقالات التى أنشرها خارج «الأهرام»، ومنها مقالى الأسبوعى فى جريدة «صوت العرب»، الذى كنت أكتب فيه ما لم أستطع كتابته فى «الأهرام». وقد أخبرنى الوزير فاروق حسنى بعد تعيينى بالوزارة أن الرئيس مبارك قال له: 

- بيقولوا لى إنه كان بيشتمنا فى «صوت العرب». 

أما بالنسبة إلى الإبداع فكنت قد بدأت أنتظم فى الكتابة المسرحية، بعد أن قدم لى المسرح ثلاث مسرحيات فى ثلاثة أعوام على التوالى، أى بمعدل مسرحية كل سنة، بالإضافة إلى بعض القصص القصيرة التى كنت أنشرها بشكل غير منتظم فى «الأهرام» وغيره. لذلك كنت أخشى أن العرض الذى قدمه لى فاروق حسنى قد يجىء على حساب ذلك، وكان علىّ أن أختار بين الاثنين ؛ لأن الجمع بينهما ربما كان خداعًا للنفس. كان أمامى فى ذلك مثل الصديق سمير سرحان الذى زاملنى فى قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وكان يكبرنى بثلاث سنوات، فقد كان فى رأيى كاتبًا مسرحيًا موهوبًا بالفعل، استطاع أن يترك بصمة واضحة بمسرحيته الشهيرة «روض الفرج» (١٩٨٢)، التى أخرجها له كرم مطاوع، وقبلها بمسرحية «ست المُلْك» (١٩٧٨) التى قدمها المسرح القومى من إخراج عبدالغفار عودة وبطولة سميحة أيوب ونور الشريف وعبدالرحمن أبوزهرة، لكن العمل التنفيذى استنفد كامل طاقاته، وقد حقق نجاحًا لا يمكن إنكاره فى كل المؤسسات الثقافية التى رأسها، من الثقافة الجماهيرية إلى هيئة الكتاب وما زال معرض القاهرة الدولى للكتاب يدين له بأزهى فتراته، حيث نجح فى تحويله طوال سنوات إشرافه عليه إلى أكبر حدث ثقافى عربى ينتظره المثقفون والجمهور على حد سواء من عام إلى عام. واستطاع أيضًا نشر مشروع «مكتبة الأسرة» على نطاق واسع جعله واحدًا من أهم المشروعات الثقافية تأثيرًا، وهو ما جعل منظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة «يونسكو» تقرر المساهمة فى تطبيق التجربة فى دول أخرى من العالم الثالث، وسيظل العمل الثقافى فى مصر يدين لسمير سرحان بالكثير، لكن نجاح سمير سر رحان كرئيس لهيئة الكتاب جاء على حساب موهبته ككاتب مسرحى. فتوقف تمامًا عن الكتابة. 

كان الوقت قد تخطى منتصف الليل بزمان، وتحول الحديث الممتع عن الكتب فى بداية الأمسية إلى مباراة ذهنية مضنية يحاول فيها كل منا إقناع الآخر بوجهة نظره، وفى النهاية قلت للوزير إننى بحاجة إلى وقت للتفكير وللتشاور مع شريكة حياتى، لكن ليس قبل أن أعبر له عن اعتزازى الكبير بثقته وبما قاله فى حقى. فقال لى وهو يودعنى:

- إننى أريد أن أعتمد عليك فى إعادة علاقاتنا الثقافية مع الدول العربية وبقية دول العالم التى تجمدت ولم يتم تجديد اتفاقياتنا الثقافية معها بعد توقيع السادات على اتفاقية كامب ديفيد. ثم إننا مقبلون على مرحلة نشاط ثقافى كبير سيعتمد إلى حد كبير على علاقاتنا بالخارج، فمصر دولة عظمى ثقافيًا ويجب أن تكون الثقافة من أهم صادراتها. 

حين عدت إلى المنزل وجدت نازلى ما زالت مستيقظة، قلقة لتأخرى حتى ذلك الوقت، وحين أخبرتها بما حدث ارتاحت وقالت لى: 

- القرار قرارك، لكن ما يعرضه عليك يمكن أن يحقق بالفعل مكاسب كبيرة 

للثقافة المصرية، واختياره لك فى محله. 

أما نجيب محفوظ فقال لى: 

ألف مبروك، لكن اوعى تسيب الكتابة. 

