المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

«الاستشراق هيمنة مستمرة».. بيتر جران يُفكك كتابات الغرب العنصرية عن مصر 

مصر
مصر

منذ أن ظهر كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، قبل ما يزيد على قرن من الزمان، والكتابات التاريخية الأنجلو- أمريكية التى تتناول مصر الحديثة، لم تتطور حتى الآن، فكل ما نجده فى هذه المنطقة مجرد مواد «بيليوجرافية» قليلة للطلبة الذين يدرسون مصر.

هذه النتيجة خلص إليها المؤرخ الأمريكى بيتر جران، وضمنها فى كتابه: «الاستشراق هيمنة مستمرة.. المؤرخون الأنجلو- أمريكيون ومصر الحديثة»، الصادر حديثًا فى نسخته العربية عن المركز القومى للترجمة بالقاهرة، ترجمة الدكتورة سحر توفيق، ومراجعة المؤرخ المصرى الكبير الدكتور عاصم الدسوقى.

وأقيم حفل لإطلاق النسخة العربية للكتاب، بحضور مؤلفه بيتر جران، حيث كانت «حرف» حاضرة، وتنقل فيما يلى أبرز ما قاله، إلى جانب أبرز ما يضمه الكتاب من أفكار.

سحر توفيق

الإرساليات التبشيرية

قال بيتر جران إن تاريخ الدراسات التاريخية الأمريكية عن مصر يعود إلى ما قبل ١٨٩٠ وما بعدها، فمنذ أواسط القرن التاسع عشر، عززت الإرساليات التبشيرية البروتستانية الاتصال الأمريكى بمصر الحديثة.

وأضاف «جران»: «لم يكن هناك كيان لمؤسسة أمريكية يُقارن بتلك الإرساليات. لكن نخبة الساحل الشرقى الأمريكى، الذى انتصر فى الصراع الإقليمى خلال انتخابات ١٨٩٦، وبناء عليه دخلت أمريكا إلى مرحلة جديدة فى الصعود إلى العالمية، وكانوا أنفسهم من أصول بروتستانية، رأوا أن التورط الشديد للإرساليات مع الناس فى مصر لن يجعلها مفيدة، لذا عقدوا تحالفًا مع رجال الاستعمار البريطانى، وبدأوا يعتمدون على مؤلفيهم وخبراتهم فيما يختص بمصر».

مصر فى اوئل التسعينيات

وأشار إلى تجاهل أعمال اثنين من المبشرين البارزين، هما أندرو واطسون، مؤلف كتاب «الإرسالية الأمريكية فى مصر ١٨٥٤ - ١٨٩٦»، وابنه تشارلز آر، مؤلف كتاب «مصر والحملة الصليبية»، وهما الكتابان اللذان قدما رواية عن السياسة فى مصر، مع معلومات مفصلة حول أنشطة المدارس الأمريكية والمؤسسات الأخرى التى ترتبط بالإرساليات.

وواصل: «كلاهما رأى أن مصر فرعونية بما يفيد توجهًا مضادًا لفكرة بناء الإمبراطورية. وهذا يمكن أن يشرح السبب فى اتجاه المنظومة التعليمية الرئيسية فى الساحل الشرقى الأمريكى إلى كتاب (مصر الحديثة)، الذى ألفه المندوب السامى البريطانى فى مصر اللورد كرومر، واتخذوه كأهم الأعمال فى هذا المجال، وأدى إلى تطور غير متوقع، حيث أصبح هذا الميدان البحثى أنجلو- أمريكيًا وليس أمريكيًا فقط».

وأكد أن الإعلام الأمريكى وصف كتاب «مصر الحديثة» للورد كرومر، عندما ظهر فى الأسواق لأول مرة، منذ أكثر من ١٠٠ عام، بأنه عمل كلاسيكى مهم، مرجعًا استحسان وقبول الكتاب فى المحيط الأنجلو- أمريكى إلى أنه «كان عنصريًا بما يكفى ليتناسب مع ذوق قراء أوائل القرن العشرين».

الكاتب بيتر جران

نموذج  الاستبداد الشرقى

يضم كتاب بيتر جران «الاستشراق هيمنة مستمرة» ٤ فصول، هى: «الرواية التقليدية»، و«النقاط العمياء فى الرواية التقليدية ١٧٩٨ الشيخ حسن العطار ومحمد على باشا»، و«فرضية الجذور المصرية العثمانية لمصر الحديثة»، إلى جانب الفصل الأول الأهم وهو «تاريخ الكتابات الأنجلو- أمريكية حول مصر الحديثة منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم».

وفى هذا الفصل يتناول «جران» تاريخ التفسير الأكاديمى الأنجلو- أمريكى لمصر الحديثة، منذ أواخر القرن الـ١٩ حتى اليوم، من خلال تأمل نصوص ممثلة للمراحل الثلاث التى ناقشها، وهى: مرحلة التشكيل «منذ سنوات العقد ١٨٩٠ وحتى سنوات العقد ١٩٢٠»، ومرحلة تطور الثورة «منذ سنوات ١٩٣٠ وحتى سنوات ١٩٧٠»، ومرحلة العولمة «منذ سنوات ١٩٧٠ حتى الحاضر».

ويشدد المؤرخ الأمريكى على أن نموذج «الاستبداد الشرقى» كان هو السمة المميزة لهذا الميدان، طوال تلك المراحل الثلاث، مع وجود تحديات صغيرة متعددة لهذا النموذج، لكن لم ينجح أى منها، على الأقل حتى الآن.

ويوضح أن أول هذه التحديات يرجع إلى زمن تطور الثورة، عندما بدأ بعض الكتاب يصورون مصر باعتبارها بلدًا استبداديًا لكن حداثيًا، وقدم آخرون تحليلًا طبقيًا، لكن هذا لم يتطور بشكل كامل أبدًا. وفى زمن أقرب أثار عدد من الكتاب الشك فى التفكير الثنائى الذى يقوم عليه نموذج «الاستبداد الشرقى»، ومع كل هذا لم يظهر نموذج بديل حتى اليوم.

شوارع مصر 

ويشير إلى أن كتاب اللورد كرومر «مصر الحديثة» كان شديد التأثير، سواء داخل الميادين الأكاديمية أو خارجها، ويرجع ذلك إلى أهمية المؤلف وبراعته الواضحة فى تناول موضوعه، إلى جانب ما يخص التوقيت. 

ويتابع: «يمكن تفسير تأثير هذا الكتاب جزئيًا بحقيقة أنه كان إعادة صياغة واضحة لما هو مألوف. كانت صحف ذلك اليوم تقدم أفكارًا مماثلة، ومن ثم فقد أفاد نشر الكتاب كنوع من تأكيد الحال كما يعرفه القراء، وحيث امتطى الكتاب التقاليد، أصبح من الممكن قراءته فى الولايات المتحدة الأمريكية، لإشارته إلى (سفر الخروج)، وأمكن قراءته فى المملكة المتحدة- وربما هذا ما قصده كرومر نفسه- كنموذج يمثل نمط الاستعمار الإغريقى والرومانى».

ويذهب «جران» إلى أنه بالنسبة لمن عملوا فى الوظائف الكولونيالية، كانت إشارة «كرومر» إلى العالم القديم بارزة على وجه الخصوص، ربما لأن تعليمه وتجاربه كانت تعكس تعليمهم وتجاربهم. فمسئول كولونيالى مثل «كرومر»، تلقى تعليمًا جامعيًا أعده لمناصب فى الخدمة العامة، ونعرف هذا لأن كثيرين من الموظفين فى الحكومات الاستعمارية كتبوا مذكراتهم، بعضهم كانوا أيضًا باحثين أكاديميين.

وفى الدراسة الجامعية لتلك الأيام، كان من ينتظر مستقبلًا فى العمل، ضمن موظفى الحكومات الاستعمارية، يتلقى تعليمًا أدبيًا لتطوير مهاراته ككاتب وكدارس للكلاسيكيات. وكان هذا التعليم فى الكلاسيكيات يعطى الدارس نموذج الإمبراطوريتين الإغريقية والرومانية كمنظور لفهم الإمبراطورية البريطانية. ولا شك أنه ربما قرأ هيرودوت أول كاتب يقدم فكرة الغرب مقابل الشرق، وفق «جران».

عاصم دسوقى

التفسير الخاطئ

يذهب بيتر جران فى كتابه «الاستشراق هيمنة مستمرة» إلى أن «استخدام الاستبداد الشرقى فى تفسير التاريخ المصرى مستمر، لأنه يلعب دورًا أساسيًا فى الرواية المرتبطة بالهوية الأمريكية، والتى تبدو فيها أمريكا قد تأسست على أيدى (الآباء المهاجرين) الذين جاءوا إلى عالم جديد».

حدث هذا بدءًا من الإصلاح البروتستانتى، الذى أدى دورًا فى صعود رأسمالية العالم الحديث، بدأ «البروتستانت» فى ملاءمة فكرة «الشعب المختار من اليهود»، وبناء تاريخهم وفقًا لذلك. وفى ذلك الوقت كانت معاداة السامية، كما فى كتابات مارتن لوثر الأخيرة، فى أوجها، وفى تلك المرحلة الزمنية أيضًا، أو على الأقل خلال القرن التالى، ظهر تبرير متمركز حول مصر بين البيوريتانيين، يستند إلى فهم معين لجزء واحد من قصة الخروج، خاصة الجزء الذى قاد موسى فيه شعبه من العبودية إلى الحرية، من مصر إلى كنعان.

كان من الواضح أن هذا الحدث يشير إلى ولادة الغرب، وإثبات أن الله بالفعل كان له «شعب مختار»: اليهود أولًا ثم المسيحيون. وما كان بارزًا على نحو خاص حول الرحلة إلى كنعان، هو عدم الصلة الواضحة بالأضرار الجانبية التى حدثت خلال تلك العملية: أغرق الله جيش فرعون فى البحر الأحمر، لكن هذه الخسارة الفادحة فى الأرواح لم تكن ذات أهمية، على الأقل، لم يكن لها أى آثار أخلاقية على العبرانيين.

مصر

توصل أسلافنا إلى نتيجة مفادها أنهم كانوا مثل العبرانيين من قبلهم، وربما شهدوا موت الكثير من الناس، لكنهم لم يكونوا مسئولين عن ذلك. كانوا روادًا ومستغربين، أى أنهم مثل العبرانيين، كانوا جزءًا من خطة الله لصعود الغرب. ونحمل اليوم هذا الإرث عندما نصف أنفسنا بـ«المستغربين».

ويشدد «جران» على أن «الحياة فى مجتمع يعد نفسه غربيًا، ويعد قصة الخروج أصله، كما نعيشه، يجعل من غير المدهش أن نجد لدينا أفكارًا خاصة إلى حد ما عن مصر. إذا كان لدى عرابى أو سعد زغلول أو عبدالناصر أفكار مختلفة عما لدينا عن مصر، أو إذا سمح للعلم أن يغير تفاصيل كيفية فهمنا للتاريخ المصرى، فقد تنهار قصة الغرب فى يوم من الأيام وتنهار معها هويتنا».

ويضيف: «فى هذا السياق، فإن الوظيفة الأساسية لمجالنا، جنبًا إلى جنب مع علم المصريات وعلم الآثار، والوارد ذكرها فى الكتاب المقدس والكلاسيكيات، هى وظيفة حارس الهوية الغربية. نحن موجودون لمنع ظهور تفاهمات أخرى لأنفسنا أو لمصر».

ويختتم: «وللخروج من هذا المأزق، فى اعتقادى يجب علينا أن نعلم طلابنا أنها ستكون فكرة جيدة أن نفترض أننا غربيون قليلًا، ولكننا حقًا مختلفون تمامًا حتى عن أوروبا الغربية. نحن أمريكيون شماليون، أى أننا فى مختلف الأحوال والظروف وبشكل أساسى، مزيج من الثقافات التى يمكن العثور عليها فى أمريكا الشمالية، وبعد أن تحررنا من عبء كوننا غربيين سيتحرر وسطنا فى أمريكا من وظيفة الحارس تلك».