الإثنين 20 مايو 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

هل يستجيب البابا؟

الباحث شريف رمزى: خلط العقول الكنسية بين الثابت والمتغير يعوق تجديد الكتب التراثية

البابا تواضروس والباحث
البابا تواضروس والباحث شريف رمزى

فى الدورة الأخيرة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، استقبلت المكتبات كتابًا فى غاية الأهمية، ليس على المستوى القبطى فحسب، بل يمتد إلى إطار أشمل، ضمن الدراسات الدينية بصفة عامة، وما يتعلق بملف تجديد الخطاب الدينى، وإعادة النظر فى الكتب الدينية التراثية على وجه التحديد.

الكتاب هو «سِيَر البيعَة المقَدسَة- سِيَر الآباء البطاركة»، الذى كتبه الشماس موهوب بن منصور بن مُفَرِّج الإسكندرانى «١٠٢٠ - ١١٠٠م»، وعكف الباحث شريف رمزى على دراسته وتحقيقه، فى هذا الإصدار الجديد. 

وإلى جانب الأهمية التى يحملها هذا الكتاب، كأحد أهم مصادر التاريخ القبطى، يعتبر دراسته وتحقيقه وإصدار ما يمكن اعتباره نسخة جديدة منه، أمرًا فى غاية الأهمية، لأنه يفتح بابًا أمام تقديم «نسخ حديثة» من الكتب التراثية للكنيسة، وعلى رأس أهم كتبها «السنكسار».

عن هذا الإصدار المهم، ورؤيته لإمكانية إصدار «نسخة جديدة» من «السنكسار» وغيره من الكتب التراثية القبطية الأخرى، يدور حوار «حرف» التالى مع شريف رمزى، والذى إلى جانب شهرته كباحث ومؤلف، يحمل صبغة كنسية رسمية، من خلال عضويته فى «اللجنة البابوية للتاريخ القبطى».

كتاب السنكسار

■ متى بدأت مشوارك فى الكتابة؟

- مُبكرًّا جدًّا، بمجرد أن تعلمت حروف الهجاء بدأت فورًا فى التعبير عن نفسى، فكنت أكتب قصصًا تُناسب سنى وقتها، وبنهاية المرحلة الابتدائية كنت قد تمرست على تأليف «الاسكتشات» المدرسية والصَّيحات الكشفية.

كان لدىّ نهم شديد للقراءة والمعرفة، وكنت كلما قرأت أكثر تنمو بداخلى مشاعر وتراودنى أفكار فأدونها بأسلوب أدبى، فى صورة قصة قصيرة أو زجل أو شعر. وكنت أحظى بتشجيع من حولى، فى البيت والمدرسة والكنيسة، وأسمعهم دائمًا يُردِّدون: «الولد ده موهوب وسابق سِنّه»

■ تتعدد إصداراتك فى مجال تحقيق النصوص، لكن كتابك «أعجوبة نقل جبل المقطم» كان بمثابة شهادة ميلاد جديدة لمؤرخ ومُحقق يجيد اختيار موضوعاته، ومُتمكن من أدواته.. كيف جاء هذا الكتاب؟

- كل ما فى الأمر أننى قرأت الرواية التاريخية بتجرد تام، ووضعت كل قناعاتى السابقة جانبًا. جمعت المصادر التاريخية ورتبتها، ثم وضعتها أمام القارئ، مع صور مخطوطات ووثائق نادرة لم يُسبَق نشرها، وتركت له الحرية لاستنباط الحقيقة التاريخية وتكوين قناعته الخاصة، بمعزل عن الفلكلور والمُبالغات.

■ وماذا عن أحدث إصداراتك «سِيَر البيعة المقدسة- سِيَر الآباء البطاركة»، الذى لاقى اهتمامًا كبيرًا بين جمهور معرض القاهرة الدولى للكتاب ٢٠٢٤؟