وشرح لى أن الفترة التى قضاها رئيسًا لمؤسسة السينما لم يكتب فيها حرفًا. كنت مدركًا لأهمية العلاقات الثقافية الخارجية فى إنهاض العمل الثقافى، وتذكرت كيف كانت حال الثقافة فى عهد الدكتور ثروت عكاشة، الذى وضع أساس معظم المؤسسات الثقافية القائمة اليوم، وتذكرت أن من كان مسئولًا عن العلاقات الثقافية الخارجية فى عهده كان العلامة الكبير أستاذى فى الجامعة الدكتور مجدى وهبة. على أن أكثر ما أدى بى إلى قبول العرض الذى قدمه لى فاروق حسنى هو حماسه الواضح لتحقيق إنجاز كبير للثقافة فى مصر، والذى عبر عن نفسه من خلال المشروعات الكبرى التى ظل يقفز من واحد منها إلى الآخر طوال ٢٣ عامًا قضاها بالوزارة، تعاظمت أثناءها مشاريعه ليترك موقعه وقد وضع الأساس لأكبر متحف فى العالم، يليق بآثار واحدة من أعظم حضارات التاريخ الإنسانى. وحين نُشر خبر تعيينى وكيلًا لوزارة الثقافة وجدت ترحيبًا إعلاميًا واضحًا، حيث كتبت جريدة «الأخبار»: «اختیار موفق»، وقالت «روز اليوسف»: «برقية تأييد للوزير فاروق حسنى: لقد أحسنت الاختيار. وندعو الزميل محمد سلماوى للحفاظ على نفسه كاتبًا وصحفيًا مرموقًا»، أما جريدة «الجمهورية» فكتبت: «أخيرًا الثقافة يديرها المثقفون»، مشيرة إلى تعيينى فى العلاقات الثقافية الخارجية، وتعيين الفنان التشكيلى طه حسين فى الثقافة الجماهيرية، وتعيين الباليرينا ماجدة صالح فى الأوبرا. 

وهكذا بدأت مرحلة جديدة فى حياتى كان بها من الإنجازات بقدر ما كان بها من الصدامات.

عين الفراشة 

فى يوم الثلاثاء ٢٥ يناير ٢٠١١، انبثقت فجأة من قلب ميدان التحرير زهرة خلابة من أزهار عباد الشمس أبهرت العالم أجمع، حيث انطلقت ثورة شعبية قدر لها أن تغير وجه الحياة فى البلاد، وتبدأ مرحلة جديدة فى تاريخ مصر الحديث، وسرعان ما نبتت أزهار مماثلة فى بقية أنحاء البلاد، فما أعلن عنه كمظاهرة البعض الشباب الناشطين سياسيًا بمناسبة عيد الشرطة، تحول بفعل تراكمى ممتد عبر أربعة عقود إلى انفجار شعبى ضخم، ظل يتسع مداه من ميدان التحرير إلى بقية شوارع وميادين القاهرة. وانتشرت تلك الأزهار، رموز الأمل والتجدد من القاهرة إلى بقية مدن الجمهورية، حتى اكتست أرض مصر الطيبة بتلك الزهور المتطلعة دومًا إلى حيث الشمس الساطعة وما بدأ كمطلب للمتظاهرين بتعديل مادتين فى الدستور، وتغيير الحكومة، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، تصاعد ونما مع الزهور التى تفتحت فى جميع أنحاء البلاد حتى تمكن، بعد ١٨ يومًا فقط، من إزاحة السحب الداكنة التى حجبت ضوء الشمس سنين طويلة، فسقط نظام الحكم الذى تمترس فى الأرض ثلاثة عقود فى ثبات وجمود سُمى خطأ بـ«الاستقرار».

كان الإخوان المسلمون قد أصدروا إلى جميع أعضاء الجماعة أمرًا صريحًا بعدم المشاركة فى مظاهرات ٢٥ يناير، وكذلك السلفيون الذين أعلنوا صراحة أن الشرع يحرم الخروج على الحاكم. لكن مع اتساع مدى المظاهرات وتحولها إلى ثورة شعبية، غير كل من الإخوان والسلفيين موقفهم بين ليلة وضحاها، ونزلوا الميدان طامعين فى ثمار تلك الثورة. 

