السبت 15 نوفمبر 2025
المحرر العام
محمد الباز

ستنا.. البحث عن مريم التاريخية.. مؤرخ عالمى يكشف النقاب عن حياة «أم النور»

حرف

- كتاب جديد يحاول تقديم مريم العذراء كما كانت فى زمانها ومكانها

- ولدت عام 19 قبل الميلاد لعائلة ثرية.. ونشأت فى عاصمة الجليل متعددة الثقافات

- أكثر النساء تأثيرًا فى التاريخ.. ونموذج للصمود يعبر عن نفسه عبر الزمن

- كان والد مريم «يواكيم» ثريًا للغاية يمتلك أراضى ومواشى فى صفورية عاصمة الجليل

- من سلالة ملكية مزدوجة.. وأدلة نسبها الكهنوتى باقية فى 6 نصوص فى المصادر الشرقية

- مريم.. أم يهودية تعيش فى زمن قمع الإمبراطورية الرومانية!

مريم، والدة المسيح، هى أكثر امرأة شهرة فى التاريخ، ومع ذلك فهى الأقل معرفة. تبجَل من قبل الملايين، ولا تزال من نسج الخيال، موضوعًا أثيريًا لفنانى عصر النهضة رافائيل سانزيو وساندرو بوتيتشيلى، مغمورة بنور سماوى، عذراء وطاهرة جدًا، لدرجة أنها لا تستطيع التحرك بيننا.

ولكن ماذا عن مريم الحقيقية؟ الشابة اليهودية والأم العزباء، المواطنة المتمردة من الجليل الذى احتله الرومان، والتى نجت من واحدة من أخطر فترات التاريخ اليهودى- «صراع العروش» القديم. مريم التاريخية التى قد تجعل تعاليمها ومثالها الشجاع «المؤسس الأول» لما نسميه الآن، المسيحية.

فى كتابه «مريم المفقودة: إعادة اكتشاف أم يسوع»، يعرض جيمس دانيال تابور نتائج بحثه النصى والأثرىّ المكثف على مدى العقود الثلاثة الماضية، بما فى ذلك أدلة جديدة تتعلق بنسب مريم. ويقدم مريم التاريخية منظورًا تحويليًا عن يسوع وأتباعه الأوائل، ويستعيد طبيعة وجوهر المسيحية الأولى.

حسب تابور، فإننا لم نفقد مريم هذه فحسب، بل محيت منهجيًا على مدى الألفى عام الماضية، من خلال برنامج لاهوتى وثقافى وسياسى، يهدف إلى إبعادها عن العالم البشرى وتهميش أنوثتها وأمومتها ويهوديتها.

الكتاب الذى يقع فى ٢٤٠ صفحة، صدر فى ٣٠ سبتمبر الماضى، عن دار نشر «كنوبف» الأمريكية، ويأتى فى المرتبة الثالثة للكتب الأكثر مبيعًا فى العلوم المريمية المسيحية، والمرتبة التاسعة فى كتب دراسة طبيعة المسيح، والمرتبة العاشرة فى كتب تاريخ المسيحية.

جيمس دانيال تابور هو أستاذ متقاعد للدراسات الدينية فى جامعة نورث كارولينا، حيث شغل منصب رئيس القسم لمدة عقد من الزمن. من بين كتبه العشرة السابقة، الكتب الأكثر مبيعًا عالميًا: «سلالة يسوع»، و«اكتشاف يسوع»، و«بولس ويسوع». 

على مدى العقود الثلاثة الماضية، جمع تابور بين دراسته للنصوص القديمة والعمل الميدانى فى علم الآثار، ومنذ عام ٢٠٠٨، شارك فى إدارة مشروع التنقيب الشهير فى جبل صهيون فى القدس. 

عرضت أعمال تابور فى عشرات المجلات والأفلام الوثائقية التليفزيونية الرائدة، بما فى ذلك برامج «فرونتلاين» على بى بى إس، وبى بى سى، وقناة ديسكفرى، ونايتلاين، وقناة التاريخ.

امرأة استثنائية

يبدأ المؤلف كتابه بالبحث عن مريم الضائعة فى الفصل الأول، فيقول: أفكر هنا فى مريم التاريخية المنسية تمامًا تقريبًا، مريم الحقيقية، امرأة استثنائية فى عصرها، غابت عنّا إلى حد كبير فى ضباب التقاليد واللاهوت اللاحق.

لقد أمضيت العقدين الماضيين فى البحث عن هذه المفارقة اللافتة. يطلّ مركز نوتردام القدس التابع للفاتيكان على مدينة القدس القديمة، شمال أسوار المدينة القديمة مباشرة.

«نوتردام» تعنى «سيدتنا» بالفرنسية، فى إشارة إلى مريم العذراء. أقام البابا فرنسيس هناك خلال زيارته التاريخية إلى الأرض المقدسة عام ٢٠١٤. يتألف المبنى الرئيسى من برجين متقنين، أحدهما أعلى من الآخر، يعلوه تمثال لمريم العذراء وهى تحمل طفلها يسوع. 

يمكن رؤيتها من أى مكان فى المنطقة، مطلة على البلدة القديمة المطلة على جبل الزيتون من الشرق. كثيرًا ما أسأل طلابى الوافدين حديثًا إلى القدس: «لماذا يوجد تمثال لتلك الفتاة اليهودية، وهى تحمل طفلها اليهودى، فوق مركز نوتردام الكاثوليكى الرومانى؟».

يوضح الكاتب سبب تأليفه للكتاب، وهو أن مريم هى أكثر امرأة «مُحيت» فى التاريخ. ونتيجة لذلك، فإن العثور على مريم «الحقيقية»، ليس بالمهمة السهلة. 

يشير إلى أنه مؤرخ لديانات البحر الأبيض المتوسط القديمة، مع التركيز على اليهودية القديمة والمسيحية المبكرة. ألّف كتبًا عن يسوع وبولس الرسول، لكن بحثه عن مريم، كان بلا شك التحدى الأكبر فى مسيرته المهنية. 

يقدم كتابه ويقول إنه نتيجة هذا البحث. وإنه يأمل أن يعلم ويفاجئ ويلهم القراء، لتذكر مريم كما كانت فى عصرها ومكانها- الأم اليهودية المبدعة والثورية فى الإيمان المسيحى المبكر.

لمحات عابرة

يشير الكاتب إلى الخطوات التى اتبعها خلال بحثه، فيقول: لقد تتبعت اللمحات العابرة الغامضة عن مريم على مدى العشرين عامًا الماضية. بحثت فى المكتبات، ونقّبت فى المواقع الأثرية، وسرت على التلال والوديان والمسارات التى سلكتها مريم ذات يوم. 

يضيف: لقد قمت بأكثر من سبعين رحلة إلى الأرض المقدسة على مدى العقود الثلاثة الماضية. بالإضافة إلى إعادة النظر بعناية فى مواد العهد الجديد، دققت النظر فى المصادر اليهودية المهمة والنصوص المكتشفة حديثًا التى ظهرت خلال المائة عام الماضية فقط. 

لا شك أن هذه المخطوطات والمصادر النصية مثيرة للاهتمام، لكن بعضًا من أكثر اكتشافاتى تنويرًا عن مريم العذراء، جاءت من باطن الأرض- نتاج حفريات أثرية حديثة فى الأرض المقدسة، بما فى ذلك بعض الحفريات التى شاركت فيها. 

من أكوام الكتب والملفات والمخطوطات التى تحيط بى فى مكتبى إلى استكشافاتى فى أرض إسرائيل القديمة، كشفت مساعيى عن حقائق مذهلة. غالبًا ما يكشف ما يخفى عنّا عن رؤى غير متوقعة، وفى كثير من الأحيان، قد تفتح تفاصيل تبدو ثانوية آفاقًا واسعة لفهم جديد.

يلفت إلى أنه يكتب هذه الكلمات من غرفته فى فندقه بالقدس، على بُعد عشر دقائق سيرًا على الأقدام من جبل صهيون، حيث عاشت مريم العقود الأخيرة من حياتها. مضيفًا: إليها وإلى كل من يخلّد ذكراها، أُهدى هذا الكتاب: «أفى ماريا» (السلام عليك يا مريم).