- هذا الاهتمام بالتأكيد يعكس وعى القارئ واهتمامه بجودة العمل ومضمونه، والذى أرى أن أهميته تنبع بالأساس من كونه أحد أهم المصادر التاريخية، التى ترجع إلى حقبة العصور الوسطى، فهو وإن كان يؤرخ لسِيَر بطاركة الكنيسة القبطية، يُقدم أيضًا صورة غاية فى الأهمية عن تاريخ مصر السياسى والاجتماعى بعيون المؤرخين الأقباط. ويحتل «سِيَر البيعة المقدسة» مركز الصدارة بين الكتابات التى تؤرخ لكنيسة الإسكندرية وبطاركتها، وتسلط الضوء على جوانب مختلفة فى علاقتها بالكنائس الشقيقة، فى أنطاكية والحبشة والنوبة، وبأتباع المذاهب المسيحية الأخرى، وبالشِّيَع المُنشَقَّة عنها، فضلًا عن علاقتها بالسلطة الحاكمة فى العصور المُختلفة.

ويُعد «سِيَر البيعة» أحد أهم المصادر التى استفاد منها مؤرِّخو العصر الوسيط فى كتاباتهم، وفى مقدمتهم أبوالمكارم سعدالله بن جرجس بن مسعود، فى كتابه «أخبار من نواحى مصر وإقطاعها»، وأبوشاكر بطرس بن الراهب، فى كتابه «التَّواريخ»، والمكين جرجس بن العميد، فى كتابه «المجموع المُبارك»، والأخير هذا نقل عنه «المقريزى» وغيره من المؤرخين المُسلمين، الكثير من التفاصيل الدقيقة، والتى تعود فى الأصل إلى «سِيَر البيعة».

لوحة 

■ ما الذى يميز هذا الإصدار عن الإصدارات السابقة التى تناولت نفس العمل؟

- خلافًا لكُل النشرات السابقة التى تناولت هذا العمل المهم، تعد هذه النشرة هى الأولى التى تُقدم النص مع تحقيق وافٍ وإيضاحات مُستفيضة وفهارس مُتنوعة.

كما أن هذه المرة الأولى التى يصدُر فيها العمل منسوبًا إلى مؤلِّفه الحقيقى، الشماس موهوب بن منصور بن مُفَرِّج الإسكندرانى «١٠٢٠ - ١١٠٠م»، والَّذى حملَ على عاتقه مهمَّة جمع السِّيَر، وترجمتها من اللغة القبطية إلى اللغة العربية، بمُساعدة رفيقه، الشماس ميخائيل بن بدير الدمنهورى وآخرين، خلافًا للاعتقاد الذى كان سائدًا فى الماضى بنسب العمل إلى الأنبا ساويرُس بن المُقَفَّع، أسقف الأشمونين.

وتُغطِّى هذه النشرة حقبة تاريخية عاشها ٦٧ بطريركًا، وتمتَد من أواخر القرن الأول إلى أواخر القرن الحادى عشر، اعتمادًا على أقدم المخطوطات التى وصلتنا، والغاية من ذلك هى الوصول إلى أقرب صورة يُمكن أن تُعبر عن النص فى حالته الأصلية. 

■ ألهذا وصفه قداسة البابا تواضروس الثانى بـ«التحفة الموسوعية»؟

- قداسة البابا تواضروس الثانى أب حقيقى وقائد ماهر، يمسك بدفة الكنيسة، ويُديرها بكل إخلاص وتفانٍ، وقد أظهر نحوى من الأبوة والمحبة ما تعجز عن وصفه الكلمات.

لقد استقبلنى فى مقره، وأعطانى الفرصة لعرض مشروعى عليه، فى جلسة امتدت لنحو الساعة ونصف الساعة، وتفضَّل بمراجعة الكتاب فى وقت قياسى، رغم مشغولياته الكثيرة، وقدم له بكلمات مفعَمة بالدعم والتشجيع، لذا فأنا ممتن له جدًا، وأشكره من صميم قلبى.

سِيَر البيعَة المقَدسَة- سِيَر الآباء البطاركة

■ تصدر العمل أيضًا اسم أسقف المنيا، و٣ من الأساتذة فى جامعات دولية، وكلهم أشادوا بالعمل وبالجهد العلمى المبذول فيه.. كيف ترى ذلك؟

- فى الحقيقة لم يكن لهذا العمل أن يخرج بهذا المستوى، لولا الدعم الصادق الذى أولانى إيَّاه كل من نيافة الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا، والأستاذ الدكتور أشرف إسكندر صادق، أستاذ الآثار المصرية والقبطيات وآثار الكتاب المقدّس بجامعة «ليموج» فى فرنسا، والأستاذ الدكتور چوزيف موريس فلتس، أستاذ علم آباء الكنيسة فى الكليات الإكليريكية فى مصر والخارج، والأستاذ الدكتور صموئيل قزمان معوض، الباحث بقسم «القبطيات» بجامعة «مونستر» فى ألمانيا، فجهودهم المخلصة هى التى حفظت لهذا العمل طابعه العلمى.

■ وماذا عن الحفاوة والاهتمام الكبير الذى قوبل به الكتاب فى الأوساط العلمية؟

- العمل على تحقيق «سِيَر البيعة المقدسة» كان بمثابة حلم كبير، ظل يراود الباحثين والدارسين فى مؤسسات عريقة داخل مصر وخارجها، على مدى سنوات طويلة، ورُصدت له ميزانيات ضخمة، وفى بعض الأحيان لم يكن الأمر يتجاوز حيز الدعاية، لأسباب مادية بحتة، أو حتى «لزوم الشُّو».

ولهذا كان المُخلصون فى هذا المجال مُتلهِّفين لصدوره، خاصة على يد باحث مصرى، ومن هنا جاءت مظاهر الحفاوة والاهتمام، التى ظهرت جلية من خلال «السِّيمنار» الذى انعقد فى المعهد الفرنسى للآثار الشرقية فى القاهرة، وأداره الدكتور مجدى جرجس، الأستاذ فى جامعة كفرالشيخ، المُستشار العلمى للمعهد، فى حضور نُخبة من المُثقفين.

جرجس شكرى والبابا تواضرس

■ هل واجهتك أى تحديات قبل أن تعبُر بهذا العمل الضخم إلى النور؟

- تحديات كثيرة ومتنوعة ومعتادة، كل باحث مخلص فى عمله يواجهُها، بعضُها يتعلق بالحصول على المصادر، وفى مجالنا يزداد الأمر صعوبة بسبب القيود التى يفرضها البعض على نوعية معينة منها، مثل الوثائق والمخطوطات، والآخر يتعلق بالنشر والتوزيع، إلى جانب ثالث يتعلق بأصحاب النفوس الضعيفة، الذين يُحاولون إعاقة أى عمل ناجح لأسباب نفسية أو مادية «السبوبة».

■ أيمكن أن يُحدِث الكتاب نقلة نوعية فى طريقة تعامل الكنيسة مع كتبها التراثية؟

- فى الكنيسة عقول واعية تفرق بين الثابت والمتغير، لكن الطريق لا يزال طويلًا، والنقلة النوعية التى تتحدث عنها تحتاج إلى جهد شاق ومُثابرة وإرادة حقيقيَّة، خاصةً مع وجود عُقول أُخرى تخلط بين الثابت والمُتغير.. المُهمّ أننا بدأنا، والبقية ستأتى، ولو على مهل.

■ فى ظل وجود هذه العقول، هل جهود تحقيق وتدقيق النصوص التاريخية يمكن أن تشمل كتاب «السِّنكسار»؟

- نأمل ذلك. لكن الأمر مرهون بقرار كنسى، لأن «السنكسار» كتاب طقسى، يحتل مكانة خاصة فى الكنيسة، وتُقرأ منه فصول يومية فى كل قُداس على سبيل الوعظ، وأى جهد فردى أو جماعى، بمعزل عن الكنيسة ومؤسساتها، سيجد مُقاومة من داخل الكنيسة.

نُسخة «السِّنكسار» المُستخدمة حاليًا فى كنائسنا صدرت بعد نياحة قداسة البابا شنودة الثالث، فى فترة خلو الكرسى البطريركى، ولم يكن الوقت مُناسبًا لذلك، ومع تقديرنا للجهد المبذول فيها، أرى أنها أضافت إلى الأخطاء القديمة أخطاء جديدة، تاريخية وجغرافية، وأخرى مُرتبطة بالتقويم، إلى جانب خلط بين أشخاص لم يجمعهم زمان أو مكان، إلى آخره من الأخطاء التى يصعُب حصرها.

من واقع دراستى لـ«السِّنكسار» ومخطوطاته وطبعاته المُختلفة، أرى- كما يرى كثيرون غيرى- أن الحاجة لا تزال مُلحّة لإعادة كتابة هذا الكتاب الطَّقسى المهم بطريقة عصرية، لا مُجرَّد تنقيحه أو تصحيحه.

فنحن بتشبثنا بمبدأ التنقيح وتكراره من آنٍ لآخر، نكون كمن رقص على السلم، فلا نحن أبقينا على «السِّنكسار» فى صورته الأصلية، ولا نحن أخضعناه للتدقيق والتحقيق العلمى المطلوب، ولا نجحنا إلى اليوم فى تنقيحه وتصحيحه كما يجب.

■ أنت إذن تُطالب الكنيسة بكتابة سنكسار جديد؟

- نعم، كتابة «السِّنكسار» وفقًا لمعطيات العصر، وترجمته إلى لغاتٍ يفهمها أولادنا الذين نشأوا فى المهجر، أمر تفرضه الضّرورة. 

البيعة المقدسة

■ كيف تُقيم حال الدراسات القبطية فى مصر؟

- الدراسات القبطية تنمو بشكل ملحوظ، والاهتمام بها يتزايد يومًا بعد يوم، ومؤسَّسات الدولة مع الكنيسة تعمل بجد ونشاط، وهذا التعاون يظهر فى صورة مؤتمرات ومشروعات مُشتركة.

الجامعات المصريَّة أصبحت أكثر انفتاحًا تجاه علوم القبطيات، ولدينا جيل من الشباب الواعد يحاول أن يضع بصمته فى هذا الإطار. الدِّراسات القبطيَّة بفروعها المختلفة حقل خصب يجذب الباحثين والدارسين من شتى بقاع الأرض، والاهتمام بهذا الحقل يعزز مكانة مصر فى الأوساط العلمية على مستوى العالم، ويخدم مصالحها العليا.

■ كتب التاريخ دائمًا تزخر بالحكايات والنَّوادر.. هل لك أن تعطينا مثالًا من «سِيَر البيعَة».. 

- هل سمعت عن القبطى الذى دُعى له فى مكة؟

يروى لنا «سِيَر البِيعَة» عن الشيخ أبواليُمن قزمان بن مينا، وكان عاملًا للخراج فى زمن الإخشيديين ثم الفاطميين، أن كتابًا وصَل من الخليفة فى بغداد إلى والى مصر، كافور الإخشيدى، يطلب منه إعداد تقدير بعوائد مصر من الجزية والخراج وخلافه، مقابل النفقات، فكانت النفقات أزيَد من العوائد بـ٢٠٠ ألف دينار.

سأل «كافور» وزيره على بن محمَّد بن كلا عمَّا يجب أن يفعله حيال هذا العجز، فأشار عليه بتخفيض الرواتب بمقدار ١٠٠ ألف دينار، وزيادة الضرائب بمثلها، فأرسل «كافور» فى طلب الشيخ أبواليمن قزمان بن مينا، وعرَض عليه الأمر، وشدد عليه فى طلب المشورة، فقال لُه «أبواليُمن»: «إنَّ الَّذى أشارَ عليك بأن تختصر أرزاق أرباب الرَّواتب الَّذين هُم فى عَول الله سُبحانه، قد أغرى بك وأراد قُبح السُّمعة عنك، لأنَّ الله أجرى أرزاقَهُم على يديك، فمتى فعلت بهم هذا قطع بك، وأمَّا ما أشار به عليك من الزِّيادة فى المُكُوس عن الضَّرائب المُستَقَرَّة، فالَّذى أسَّسَ أصل هذا وفرعَهُ، قد عرف مقعدَهُ من جُهنَّم، لأنَّ إحداث الرُّسوم يُبعِد من الله».

أعُجِبَ «كافور» بإخلاص «أبواليمن» وامتثل لنصيحته، وأمر فورًا بالقبض على الوزير، بل وإلزامه بدفع قيمة العجز من ماله الخاص. وبفضل «أبواليمن» زادت العوائد فى تلك السنة أضعافًا، ودعا الناس على الوزير «ابن كلا» فى مكة، ودُعى فيها للشَّيخ أبواليُمن قُزمان بن مينا، الذى بفضله عم الخير والرخاء.