كان ميدان التحرير مفتوحًا للجميع، واحتضن كل أطياف المشهد السياسى، وكل فئات المجتمع ومختلف الطبقات الاجتماعية وجميع الأعمار. لكن فى قلب الثورة كان الشباب الأنقياء البعيدون عن الأيديولوجيات السياسية، وإن جاءت شعاراتهم مرددة بالسليقة للأفكار والمبادئ التى طرحتها الثورة الأم عام ١٩٥٢، والخاصة بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ومدنية الدولة، كما رفع البعض صور عبدالناصر الذى جسد هذه المطالب. 

وكنت قد أصدرت قبل الثورة بأسابيع قليلة روايتى «أجنحة الفراشة»، التى انتهت أحداثها بقيام ثورة كبرى فى ميدان التحرير يقود شعلتها الشباب، مستخدمين وسائط الاتصال الحديثة، وانضمت إليهم بقية فئات الشعب، ما أصبح يهدد الحكم القائم، فأُعلن حظر التجول وطُلب من القوات المسلحة أن تتدخل، لكن قيادة الجيش رفضت ذلك اتساقًا مع تاريخها الوطنى، ما تسبب فى سقوط الحزب الحاكم وترنح النظام. انتهيت من الرواية فى سبتمبر ٢٠١٠ وسلمتها للصديق الناشر محمد رشاد، رئيس اتحاد الناشرين، صاحب الدار المصرية اللبنانية، التى كانت تنشر أعمالى فى ذلك الوقت. ونظرًا لحساسية موضوع الرواية قلت له أن يقرأها ويخبرنى برأيه من دون أن أطلب منه صراحة نشرها. ولم يمض أسبوع حتى اتصل بى فسألته عن رأيه فى الرواية فقال: 

أعجبتنى جدًا، لكنها تودى فى داهية! 

لم يكن أحد قد قرأ الرواية قبل محمد رشاد إلا اثنان من الأصدقاء النقاد أعتبرهما - ويعتبرهما غيرى أكبر ناقدين عربيين فى وقتنا الحالى، وقد حثنى أحدهما على نشرها. أما الثانى فقد أخبرنى محمد رشاد أنه حذره من نشر الرواية. فقلت له: ليس من الضرورى أن تنشرها، لقد أردت فى الأساس استطلاع رأيك كناشر كبير أثق فى تقديره. 

فاستدرك بسرعة: 

- من قال لك إننى لن أنشرها ؟ سأنشرها بالتأكيد. وسنبدأ التحضير لها على الفور حتى تنزل فى معرض الكتاب فى يناير القادم. 

ومضى نحو شهرين انشغلنا خلالهما بمراجعة البروفات والغلاف الذى صممه الفنان أحمد اللباد، وكان غلاف مجموعتى القصصية إزيدورا والأتوبيس صمم وصدر عن الدار نفسها قبل ذلك بسنتين. وفى شهر ديسمبر طُرحت الرواية فى الأسواق حتى تكتسب موقعًا على الساحة يجعلها تدخل معرض الكتاب فى الأسبوع الأخير من يناير، وقد سبقتها سمعة تساهم فى ترويجها بالمعرض. لكن ما هى إلا أيام واندلعت فجأة الثورة التونسية التى لم يتوقعها أحد. وأحسست أن الدهشة التى يمكن أن تولدها فكرة قيام ثورة فى الوطن العربى للمرة الأولى منذ عام ١٩٥٢، والتى طرحتها فى الرواية، لا بد ستقل بعدما تحققت النبوءة فى تونس، أو على الأقل سيقال إننى استلهمت روايتى من ثورة تونس ولم أقدم طرحًا جديدًا غير منقول عن الأحداث الجارية. 

سلماوى مع نجيب محفوط

على أن الترحاب الذى قوبلت به الرواية، التى حملت رقم إيداع وترقيمًا دوليًا صادرين عام ٢٠١٠، غطى على كل ذلك. وكان الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل أول من أفرد لها مقالًا كاملًا فى «الأهرام»، أكد فيه قيمة الرواية ووصفها بأنها رواية مثيرة، وأنها سبيكة من الأدب الرفيع تتضمن عصارة ثقافية عالية فى فنون التشكيل والموسيقى والحياة، مع اقتدار فذ على صناعة الرموز وتكثيف المشاعر وتتبع التحولات الإنسانية والمجتمعية. وفى استعراضه لأحداث الرواية يوضح الدكتور فضل أن هناك خطين دراميين متوازيين، أحدهما يتعلق بقصة ضحى مصممة الأزياء التى تبحث عن هويتها، والثانى يتعلق بالشاب أيمن الذى يبحث عن أمه التى طلقها والده وهو طفل وكان يظنها ماتت، والحقيقة أن جميع شخوص الرواية يبحثون عن أنفسهم داخل وطن يبحث عن نفسه هو الآخر، وفى النهاية لا يتلاقى كل هؤلاء إلا بخلاص الوطن فى ميدان التحرير، فيقول الدكتور فضل فى نهاية مقاله:

عندئذ يطل السيناريو الشجاع الذى يرسمه محمد سلماوى لمستقبل مصر.. حيث تصبح بوتقة الوطن هى البؤرة التى يتجمع فيها الشعاعان المتوازيان على طول الرواية، وتلتقى فيها المصائر، وهى تمضى نحو شمس المستقبل. 

محمد سلماوى وزوجته نازلى سنة 1970

وتوالت المقالات، فكتبت جريدة «المصرى اليوم»: 

تعرض الرواية لعوالم جديدة طارئة على الرواية العربية على مستوى الطرح السياسى الذى جاء كتوليفة متماسكة وموضوعية مع النسيج السردى للعمل.. ولا نغالى إذا قلنا إنه يمكن اعتبارها شهادة روائية وإنسانية على اللحظة التاريخية التى تعيشها مصر. 

وكتبت جريدة «نهضة مصر» يقدم محمد سلماوى حكايات أجاد فى رسمها للقارئ بالكلمات ليعبر من خلالها عن أحلام شعب ومعاناته ومصيره فى المحن والأزمات. 

وكتبت جريدة «الأخبار»: «هى الرواية المدهشة التى انبعثت حية على أرض ميدان التحرير»، بينما كتب عبدالرحمن الراشد فى جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية: 

لو أن السلطات المصرية تقرأ الروايات بدل تقارير البوليس ربما ما وقعت فيما وقعت فيه فى ميدان التحرير المكتظ بالتويتريين والفيسبوكيين الثائرين الذين لا تكفى السجون لاستيعابهم. 

وانتشرت الرواية انتشارًا سريعًا فطبع منها ست طبعات متتالية، وكان زملاء صحفيون كثر يقولون، حين يجرون معى حوارًا حول الرواية: «لعلك الوحيد الذى لم يفاجأ بالثورة، فأجيب بل أنا أكثر من فوجئ بها، فأن تكتب أن ثورة تقع فى ميدان التحرير شىء، وأن تنزل الميدان فتجد ما توقعته يحدث كما وصفته شىء آخر». أو يسألوننى: كيف تمكنت من التنبؤ بما حدث؟»، فأقول: «إنها عين الفراشة التى تحلق عاليًا فتتمكن من أن ترى من بعيد ما هو قادم». 

فى ذلك الوقت اتصلت بى الفنانة الكبيرة سميرة أحمد لتقول إنها قرأت الرواية فى ليلة واحدة، وإنها راغبة فى تحويلها إلى فيلم سينمائى. ثم أضافت: وعلى الرغم من أن دور البطلة لا يصلح لى، فإنه سيسعدنى القيام بأى دور آخر كى أكون جزءً من هذا العمل. 

لكن للأسف بعد أن تناقلت الصحف الخبر، وبعد أن اتفقنا على كثير من التفاصيل، حالت الحالة الصحية للفنانة الكبيرة دون أن يتم إنتاج الفيلم. وقد أخبرنى الناشر الكبير محمد رشاد أن الدار المصرية اللبنانية تقدمت بـ«أجنحة الفراشة»، للجائزة الدولية للرواية العربية، المعروفة خطأ باسم «جائزة البوكر العربية»، بعد أن حققت الرواية نجاحًا نقديًا وجماهيريًا لفت الأنظار، وتقديم الرواية للجائزة لا يعنى بالضرورة فوزها، لكن الذى حدث أن «أجنحة الفراشة» لم تذكر ضمن القائمة الطويلة التى تضم أهم الروايات التى تقدمت للجائزة، والتى عادة ما يصل عددها إلى ٢٥ رواية تقريبًا، ولم تظهر ضمن القائمة القصيرة التى تضم ٦ روايات يتم اختيار الرواية الفائزة من بينها، وهو ما يعنى أن الرواية استبعدت من التحكيم من البداية. وقد دهشنا جميعًا لفترة ثم نسيت الموضوع ولم أتابعه وحدث بعد سنوات أن كنت مع الدكتورة هدى الصدة، أستاذة الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة، وتطرق الحديث إلى جائزة البوكر العربية، وقد كانت هى ضمن لجنة تحكيمها فى السنة التى قُدِّمَت فيها «أجنحة الفراشة»، فسألتها عما حدث وقتها، وإن كان هناك خطأ فى موعد التقديم مثلًا أدى إلى استبعادها. لكنها تهربت من الإجابة، فلم ألح. 