حياة غائبة

يقول تابور: يتذكر الناس مريم على أنها أم يسوع العذراء الشابة فى قصة الميلاد، ثم تظهر فجأة عند صلبه. ما يغيب هنا هو حياة مريم بأكملها.

أين نشأت؟ هل نعرف شيئًا عن والدها ووالدتها- أو أى إخوة أو خالات أو أعمام أو أبناء عمومة فى عائلتها الممتدة؟ لماذا نجدها فجأة حاملًا وتعيش فى الناصرة فى روايتنا الأولى- هل كانت مسقط رأسها «لوقا ١: ٢٦- ٣١»؟ 

أول رواية لدينا عن يسوع كشخص بالغ كانت عندما كان فى الثلاثين من عمره تقريبًا- فماذا عن مريم خلال تلك السنوات «المفقودة» الثلاثين؟ هل يمكننا أن نقول شيئًا عن حياتها اليومية- كامرأة يهودية فى عصرها؟ هل سافرت مع يسوع عندما كان يبشر بعد أن أعلن نفسه فى سن الثلاثين؟ هل كانت ستشجعه على تحقيق طموحاته؟ هل كانت قلقة بشأن المخاطر التى قد تسببها أى ادعاءات مسيحية أو إعلانه عن قرب «ملكوت الله»، بعد انضمامه إلى يوحنا المعمدان؟ 

وفقًا لأنبياء العبرانيين، كان هذا يعنى انقلابًا جذريًا فى المجتمع- سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا وثقافيًا. ولعل الأهم من ذلك كله، عندما نسمع صوت يسوع- «أحسنوا حتى لمن أساء إليكم»، «لا تحكموا على المظاهر»- ألا نسمع صوت مريم، كأى أم صالحة، تلقّن أبناءها مبادئ الحياة والسلوك منذ نعومة أظفارهم. 

يُبين المؤلف أن يسوع لم يعلن نفسه فجأة. لقد نشأ ثلاثين عامًا فى عائلة كبيرة، يعمل فى البناء، ويتولى دور الابن الأكبر فى دعم مريم ومساعدتها فى توجيه الأسرة. وأكثر من ذلك بكثير. لم تكن مريم مجرد إناء جاء بيسوع إلى العالم؛ بل كانت امرأة يهودية فخورة عاشت سنوات من الأمومة المخلصة والتوجيه.

سلالة ملكية

يوضح الكاتب أن أحد أسباب عدم تقدير المؤرخين لدور مريم هو أنه فى القرن التاسع عشر، عندما بدأ الأكاديميون البحث عن يسوع التاريخى، «هُمّشت النساء إلى حد كبير فى الأوساط الأكاديمية والكنيسة والمجتمع ككل». 

ويضيف أن تهميش المرأة فى ذلك الوقت، دفع العلماء إلى إسقاط بنى اجتماعية خاصة بهم على الجليل فى القرن الأول، وبالتالى تجاهلوا دور مريم.

ومن هذا المنظور، يقول تابور إن مريم لم تكن حاضرة فحسب فى بدايات المسيحية؛ بل كانت مؤسستها الأولى- أم حاكمة، كان من شأن حكمتها وصبرها أن يمكنا من ظهور تقليد دينى جديد.

يشير المؤلف إلى ما يسميه «المكانة الملكية المزدوجة» لمريم، فهى أحد العوامل الرئيسية فى استعادة مريم المفقودة. فقد كانت من سلالة داود- أى من سلالة الملك داود ولاوى، أول رئيس كهنة فى إسرائيل- وهى سلالة ملكية انتقلت إلى أبنائها. وبناء على ذلك، كان ابنها مرشحًا محتملًا للعرش المسيانى. (المفهوم الدينى لـ«العرش» أو «الملك» الذى سيتم تأسيسه من قبل المسيح المنتظر).

وقد تنبأ النبى إشعياء بأنه قبل نهاية الزمان، سيأتى سليل داود، المعروف على نطاق واسع بالمسيح، لينشر العدل والسلام فى جميع أنحاء العالم «إشعياء ١١: ١- ٩». ولكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن مريم تنحدر من سلالة كهنوتية مرموقة أيضًا. وقد طواها النسيان التام تقريبًا فى التراث المسيحى الغربى. ولحسن الحظ، لا تزال الأدلة على نسبها الكهنوتى باقية، فى ستة نصوص، محفوظة بشكل رئيسى فى المصادر الشرقية، والتى إما أغفلت أو همّشت. 

يعلق الكاتب: مهما كان ما ننسبه إلى يسوع والحركة الدينية اللافتة التى ألهمها، فإن دور مريم الحيوى كأم لهذه العائلة اليهودية الكبيرة كان محوريًا، قبل موت يسوع وبعدها.

مدينة منسية

يبدأ تابور بتوضيح أصول مريم وخلفيتها العائلية ومكان نشأتها، فيقول إن مريم بالعبرية، أو بالآرامية، وهى اللغة التى كانت تستخدم فى زمن المسيح، كانت ابنة حنة ويواكيم، وهما اسمان مألوفان. أما ما لا يعرفه الكثيرون هو أن مريم ولدت عام ١٩ قبل الميلاد لعائلة ثرية نسبيًا.

حيث كان والد مريم، يواكيم، ثريًا للغاية، يمتلك أراضى ومواشى فى صفورية عاصمة الجليل، على بُعد حوالى أربعة أميال من الناصرة، ولديه خدم، وبالتالى نشأت مريم فى أسرة مثقفة «مطلعة على ثقافة المدينة المتنوعة والشاملة». يلفت المؤلف إلى أن صفورية مدينة منسية. لن تجدها فى العهد الجديد، وحتى وقت قريب، لم تكن مدرجة حتى فى خرائط الأرض المقدسة الموجودة فى صفحات العديد من الأناجيل. ومع ذلك، تعدّ مفتاحًا أساسيًا لفهم أصول مريم العذراء وخلفيتها.

كانت صفورية، بصفتها العاصمة، مركزًا للتجارة والتبادل التجارى والحكم لمنطقة الجليل بأكملها، الواقعة فى مركزها الجغرافى. كانت «مدينة قائمة على تلة»، كما وصفها يسوع لاحقًا، ظاهرة بوضوح من مسافة أميال لعشرات البلدات والقرى الصغيرة المتجمعة فى «وادى بيت نطوفا» الخصيب والواسع.

يقدر عدد سكان صفورية فى زمن مريم بعشرين ألفًا أو أكثر، وكانت المنطقة المحيطة بها تضم عشرات القرى التى اعتمدت عليها كمركز لها. كما كانت تضم مبانى عامة وإدارية رائعة وسوقين وشوارع ذات أعمدة ومسرحًا وقصر هيرودس أنتيباس (ثانى ملوك عائلة هيرودس، تقاسم مع أخويه مملكة أبيه، وكانت حصته حسب القسمة الجليل وشرق الأردن، وهو إحدى الشخصيات الواردة فى العهد الجديد).

تضمنت المبانى العامة ترسانة وأرشيفًا وخزانة للمدينة والمنطقة. كانت هناك طرق رئيسية تربط صفورية بطريق البحر، وهو الطريق الرئيسى بين الشمال والجنوب فى المنطقة، وكذلك غربًا بالبحر الأبيض المتوسط وشرقًا ببحر الجليل. وقد حفظت إمداداتها المائية باستمرار بفضل خزانات ضخمة محفورة فى الصخر شرق التل الذى بُنيت عليه.

زمن اضطرابات

يتناول الكتاب تحديدًا الفترة ما بين ١٦٧ قبل الميلاد و١٣٥ ميلاديًا، ويركز على الصراعات المحتدمة بين اليهود والرومان، مسلطًا الضوء على مختلف الطامحين إلى لقب «ملك اليهود»- بمن فيهم هيرودس الكبير وعائلته، الذين كانوا على استعداد لقتل أبنائهم من أجل هذا اللقب. 

يناقش الكاتب كيف أثرت هذه الصراعات على المناخ السياسى فى ذلك الوقت، بالإضافة إلى عقلية مريم ووالديها وابنها يسوع.

حيث نشأت مريم فى زمن اضطرابات سياسية وروحية، وسط حركة تمرد مسيحية من أجل استقلال اليهود ضد النظام الهيرودى المدعوم من الرومان، وشهدت العديد من المجازر وعمليات الصلب الجماعى فى شبابها.

وكانت امرأة يهودية زارت القدس والهيكل للاحتفالات الدينية، وكانت متجذرة بعمق فى الحياة اليهودية. وعاشت فى ظل الإرهاب السياسى، حيث أعدمت سلالة هيرودس وروما من كانوا يطمحون إلى المسيح. 

فى عام ٤ قبل الميلاد، وبينما كانت مريم تبلغ سن الرشد، اندلعت ثورة فى الجليل. استولى متمرد يُدعى «يهوذا الجليلى» على مستودع الأسلحة الملكى فى صفورية وأعلن نفسه ملكًا، مما أشعل آمال «قدوم المسيح» فى القرى المحيطة- بما فى ذلك الناصرة، حيث عاشت مريم ويوسف. 

كان رد روما سريعًا وقاسيًا. قاد المندوب السورى فاروس فيلقين «حوالى ١٢٠٠٠ رجل» إلى الجليل، وأحرق صفورية بالكامل وأطلق العنان لإرهاب جماعى. 

سجل المؤرخ اليهودى يوسيفوس فلافيوس، مؤرخ القرن الأول للميلاد، أن الرومان صلبوا حوالى ألفى متمرد على طول الطرق الرئيسية، بحيث اصطفت الصلبان على طول الطرق السريعة على مد البصر، يحمل كل منها ضحية تتلوى.

بالنسبة لمريم وعائلتها، الذين رأوا دخان المدينة يتصاعد من الناصرة المجاورة، كان المشهد لا مفر منه: رائحة الأنقاض المتفحمة، وصراخ المصلوبين، ومنظر جثث جيرانهم معلقة على بُعد أقدام من الطرق التى يسلكونها يوميًا. 

كانت، كما يلاحظ تابور، صدمة تكوينية- درسًا مبكرًا فى تكاليف الإمبراطورية وثمن الأمل المسيانى. لكنها لم تكن التجربة الأكثر قسوة. ففى أواخر حياتها، قتل ابنها بسبب مطالبه أو قيادته. لكن كانت حياتها تتميز بالصبر والحزن والصمود.

دلالة ثورية

يوضح المؤلف أن مريم كانت مرتبطة بالسلالة الكهنوتية التى تسمى الحشمونائيم، وهى آخر عائلة يهودية حاكمة قبل الاحتلال الرومانى، والتى كانت تحظى بالتبجيل الشديد.

ويكشف عن سبب تسميتها بمريم وأيضًا سبب إطلاقها اسم يسوع على ابنها، فيقول إن أسباب شيوع هذه الأسماء فى المقام الأول، والقاسم المشترك بينها هو أنها جميعًا أسماء عبرية مفضلة لدى الحشمونيين. كما أنها تعكس التعاطف السياسى والوطنى بين عامة الناس فى زمن مريم.

وعندما جاءت مريم تختار اسمًا لتطلقه على ابنها، لم تختر أسماء يونانية كالإسكندر، ودوسيثيوس، وبرنيس، ولا حتى الأسماء العبرية كمناحيم، وأليعازار، ويونا، ومرثا- التى كانت جميعها شائعة أيضًا. ولكن اختارت اسم يسوع، حيث كانت تتماهى مع الرجاء المسيحانى بأن يحقق الله الفداء لشعبه، كما وعد الأنبياء.

اسم يسوع فى العبرية هو يشوع، وهو اسم خليفة موسى، الذى فتح أرض إسرائيل فى العصور القديمة، وأقام دولة يهودية مستقلة، وطرد أعداءه وهزمهم. وقد نبعت شعبية هذه الأسماء، وخاصة فى الجليل، بؤرة الثورة والتوقعات المسيانية، من دلالاتها الثورية. 

يلفت الكاتب إلى أنه لم يكن أحد ليدرك أن «ابن مريم» الرضيع يمثل تحديًا أكبر لاستقرار هذه الحدود الشرقية المضطربة للإمبراطورية الرومانية من أى من قادة الثورة هؤلاء وأتباعهم. 

كان التهديد مختلفًا، ولكنه كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بقضية الشرعية الملكية الملحّة: من فى نظر العامة يستحق أن يصبح «ملكًا على اليهود»؟ وهنا لعبت مريم وعائلتها دورًا حاسمًا غاب عن أناجيل العهد الجديد، ألا وهو التداعيات السياسية الثورية لهذا النسب الملكى المزدوج.

بيئة متنوعة

يتعمق تابور فى معنى يهودية مريم، وخاصة فى الفصل السادس من كتابه باسم «سر مريم»، والذى يقدم فهمًا أفضل لما أسمته الكنيسة منذ زمن طويل «الولادة العذراوية»، حيث يتضح استحالة فهم يسوع دون فهم أمه أولًا.

ويشير فى هذا الفصل إلى البيئة المتنوعة التى عاشت فيها مريم العذراء، فعندما حملت فى ابنها، كان ذلك فى سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، وللهروب من ثرثرة مدينتها، سافرت ١٦٠ كيلومترًا جنوبًا إلى تلال يهودا، حيث أقامت مع قريبتها إليصابات «الحامل بيوحنا المعمدان لاحقًا».

وبعد أشهر قليلة فى اليهودية، انتقلت مريم إلى الناصرة، إحدى ضواحى صفورية، حيث كان يسكن خطيبها، وهو حرفى ماهر يُدعى يوسف، الذى لم يكن والد طفلها.

وهو ما معناه الانتقال من العاصمة إلى قرية أصغر على أطراف المركز الحضرى للمنطقة. الأمر الذى عرّضها لعالم اجتماعى مختلف تمامًا عن عالم طفولتها. كلتاهما كانتا يهوديتين، لكن إحداهما كانت من سكان المدن، والأخرى أكثر ريفية وحرفية.

ومع ذلك، كانت الناصرة بعيدة كل البعد عن كونها قرية معزولة فى منطقة نائية. كانت محاطة بسلسلة من التلال المجاورة لمدينة ذات جدار مزدوج تسمى «يافا»، وهو مكان لم يسمع به سوى القليل ما لم يقرأوا يوسيفوس، مؤرخ القرن الأول، الذى يقول إنها كانت فى الجليل. 

يقول المؤلف: نادرًا ما رأيت يافا مدرجة على الخرائط التى تزعم أنها تظهر الجليل فى زمن يسوع. وبالنظر إلى حجمها وموقعها الاستراتيجى، فهى أكثر من مجرد إغفال تافه. فقد عرف يوسيفوس القرية عن كثب بل وعاش هناك لبعض الوقت.

كانت الناصرة تعتبر امتدادًا لقرية يافا الأكبر، وهى نوع من القرى الصغيرة داخل حدود مدينة يافا. يقع تل يافا، مركز هذه المنطقة الحضرية القديمة، على بُعد ٢٧٠٠ ياردة فقط، أى على بعد أربعين دقيقة سيرًا على الأقدام، من الموقع التقليدى لبيت مريم فى قرية الناصرة. كان طريق فيا ماريس «طريق البحر»، الطريق الرئيسى عبر الجليل، يلتف حول حدود يافا.

حدد علماء الآثار حدودًا ثقافية بين يافا/ الناصرة وصفورية، حيث كانت الأولى يهودية بحتة، بينما كانت الثانية أكثر تنوعًا ثقافيًا وهيلنستية. ومع ذلك، كانت المنطقة بأكملها مزدهرة وحضرية. 

يشير الكاتب إلى أن العذراء مريم انتقلت إلى القدس فى الوقت الذى قتل فيه الرومان ابنها البكر، يسوع، صلبًا، ثم أقامت على جبل صهيون بقية حياتها.

يلفت إلى أن الأهم فى بحثنا عن مريم الحقيقية هو أنها، كفتاة صغيرة، انكشفت على بيئة متنوعة تجمع بين الثقافات اليهودية واليونانية والرومانية، الراقية والفقيرة، فى مزيج كان سمة مميزة لمنطقة الجليل متعددة الثقافات التى ولدت فيها. 

وإذا كانت عائلتها ميسورة الحال، فإن ذلك يسهم بشكل كبير فى فهمنا لحياتها. إن وجودها فى العاصمة النابضة بالحياة، صفورية، يثير تساؤلات حول بعض افتراضاتنا التقليدية عن مريم كفتاة أمية فقيرة من قرية ريفية نائية، لم تطّلع على الثقافة اليونانية الرومانية. 

وقد يفسر هذا أيضًا الطرق التى تصوّر بها الأناجيل يسوع، وهو يتنقل بحرية بين مختلف الطبقات الاقتصادية والاجتماعية فى المجتمع، سواء فى لقاء قادة المئة الرومان أو فى دعوة لتناول الطعام فى منازل أثرياء ذلك الوقت.

جوهر تاريخى

يقول تابور إنه على الرغم من أن روايات الميلاد المزخرفة لاهوتيا فى إنجيلى متى ولوقا تتطور، إلا أنها تحافظ على جوهر تاريخى: حملت مريم قبل زواجها من يوسف، ويوسف ليس الأب.

لا تقتصر هذه الدلالات، أو الاتهامات الصريحة بعدم الشرعية، على أناجيل العهد الجديد. هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن هذا الافتراء ربما طارد يسوع ومريم طوال حياتهما. يبدو أنه يظهر فجأة هنا وهناك. وفقًا للمؤلف عندما اكتشف إنجيل توما القبطى، وهو نص يعود إلى أوائل القرن الثانى، عام ١٩٤٥ ضمن برديات نجع حمادى فى جرة فى رمال مصر، (نص غير قانونى يحتوى على ١١٤ قولًا منسوبًا للمسيح).

ومنها القول ١٠٥ الأكثر إثارة للاهتمام فى هذا الصدد: «قال يسوع: من يعرف أباه وأمه يدعى ابن زانية». ويمكن ترجمة هذا أيضًا على أنه سؤال: «هل يسمونه ابن زانية؟» يبدو أن هذا التلميح يعنى أن حمل مريم بيسوع يمكن اعتباره أمرًا سلبيًا.

يوضح الكاتب أن المصطلح اليهودى للطفل المولود من أى علاقة جنسية خارج إطار الزواج هو «مامزر»، وغالبًا ما يترجم خطأ إلى «لقيط»، ولكنه مصطلح قانونى، وليس مصطلحًا بذيئًا فى العبرية. 

وهناك مصطلح مشابه يستخدمه الحاخامات وهو «المكتم» أو «المسكت». هذا الشخص يعرف أمه دون أن يعرف أباه. وهناك أيضًا مصطلح «اللقيط»، المستخدم لمن لا يعرف أبًا ولا أمًا. 

ومع ذلك، يفترض أن أى طفل تولده امرأة مخطوبة أو متزوجة هو لزوجها، إلا إذا كانت فاسقة لدرجة تجعل هذا الافتراض غير مقبول. وبناء على ذلك، يعتمد الكثير على الرجل، وكيف يقرر التعامل مع الحمل.

فى رواية متى عن اكتشاف يوسف حمل خطيبته، يقال لنا صراحة إن يوسف لم يعلن الأمر- بل مضى قدمًا فى الزواج، واتخذ الطفل ابنه، «غير راغب فى إهانتها» «متى ١: ١٩- ٢٥». ومن الناحية القانونية، يصبح يسوع ابنه الشرعى.

يعتقد تابور أن إعادة مريم إلى التاريخ، لا يعنى رؤيتها كشخصية أثيرية، بل كامرأة صقل إيمانها وشجاعتها فى معاناتها. كانت ليهوديتها أهمية: فقد عاشت وتنفست التوراة، وطقوس الهيكل، وآمال إسرائيل فى الخلاص. كانت تنتمى إلى مجتمع ينتظر العدالة، وغرست هذا الأمل فى ابنها.