السبت 27 يوليه 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

شريف صالح: الرواية فن «ردىء وهجين» ويمرر الرداءة بسهولة

شريف صالح
شريف صالح

- نعيش زمن «شعبنة الرواية» بسبب الجوائز و«ألتراس الكُتاب» و«البيست سيلر»

- معظم الالتفات فى «السوشيال ميديا» إلى روايات متوسطة القيمة

- كاتب مصرى شهير كل أعماله إعادة إنتاج ردىء لإبداع نجيب محفوظ

قبل أيام، خلال استضافته فى منتدى «أوراق»، الذى عُقد فى مقر جريدة «الدستور»، خرج الدكتور شريف صالح، الكاتب والقاص، بما يمكن أن نطلق عليه «قنبلة كلامية»، حينما وصف الرواية بأنها «فن ردىء».

«حرف» واجهته بما قاله، فلم يتراجع عنه، بل زاده من الشعر بيتًا، حينما وصف الرواية أيضًا بأنها «فن هجين يعتاش على فنون مختلفة، ويتم تمرير الرداءة فيه بسهولة».

فى الحوار التالى نحاول أن نعرف من صاحب روايات: «حارس الفيسبوك» و«ابتسامة بوذا» و«أينشتاين» و«سوشانا والحذاء الطائر»: لماذا هذه التوصيفات التى يمكن اعتبارها «قاسية»؟ ما الذى يستند عليه فيها؟ وما الذى جعله يصل إلى هذا الرأى، الذى يتعدى كونه مختلفًا فحسب، بل يمكن اعتباره «صادمًا»؟

الصفحة السابعة من العدد الحادى والعشرين لحرف

■ لماذا وصفت الرواية بأنها «فن ردىء»؟

- بالتأكيد لم أقصد أى تعميم، فهناك دائمًا روايات وروائيون عظام. إنما عنيتُ بكلامى فى ندوة «حرف» مسألتين، الأولى أن الفنون القولية فى رأيى أقل جماليًا من الفنون التى تتسم بدرجة كبيرة من التجريد وانضباط الإيقاع وعلى رأسها الموسيقى.

فالموسيقى فن لا يفرض عليك وجهة نظر معينة، ولا تقرأها كى تسنتنج فكرة محددة، بل تتعايش معك وتحيط بك كمتلقٍ فى مختلف حالاتك، ولكل شخص أن يربطها كما يشاء بذكرياته وتجاربه الذاتية.

المسألة الأخرى الأكثر أهمية أننا لو حصرنا كلامنا على الفنون القولية، سأضع الشعر فى الصدارة، ثم الدراما فالقصة القصيرة، هذا ترتيبى الجمالى الخاص بى، لأن هذه الفنون تملك قدرًا كبيرًا من الإيقاع والانضباط، ولا تقبل الحشو والترهل.

بديهيًا فى كل فن أعمال عظيمة وأخرى متواضعة، ومثلما هناك سيمفونيات وكونشرتات عظيمة، ثمة أغانى شعبية خفيفة وبسيطة. لكنى قصدت التصنيف وإدانة الرواية تحديدًا، لأنها فن «هجين» يعتاش على فنون مختلفة، وتُمرر الرداءة فيها بسهولة.

القصيدة السيئة تنكشف ويصعب أن تعيش، بينما هناك ممارسات تضليلية كثيرة تُعطى مكانة وهمية لروايات كثيرة مغشوشة أو متوسطة القيمة فى أحسن الأحوال. هذه الممارسات تشمل «ألتراس» الكُتاب والجوائز، وحفلات التوقيع، وظاهرة الـ«بيست سيلر»، وكل محاولات «شعبنة» الرواية، بمعنى جعلها فنًا شعبيًا لأسباب تجارية وترويجية، فى حين أن فنون الكتابة الأخرى تكاد تندثر للأسف، مثل المسرح بكل تاريخه وعظمة منجزه.

■ ألا يعد هذا التصنيف «طبقية» بين الأجناس الأدبية إذا جاز التعبير؟

- من الطبيعى ألا أضع ألحان السنباطى مثل «جددت حبك ليه» و«القلب يعشق كل جميل» و«رباعيات الخيام» و«الأطلال» فى مستوى أغانى حمو بيكا. نحن جميعًا نمارس التصنيف، إما للتعبير عن ذوق شخصى، أو بوصفه أداة من أدوات التحليل والنقد.