على أن الرواية سريعًا ما ذاع صيتها خارج مصر والوطن العربى، واتصلت بى دار جونتى، وهى واحدة من كبريات دور النشر الإيطالية، طالبة حق ترجمة الرواية إلى الإيطالية، وأصدرتها فى العام التالى بطبعة أنيقة، لكنها حملت عنوان إفطار فى «القاهرة». وأعربت للدار عن عدم ارتياحى لهذا العنوان، خاصة أن المترجم التزم بالعنوان الأصلى، لكنهم أوضحوا أن العنوان الأصلى لا يشير إلى مصر والأحداث التى تشهدها، وأن مسئولى التسويق بالدار يفضلون العنوان المقترح الذى يشير بوضوح إلى أن أحداث الرواية تجرى فى مصر. فوافقت من دون حماس باعتبار أن كل دار نشر أدرى بطبيعة قرائها ولما كان النص نفسه لم يدخل عليه أى تعديل، فقد نزلت على رأيهم باعتبارهم أدرى منى بالسوق الإيطالية. وكانت الترجمة الإيطالية الترجمة الوحيدة التى صدرت بعنوان آخر، واتضح لى بعد ذلك صحة موقف الدار بالنظر إلى المبيعات الكبيرة التى حققها الكتاب.

أما الترجمة التالية فكانت الترجمة الإنجليزية التى أصدرتها دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام ٢٠١٤، وكانت معظم مبيعاتها فى الولايات المتحدة. وفى حفل التوقيع قرأنا أنا والفنانة الكبيرة يسرا مشهدًا من الرواية، بين البطل والبطلة أثناء وجودهما فى مطعم بإيطاليا كان يذيع مقطوعة «نزوة إيطالية» لاتشايكوفسكى»، وصاحبنا فى هذا المشهد عزف حى لهذه المقطوعة على آلة التشيلو. 

محمد سلماوى فى قفص الاتهام بالمحكمة أثناء نظر تظلم المعتقلين فى انتفاضة يناير 1977

وتلت النسخة الإنجليزية ترجمة فرنسية للرواية عام ٢٠١٥، أصدرتها دار أوريان إيديسيون التى رتبت لى جولة فى عدة مدن فرنسية عقدت فى كل منها حفلات توقيع للكتاب. وفى العام التالى دعيت إلى معرض الكتاب فى مدينة «إياشى» الرومانية لحضور ندوة وحفل توقيع بالمعرض للترجمة الرومانية للرواية، وفى العام نفسه صدرت فى الهند ترجمة لـ«أجنحة الفراشة» باللغة الأردية، قام بها الدكتور محمد قطب الدين أستاذ الأدب العربى فى جامعة جواهر لال نهرو بنيودلهى، وأقامت الجامعة احتفالًا كبيرًا بهذه المناسبة حضره رئيس الجامعة والسفير المصرى فى نيودلهى. وفى معرض القاهرة الدولى للكتاب عام ٢٠١٧ أقيمت ندوة بعنوان «حركة الترجمة بين العربية والأردية»، احتفالًا بصدور الكتاب، باعتباره من النماذج النادرة من الأدب المصرى الحديث المترجمة إلى الأردية. وقال المترجم إن ترجمات الأدب المصرى الموجودة باللغة الأردية هى لمؤلفات طه حسين، والعقاد والمازنى، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وإنه لم يسبق أن ترجمت قبل أجنحة الفراشة، أى نماذج من الأدب المصرى الحديث إلا «كتاب التجليات» لجمال الغيطانى. وقد شاركت فى الندوة مع السفير الهندى بالقاهرة سانجاى باتاتشاريا، ومترجم الكتاب الدكتور محمد قطب الدين والدكتور أحمد القاضى، أستاذ اللغة الأردية بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر.