دردشة مع مؤرخة أمريكية.. جيل ليبور: تخيلوا أن الدستور الذى يحكمنا منذ 250 سنة!

- الاعتماد على قوانين المؤسسين فى زمن الذكاء الاصطناعى «سخافة»
- صاحبة كتاب «نحن الشعب»: قضاة المحكمة العليا يريدون تفسير الدستور كما كُتب فى 1787
تعتبر جيل ليبور واحدة من أبرز المؤرخين الأمريكيين، وتشتهر أستاذة التاريخ فى جامعة «هارفارد» بكتابتها التى تمزج بين العمق الأكاديمى والسرد الأدبى الجذاب، إلى جانب مقالاتها المنتظمة فى مجلة «ذا نيويوركر»، التى تُسهم فيها منذ عام ٢٠٠٥ بكتابات عن التاريخ الأمريكى والقانون والأدب والسياسة.
من أبرز أعمالها كتاب «These Truths: A History of the United States» أو «هذه الحقائق: تاريخ الولايات المتحدة»، الذى يُعد من أهم المراجع فى التاريخ الأمريكى المعاصر، وصولًا إلى آخر أعمالها «We the People: A History of the US Constitution» أو «نحن الشعب: تاريخ دستور الولايات المتحدة»، الصادر فى 11 سبتمبر الجارى.
قبل أيام، أجرى الصحفى مارتن بنجيلى حوارًا مع المؤرخة الأمريكية المولودة فى عام 1966، نُشر فى صحيفة «الجارديان» البريطانية، وتترجمه «حرف» فى السطور التالية، وتتناول «ليبور» فيه جملة من الأفكار حول التاريخ والسياسة والثقافة الأمريكية، فى رؤية تجمع بين التأريخ والكتابة العامة.

نحن الشعب
فى كتابها الجديد «We the People: A History of the US Constitution» أو «نحن الشعب: تاريخ دستور الولايات المتحدة»، تقدّم أستاذة التاريخ فى جامعة «هارفارد» كاتبة مجلة «ذا نيويوركر»، جيل ليبور، فى ٦٠٠ صفحة، حجّة عن الدستور الأمريكى بوصفه وثيقة حيّة وُضعت ليُعدّلها كل جيل.
تقول «ليبور» عن كتابها الجديد «نحن الشعب»: «ليس مجرد دراسة تاريخية، بل هو أيضًا نقد عميق لفكرة (الأصالة)، وهى النظرية القانونية التى يهيمن بها المحافظون على المحكمة العليا، وتدعو إلى تفسير الدستور كما كان عند وضعه فى القرن الثامن عشر»، مُحذرًة من أن «الاستقطاب السياسى الحاد فى الولايات المتحدة جعل تعديل الدستور أمرًا شبه مستحيل، وهو ما يزيد من الاعتماد على هذه النظرية الجامدة».

من وجهة نظر الـ«originalists» (الأشخاص الذين يؤمنون بتفسير النصوص القانونية والدستورية بناءً على معناها الأصلى وقت كتابتها)، لا ينبغى أن يُستند فى تفسير الدستور إلا إلى آراء من كتبوه فى فيلادلفيا عام ١٧٨٧، حتى بعد مرور ٢٥٠ عامًا، فى بلد أصبحت فيه سيارات وطائرات وأسلحة أوتوماتيكية و«ذكاء اصطناعى»، وحقوق للنساء والأقليات، وكل ما لم يعرفه المؤسسون.
بالنسبة لـ«ليبور»، كما لكثير من الباحثين، فإن ذلك «سخيف من غير جدال».

تقول «ليبور»: «الأصالة نظرية قانونية مليئة بالتناقضات، لكن فى أبسط صورها تقوم على فكرة جامدة جدًا: وهى أن الدستور لا يجوز تفسيره إلا كما كُتب أول مرة عام ١٧٨٧، وكما فهمه واضعوه». وبحسب هذا المنطق، لا يحق للقضاة الرجوع إلا إلى وثائق محدودة، مثل نصوص «ماديسون» نفسه وملاحظاته، ومناقشات «مؤتمرات التصديق» و«الأوراق الفيدرالية»، دون غيرها. أى أن كل ما لم يكن موجودًا فى زمن الآباء المؤسسين من قضايا وحقوق حديثة، لا مكان له فى تفسير الدستور اليوم.
لكن ملاحظات «ماديسون» مثلها مثل ملاحظات الآخرين، لم تُنشر إلا عام ١٨٤٠ بعد وفاته بـ٣ سنوات. وفى ذلك الوقت، كان المشاركون فى المؤتمر قد التزموا بـ«تعهّد صمتٍ» لخمسين عامًا، إذ لم يكن من المفترض أصلًا أن تُكشف تفاصيل ما جرى فى كواليس المؤتمر الدستورى، لأن هذه المناقشات لم يكن يُراد لها أن تؤثر فى طريقة تفسير الدستور لاحقًا.
أما مناظرات «مؤتمرات التصديق»، فقد نُشر بعضُها بعد فترة قصيرة من الانعقاد، لكنها لم تكن كاملة ولا حاسمة. و«الأوراق الفيدرالية» التى كتبها «ماديسون» وألكسندر هاملتون وجون جاى، نُشرت فقط فى صحف نيويورك عامى ١٧٨٧ و١٧٨٨، ولم تُقرأ على نطاق واسع خارجها، ولم تستشهد بها المحكمة العليا لفترة طويلة.

إذن، فكرة أن هناك نصًا أصليًا واحدًا استخدم منذ البداية لقراءة الدستور هى «فكرة لا يمكن الدفاع عنها»، كما تقول «ليبور».
ومع ذلك، يواصل القضاة «الأصاليون» التمسك بهذا النهج، فيصدرون أحكامًا تنتزع حقوقًا مُقرّرة من الناس، وتمنح غطاءً لرئيس قد يتصرف وكأنه فوق القانون. والمفارقة الساخرة، كما توضح «ليبور» بأحد الأمثلة، أنهم فى الوقت الذى يزعمون فيه التمسك بحرفية الماضى، لا يترددون فى تعديل صورة «ماديسون» فى شعارهم ليبدو أجمل!
ففى عام ١٩٨٢، أسّس طلاب محافظون من جامعتى «ييل» و«شيكاغو» ما أطلقوا عليه «Federalist Society» أو «جمعية الفيدراليين»، وهى مجموعة ستصبح لاحقًا محرّك الفكر «الأصالى» وينتمى إليها ٥ من أصل ٦ قضاة يمينيين حاليين فى المحكمة العليا. اختارت الجمعية صورة ظلية لـ«ماديسون» شعارًا لها. لكن الفيدراليين لم يكونوا أوفياء حقًا لمبدأ الأصالة، إذ عدّلوا الصورة وأعطوه أنفًا أجمل!
تقول «ليبور» ضاحكة: «كنت حقًا أريد ذكر موضوع الأنف. فإذا نظرت إلى شعار (جمعية الفيدراليين) ستجد أن (ماديسون) يبدو فيه وسيمًا على الطريقة الكلاسيكية. لكن (ماديسون) كان قصيرًا جدًا، كان طوله حوالى متر وخمسين سنتيمترًا فقط، ولم يمتلك ملامح جذابة، خاصة فى جانبه. أنا أقدّره كثيرًا وكلنا لدينا عيوب جسدية، لكن تلك كانت تفصيلة طريفة. أعتقد أن ابن القاضى روبرت بورك هو من قال (لنعدله قليلًا)».
كان أنف «ماديسون» الفعلى قد تشوّه بسبب قضمة صقيع. أما «بورك» القاضى البارز، انهار مستقبله بعد فشل ترشيحه للمحكمة العليا عام ١٩٨٧ فى عهد رونالد ريجان، وتوفى عام ٢٠١٢، قبل أربع سنوات من رحيل عملاق آخر من «الأصاليين»، القاضى أنطونين سكاليا.. ولا تزال أشباحهما حاضرة!

مشروع التعديلات
على أى حال، كل كتاب جديد تصدره «ليبور» يُعَدّ حدثًا كبيرًا. ففى ٢٠١٨ حققت نجاحًا واسعًا بكتابها ««These Truths: A History of the United States»، أو «هذه الحقائق: تاريخ الولايات المتحدة»، وهو تاريخ شامل للولايات المتحدة. ويبدو أن كتاب «نحن الشعب» الجديد بمثابة تكملة له، رغم أن بينهما كتابين آخرين هما: « If/Then» عن بدايات «الحوسبة»، و«The Deadline» وهو مجموعة مقالات.
منذ ٢٠٢٣، صارت «ليبور» أيضًا أستاذة فى كلية الحقوق بجامعة «هارفارد» إلى جانب عملها كأستاذة للتاريخ. وأثناء تدريسها المتزايد لتاريخ الدستور الأمريكى، رأت أنها «تحتاج إلى مصادر جديدة». تقول: «كنت أريد قاعدة بيانات بكل محاولات تعديل الدستور. لكن بالتأكيد لم أجد قاعدة بيانات كهذه. لذا بدأت مشروعًا بحثيًا مع فريق من الطلاب لإنشائها».
هكذا نشأ مشروع التعديلات «Amendments Project»، وهو أرشيف قابل للبحث. وكما توضح «لم يُصدّق إلا على ٢٧ تعديلًا للدستور الأمريكى»، ما يجعله «أرشيفًا للإخفاقات». لكن «ليبور» تفضّل تسميته «دراسة الإمكانات»، التى تجدها «مُحفّزة جدًا للطلاب».
تقول: «أيًا كان توجه الشباب السياسى، فهم يفتقرون إلى إحساس بالإمكان. لذا من الممتع التفكير فى الأمر، حتى ونحن ندرس إمكانات فشلت. عندها فكرت: ربما علىّ أن أكتب تاريخًا للدستور من خلال هذا المنظور».
هكذا جاء الكتاب الجديد، الذى يعرض محطات من المؤتمر الدستورى، إلى التصديق، إلى تعديلات ما بعد الحرب الأهلية، إلى التعديل التاسع عشر الذى منح المرأة حق التصويت، إلى صعود اليمين الرجعى وموت عملية التعديل ببطء. كما يتناول ألاعيب «محكمة ترامب»، والمصير الغريب للتعديل الخاص بالمساواة فى الحقوق، الذى فشل جو بايدن فى إحيائه.

كالعادة، تكتب «ليبور» بأسلوب أدبى متميز، تقدم فيه «بورتريهات» لشخصيات أمريكية ناضلت من أجل التغيير لكنها صارت منسية. مثل، جون جونز، وزوجته مارى جين ريتشاردسون جونز، وهما مُحررَان أسودان فى شيكاغو قبل الحرب الأهلية.
تقول: «الكل يعرف فريدريك دوجلاس. فى تلك المؤتمرات السياسية للأمريكيين السود، كان دوجلاس رئيسًا غالبًا، وجون جونز نائبًا له. كان دوجلاس خطيبًا بارعًا وله قصة حياة مثيرة. بينما جونز كان شخصية محلية فى شيكاغو. لكننى اهتممت أكثر بزوجته مارى، وهذا صعب أن تفعله مع دوجلاس نفسه إذا أردت التفكير فى دور النساء السوداوات فى الحركة التحررية. لذا كان جونز مدخلًا أفضل لإظهار كيف أن تلك الأدوار غالبًا ما تُخفى فى السجل التاريخى رغم أهميتها».
وتضيف: «الانتباه إلى شيكاغو السوداء مفيد فى هذا الجانب. نميل إلى نسيان أهمية نضال الأحرار السود من أجل الحقوق والحصانات. وهذا جزء مما صار فى التعديل الرابع عشر، الذى أُقر عام ١٨٦٨ مانحًا الحماية المتساوية أمام القانون».
وتواصل: «إذا كنت تؤمن بالدستور فأنت تؤمن بأن الشعب هو وحده من يملك حق صياغة الدساتير والتصديق عليها وتعديلها. لذا يجب أن ترى نفسك جزءًا من هذه العملية. من الأسهل أن تتخيل نفسك مكان أشخاص عاديين مثل جون جونز، بدلًا من شخصيات ضخمة مثل لينكولن أو دوجلاس».
وتشمل قائمة الأبطال الآخرين فى الكتاب فيكتوريا وودهول، من أوائل المناضلات من أجل حق المرأة فى التصويت. والسيناتور بيرش باى الذى حاول إلغاء المجمع الانتخابى غير الديمقراطى. وهناك شخصيات قاومت التغيير مثل مارى جوثرى كيلبريث، التى عارضت منح النساء حق التصويت، وديفيد ج. مايز، وهو سلف للأصاليين ومن أنصار الفصل العنصرى.

