السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هذا هو طه حسين

طه حسين
طه حسين

فى أزمة الجامعة التى تعرض لها عميد الأدب العربى وتم إيقافه عن العمل، وكانت النتيجة أنه عانى من أزمة اقتصادية صعبة، عرضت عليه الجامعة الأمريكية فى القاهرة العمل فى إحدى الجامعات فى الولايات المتحدة، فكان رده حاسمًا ويدل على شخصية طه حسين ومفهومه للكاتب ودوره وواجبه نحو الوطن، قال: «إننى أستاذ معزول وعالم ممنوع من العمل، ومن واجبى ألا أشتغل فى السياسة، وإنما أؤلف الكتب وأسعى إلى الرزق، أما فى أمريكا سأكون أجنبيًا وسأنظر إلى حياة البلد دون أن أشارك فيها، ولن يكون علىّ إلا أن أقوم بواجب محدود». 

فلم يكن طه حسين ناقدًا كبيرًا وأكاديميًا نال أرفع الدرجات العلمية فى مرحلة مبكرة، وأثار الجدل بأفكاره المستنيرة، بل كان ناقدًا ومفكرًا وروائيًا وكاتبًا اجتماعيًا، ومترجمًا وفيلسوفًا ومؤرخًا، ونموذجًا للمثقف الوطنى، نعم كان كل هؤلاء، فحين أتذكر مؤلفاته التى تعرفتُ عليها فى سن مبكرة «الأيام، حديث الأربعاء، الفتنة الكبرى، الأدب الجاهلى، نظام الإثينيين، ألوان، دعاء الكروان، شهر زاد، أديب لسوفوكليس، وغيرها، لن أبالغ إذا قلت إن كل هؤلاء فى رجل واحد، حمل على عاتقه تجديد الثقافة العربية، وخاض فى سبيل هذه الفكرة عشرات المعارك الضارية، وقد أسعدنى الحظ بقراءة ما تيسر لى من مؤلفاته فى سن مبكرة، وخاصة كتاب الأدب الجاهلى. 

عرفت من طه حسين وتعلمت كيف أقرأ التراث العربى دون تسليم أو قداسة، وبعد سنوات كنت ومازلت أسأل نفسى ماذا لو لم أقرأ طه حسين، بل ماذا لو لم تحظ الثقافة العربية بهذا المبدع الاستثنائى؟ دون شك كانت سوف تتأخر وتعانى كثيرًا! ما زلت أذكر الصدمة الأولى حين قرأت ما كتبه عن مجنون ليلى فى كتاب «حديث الأربعاء»، والذى شكك فى وجوده من الأصل، وقال «أزعم أن قيس بن الملوح إنما هو شخص من هؤلاء الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، إنما كان شخصًا اخترعه نفر من الرواة، وأصحاب القصص، ليلهوا به الناس أو ليرضوا به حاجة أدبية أو خلقية «وراح يحلل الروايات وآراء النقاد القدامى فى احتمالية عدم وجوده من الأصل، وكانت تلك الصدمة الأولى التى ما زلت أتذكر تأثيرها حتى الآن، وكان عميد الأدب العربى قد نشر هذه الآراء عام ١٩٢٤ فى سلسلة مقالات قبل أن تصدر فى كتاب، لقد رأيت من خلال عيون طه حسين الأدب العربى فى بداية الطريق، وكنت دائمًا ما أتخيله يقتحم غابة كثيفة، قوامها التراث العربى بكل تجلياته شعرًا ونثرًا وأفكارًا شائكة، يجلس فى مقدمة الغابة وإلى جواره أوجست كونت وديكارت، بينما تراجع الجميع إلى الخلف؛ حيث سيتغلب الجدل على التناقض فى غابة التراث. طه حسين الذى شك فى قيمة الأدب الجاهلى، بل وألح فى الشك، وألح عليه الشك- كما يقول- هو فى كتاب الشعر الجاهلى الذى صدر عام ١٩٢٦، بل تجاوز الشك إلى العصور التالية كما فعل مع مجنون ليلى، لقد ذهب طه حسين إلى غابة التراث العربى فى مطلع القرن الماضى، وليس فى رأسه سوى البحث أو قل الشك، وذهب غيره بعد عقود إلى نفس الغابة، وفى رأسه أفكار يرغب فى التحقق من صحتها، والبحث عن أصولها، فثمة ما هو ثابت فى التراث العربى وما هو متحول! انحاز طه حسين إلى البحث الفنى واللغوى، إلى أن هذا الشعر الذى ينسب لأمرئ القيس والأعشى لا يمكن من الوجهة الفنية واللغوية أن يكون لهؤلاء. 

طه حسين المثقف الوطنى بامتياز كرس حياته لمناقشة المسكوت عنه فى الأدب العربى، وأيضًا فى المجتمع المصرى، وكان بحق مجدد الثقافة العربية ومدافعًا شرسًا عن العقلانية. رفع شعار إعمال العقل منذ أن وطأت أقدامه قاعة الدرس، سواء فى أروقة الأزهر أو فى مدرجات السوربون.. لقد آمن طه حسين بالدراسة الموضوعية و غير المنحازة لتراث الأجداد فى مرحلة كان السواد الأعظم يفضِّل النقل على إعمال العقل، وطالب بالتخلى عن الإيمان بما هو راسخ وثابت؛ إذ جاء كتابه «الشعر الجاهلى» عام ١٩٢٦ عاصفة مدوية زلزلت أركان المجتمع المصرى، وقاد صاحبه إلى ساحة المحاكم، ليحطم النزعة المحافظة والجمود الذى كان يتعامل به الجميع مع تراث الأجداد، واختار حرية الفكر، وحمل على عاتقه الحفاظ على هوية الثقافة المصرية وترسيخها لدى المصريين، وكما قاد رفاعة الطهطاوى قطار النهضة من باريس إلى القاهرة فى مطلع القرن التاسع عشر كشف طه حسين للقارئ فى مطلع القرن العشرين عن أسرار الثقافة اليونانية والرومانية القديمة، ووضع أمامه فى فترة مبكرة كنوز هذه الثقافة، فحين أوفدته الجامعة المصرية إلى باريس لإكمال دراسته ذهب هناك، ليس فقط لينال درجة علمية، بل لينهل من الثقافة الغربية والعلوم الحديثة وكلاسيكيات الأدب الغربى، ونال أيضًا درجة الدكتوراه حول أطروحته التى تناولت نظرية علم اجتماع التاريخ عند ابن خلدون.