ربما قصدت فقط أن الشعر فن تنبع عظمته من صعوبة الغش والتدليس فيه، بينما تعمد ترويج الرواية أقرب إلى التدليس، والدليل أن رواجها الحالى لم ينعكس عمومًا على ارتقاء ذائقة المجتمع، مثلما فعلت أغانى عبدالوهاب وأم كلثوم.

حتى فى الأفلام والمسلسلات نادرًا ما يتم الالتفات لفن الرواية، فالدفع بها إلى الصدارة لا يحدث لأسباب محض فنية، ومعظم الالتفات فى «السوشيال ميديا» لأعمال متوسطة القيمة، بينما تنعم روايات مهمة بنعمة النسيان.

■ رغم رأيك الصادم فى الرواية، ومع منجزك القصصى، كتبت روايتين هما «حارس الفيسبوك» و«ابتسامة بوذا».. ألا يعد هذا «تناقضًا»؟

- ليكن تناقضًا. هل قلتُ يومًا إننى لستُ كاتبًا متناقضًا. أنا أيضًا إنسان ملىء بالتناقضات. كتبت هاتين الروايتين، إلى جانب روايتى «سوشانا والحذاء الطائر» و«أينشتاين: أسرار القطعة ٩٩»، وهى منجز متأخر نسبيًا فى مشوارى مع الكتابة، لأن الأعمال الأربعة صدرت فى آخر ٦ سنوات، بعدما شعرتُ بأننى استهلكت طاقتى فى كتابة ٧ مجاميع قصصية. 

وحتى رواياتى هناك من يرى أنها أقرب إلى بناء وشعرية القصة القصيرة فى كتابة فصولها ومقاطعها، ما يعنى أن مشروعى ينحاز أكثر للقصة القصيرة، لأنها قادرة على التعبير اللحظى والتقاط النقص فى الحياة كما هو، بأسلوب شعرى بالغ الكثافة ووحدة الانطباع. بينما الرواية تتوهم ملاحم لا وجود لها، وتشيد عوالم تدعى الاكتمال، وتفرض نهايات محكمة منافية لمنطق الحياة نفسه.

■ رأيك فى الرواية مقارنة بالأجناس الإبداعية الأخرى يمكن أن يشبه من يرفض أغانى «المهرجانات» مقارنة بأى لون غنائى آخر، رغم أنها إفراز طيف من أطياف المجتمع.. ما تعليقك؟

- بالمقارنة مع الأغانى، عن نفسى أحب أداء المهرجانات وأسمع بعضها، رغم أننى من «ألتراس عبدالوهاب وأم كلثوم». فكل فن له تقاليده الجمالية، والمشكلة فى خيانة هذه التقاليد.

الكثير مما ينشر على أنه «روايات»، ويروَّج له بوصفه نماذج مهمة، ليس كذلك نهائيًا. لا أريد فقط الوقوع فى حرج ذكر أسماء، لكن يكفى أن أشير إلى كاتب مصرى قدم روايات كانت فى وقت ما «بيست سيلر»، وكلها تقريبًا إعادة إنتاج ردىء لإبداع نجيب محفوظ.

كل رواية جيدة لا بد أن تطرح معرفة جمالية جيدة، فإن لم تحقق ذلك طبيعى نعتها بـ«الرداءة». لماذا نخشى مواجهة الحقيقة؟ نحن فى عصر سطوة التفاهة و«البيزنس» وترويج أشياء على أنها «فن»، وهى ليست كذلك.

افتقدنا إلى البوصلة والمعيارية، وأصبح المبدأ المغلوط والمغشوش هو أن الحكم للجمهور أو «الجمهور عاوز كدا»، والحقيقة الجمهور لا يعيش حالة ديمقراطية، ولا تتوافر له خيارات حقيقية، بل يستهلك ما يُبرمج عليه.

■ قلت إن «جزءًا من مشكلة كتابة الرواية إعطاء عالم منمذج ومحكم فى بنائه».. ماذا قصدت بذلك؟

- مشكلة «النمذجة» أن الرواية تمنح نفسها أدوارًا تفوق حقيقتها، وهذا يظهر فى رواج مصطلحات من عينة «زمن الرواية» و«الرواية ديوان العرب»، لكن نحن لسنا فى زمن الرواية، ربما فى زمن «السوشيال ميديا»، والرواية العربية لا تتحدث باسم العرب.

أيضًا تظهر «النمذجة» فى إعطاء تصورات محكمة للحياة ونهايات محددة سلفًا، ونحن كبشر لسنا بالضرورة أبطال روايات، بل أقرب إلى مهمشين فى قصة قصيرة عابرة، وليس معنى النقاش حول الرواية، مهما بدا حادًا، أننا نلغى منجزها العظيم، لكن فقط الاحتراز من عدم تبين الخيط الفاصل بين الجليل العظيم والمتواضع المتهافت.

■ ما الذى تقصده بـ«شعبنة الرواية»؟

- هذه مشكلة شائكة وملتبسة. لستُ ضد ما هو شعبى. لا أحد ينكر أن أم كلثوم فنانة شعبية عظيمة، لكنها حافظت على القيمة الفنية فوق أى اعتبار تجارى، وعلى القيمة الجمالية التى ترتقى بالناس لا تنحدر بأذواقهم. أحب عدوية وأراه من أهم المطربين الشعبيين. لكن لنتأمل كلمات أغانيه وأسماء العازفين والملحنين. مع ذلك هناك من اتهمه بأنه سبب انحدار الذوق الشعبى.

الفنون الشعبية عظيمة، وشخصيًا أنا مولع بها وأطرب للمداحين الشعبيين والرساميين الفطريين وحكواتية السيرة الهلالية، شريطة أن يحتفظ الفن الشعبى بقيمه الجمالية الفطرية، ولا ينحدر بذوق الناس، وألا يبتذل فى لعبة التسليع.

ما أراه أن هناك محاولات من صنّاع الجوائز والناشرين و«ألتراس أندية القراءة» لـ«شعبنة» الرواية لأسباب تجارية، لذا يتزامن رواجها مع عصر الاستهلاك والتفاهة الذى نحياه، وأصبح من السهل السطو على سيرة جلال الدين الرومى وتعليبها فى رواية، أو وضع مجموعة حكم تنمية ذاتية، ثم اختلاق «حدوتة» مبتذلة لها، أو السطو المسلح على التاريخ تحت مسمى «رواية تاريخية»، فأين قوة التخييل إذا كنا نعيد تجميع المبثوث فى كتب التاريخ؟ أين الابتكار؟ أين أصالة المنتج الروائى نفسه؟

لا أعرف بالضبط ما الأسباب التى أدت إلى رواج سلبى ومُدعى؟، ربما قوة «ألتراس السوشيال ميديا»، وضخامة حجم جوائز الرواية ودولاراتها التى دفعت شعراء إلى هجر الشعر، وكسل وضحالة شريحة لا يستهان بها من القراء ترغب فى حكايات مسلية قبل النوم، وكذلك رهان الناشرين عليها لضمان المبيعات والأرباح.

■ هل يمكن لفن الرواية أن يخرج من عباءة «الرداءة» بحسب وصفك؟

- ليس معنى أننى أطرح ملاحظات أو حتى أحكام قاسية أننى أملك «وصفة جاهزة»، على الأقل كنت نفعتُ بها نفسى. فى تصورى ومن ناحية فلسفية، مراجعة كل فن لذاته مسألة ضرورية ولا تعيبه. ومن المفترض أن كل مبدع على مستواه الشخصى هو أول ناقد لنفسه، أو أول ناقم على ما كتبه، يتحاور مع نصه ويطرح أسئلة جمالية، ويفكر فيما يضيفه فى كل تجربة. البعض يكتب بمنطق أنه «عرف سكة معينة» ويعيد استحلابها، أو لا يشغل باله أساسًا بأى أسئلة يطرحها الشكل الإبداعى نفسه.

■ أشرت أيضًا إلى دور «مجموعات القراءة» فى توجيه ذائقة المتلقى وتكريس ألوان روائية رديئة.. هل تراها تلقائية أم تعمل لصالح دور نشر وكُتاب بعينهم؟

- من المحتمل أن تكون تلقائية وعفوية، وغالبًا تخضع لتوجيهات مضمرة، فالقاعدة معروفة: «هناك دائمًا من يدفع للزمار.. وللطبال أيضًا». المشكلة أن المنضمين إلى هذه «المجموعات» بارعون فى إطلاق الأحكام، والانقضاض على من لا يعجبهم، أو تجاهل من لا يعترف بقوتهم وتأثيرهم.