مقبرة السود
يحتل العِرق مكانة بارزة فى الكتاب، الذى يبين أن كثيرًا من كاتبى الدستور كانوا يملكون عبيدًا. لم يذكر الدستور العبودية، فظلّت القضية تزداد سوءًا دون معالجة. وفى مشهد بارز، فى يناير ١٨٦١، عشية الحرب الأهلية، تصف «ليبور» المؤرخ فرانسيس ليبر، المولود فى بروسيا، وهو يلقى محاضرة فى مانهاتن عن القانون الدستورى، مقابل مقبرة إفريقية قديمة تضم رفات ١٥ ألفًا من السود الذين بنوا نيويورك، ونُسى ذكرهم.
تقول «ليبور» إن توابيتهم حملت علامات معتقداتهم، من خرز ومسامير. بينما حملت عظامهم آثار معاناتهم، من أطراف مثنية وكسور وطلقات نارية. كثير منهم جُلبوا من غرب إفريقيا، ودُفنوا مع مئات الأصداف أملًا فى العودة إلى الوطن. كانت الأصداف رمزًا للبحر، كما قيل: «البحر جلبنا، والبحر سيعيدنا».

المقطع يستحضر بقوة رؤية «ليبور» للدستور كوثيقة عضوية مصنوعة من مادة حية: دم وعرق ودموع. تقول: «هناك مقاطع قليلة كهذه فى الكتاب الجديد، أستخدم فيها أساليب أدبية للوصول إلى الأفكار الرئيسية. هذا هو أسلوبى الكتابى عمومًا. أحيانًا تكون الأدوات بنائية، وأحيانًا مرتبطة بالحبكة، وأحيانًا بتحديد المشهد».
تضرب مثالًا آخر: حين كانت المحكمة العليا تناقش قضية «براون» ضد مجلس التعليم ١٩٥٤، التى أنهت الفصل العنصرى فى المدارس، كان عرض عسكرى يمرّ بالقرب، ينقل الوثيقة الأصلية للدستور و«وثيقة الحقوق» إلى الأرشيف الوطنى، حيث بُنيت لهم غرفة محصنة ضد القنابل النووية لحمايتهم فى الحرب الباردة، مضيفة: «أردت أن يستشعر القارئ المفارقة، فتح الدستور كما حدث فى قضية براون، أو إغلاقه ورفعه إلى مقام أشبه بالمقدس».
وتضيف «ليبور»: «الدستور مصنوع من كُتب قديمة وأشجار بلوط وجِلد خراف وريش إوز. لكنه رغم ذلك حى، وآمل أن يعود للتنفس مرة أخرى»، متابعة: «أحببت ما قاله فرانسيس ليبر حين شبّه الدستور بامرأة حامل على وشك الولادة. ولينكولن أيضًا تحدث عن (ميلاد جديد للحرية). عثرتُ حتى على رسمة تُظهر الدستور وفى بطنه التعديل الرابع عشر كطفل. وجدت ذلك مشهدًا ملهِمًا جدًا».