لذا تأثير هؤلاء خطر فى تعميم الرداءة وتكريس أسماء ونصوص «فالصو»، وبرمجة شريحة معينة من القراء، كأن تجد أحدهم يضع ٥ نجوم لرواية عاطفية بائسة، ويضع نجمة واحدة لـ«الحب فى زمن الكوليرا» مثلًا.

■ هل لثورة الاتصالات والتكنولوجيا دور فى «شعبنة الرواية»؟

- بالتأكيد.. بقدر ما سهلت الوسائل الحديثة التواصل بين الناس، حولت كل شخص إلى جزيرة معزولة مع هاتفه، وهذا خلق أنواعًا من التشوش، وضعف الذائقة أو الحساسية الجمالية، ومع كثرة المعروض من كل اتجاه، استسلم القارئ وبات عاجزًا عن البحث والفرز والتذوق.

■ على أى نحو كرست الجوائز الثقافية اتجاهات القراءة فى مصر والمنطقة العربية؟

- الجوائز فى حد ذاتها نعمة كبيرة، وساهمت فى رواج مشاريع إبداعية جديرة بالاحترام، ولا شك أن هذا خلق فضاء جيدًا للقراءة، لكن مشكلتها فى التدليس المصاحب لها أحيانًا، سواء بمنطق المحاصصة بين الدول، و«تفويز» إبداعات معينة، أو ما يُقال عن تواطؤ دور نشر مع محكمين. ومثلما الإبداع يتطلب عملية نقد موازية، فالجوائز أيضًا بحاجة إلى مزيد من النقد والشفافية والدفاع عن خياراتها.

■ هل لغياب النقد دور فى تقلص مساحة الأجناس الأدبية لصالح الرواية؟

- النقد ليس غائبًا، بل حاضر قدر الاستطاعة، سواء فى صيغة مراجعات صحفية أو لقراء محترفين أو صيغ أكاديمية رصينة. المأزق فى طبيعة الوعى الراهن، لأنه قائم على النفى والإقصاء، بينما النقد يعنى آراء مختلفة، وهذا غير ممكن حاليًا.

«مجموعات الألتراس» كرست للمديح المزيف، وبات المبدع نفسه لا يتقبل النقد، ومن ناحية أخرى لا تتاح للنقد منصات إلا نادرًا، ولا يحظى تعب الناقد وقراءة وفحص النصوص بالحد الأدنى من التقدير المادى. هل لدينا جوائز للنقد؟ لذا التوصيف الأكثر دقة أن النقد مُغيب عن عمد وليس غائبًا، وتشكل وعى مضاد له وغير مرحب به.

■ ما مقومات الرواية التى تبقى وتخلد كما خلدت أعمال نجيب محفوظ؟

- حتى أعمال محفوظ نفسها متفاوتة القيمة وفى حظها من الانتشار، لذا يُصعب إعطاء «وصفة»، كما أشرت من قبل. ربما الرواية الخالدة هى التى تملك معرفة جمالية خاصة بها، كأنها تكتشف شيئًا لم يكتشفه أحد من قبل. رواية لديها أسئلتها وهمها الحقيقى، وتتمتع بعاطفة حارة تصلها بقارئها، وتنتمى إلى عصرها بقدر ما تستطيع البقاء فى العصور التالية. فى ظنى أن الكتب العظيمة عمومًا هى التى تظل دائمة الاشتباك مع أرواحنا، ولا نمل من استعادتها واللجوء إليها، مثل «الحرافيش» أو «زوربا اليونانى».

■ ما جديد شريف صالح حاليًا؟

- بعد 6 سنوات تقريبًا من نشر آخر مجموعة لى «مدن تأكل نفسها»، والتى كانت تأريخًا خاصًا للمدن، أعود إلى القصة القصيرة، وانتهيت بالفعل من مجموعة بعنوان «حفلة الميتين الأوغاد»، أستحضر فيها الموتى فى داخلى.

هى حكايات بعضها ومضات من سيرتى وتجاربى، أو من آخرين عايشتهم، لذا الأجواء فى النصوص ممتدة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى حتى اللحظة الراهنة، ومتأرجحة مثل حياتى بين الريف والمدينة والاغتراب فى الخليج.