إنقاذ عاجل.. البحث عن السينما المصرية عند «أهل الكهف»
- أين اختفى البطل المصرى الذى يشبه من يجلسون فى قاعات العرض السينمائى؟
- لا يوجد المخرج صاحب الرؤية الذى يجلس على فيلمه بعناية
- هل يريد صناع السينما التأكيد على أننا أصبحنا مجتمعًا من غير الأسوياء؟
منذ سنوات طويلة لا أميل إلى دخول السينما لمشاهدة فيلم عربى- أقصد بالطبع فيلم مصرى- مهما كانت المغريات، أكتفى بمشاهدتها عبر المنصات.
لكننى قررت كسر هذه القاعدة من أجل فيلم «أهل الكهف»، ربما بفضول لمعرفة كيف سيعالج أيمن بهجت قمر القصة التى أكد صناع الفيلم أنها محاولة لتقديم نسخة عصرية من مسرحية الكاتب الكبير توفيق الحكيم التى تحمل نفس الاسم، وأنه لا علاقة للفيلم بالقصة القرآنية، هروبًا فيما أعتقد من مقارنة بقصة قرآنية يعرفها الناس وعدم الوقوع فى مأزق التماس مع نص قرآنى.
لم يكن الفيلم الذى أخرجه عمرو عرفة وشارك فيه نخبة كبيرة من النجوم، على رأسهم خالد النبوى ومحمد ممدوح ومحمد فراج وغادة عادل، مشبعًا لى بدرجة كبيرة، فيمكن أن تصفه بأنه فيلم النوايا الحسنة، كان منتجه محمد رشيدى فيما يبدو يحلم بتقديم فيلم عالمى، لكنه لم ينل ما يتمناه.
ليس معنى هذا أننا أمام فيلم ضعيف فنيًا، فهناك عناصر كثيرة توفرت للعمل تجعله قادرًا على جذبك حتى النهاية، رغم فترات الملل التى تحاصرك وأنت جالس فى قاعة سينما مكيفة ومريحة.
لكن السؤال الذى ظل يطاردنى وأنا أغادر قاعة السينما هو:
لماذا نهرب من قضايانا الحقيقية والملحّة، ونلجأ إلى قصص نتخفى خلفها لنقول ما نريده؟ لماذا نسّرب جملة هنا أو إشارة هناك ونحن نتخفى وراء نص تاريخى تفاصيله معروفة للجميع، ولم نقدم جديدًا يمكننا الإمساك به، اللهم إلا إذا كنا عاجزين عن معالجة الواقع من خلال قضاياه ومشاكله وأزماته؟
خلال أيام العيد جلست أمام منصة تتيح عددًا كبيرًا من الأفلام الحديثة التى أنتجت خلال العامين الماضيين، وقررت مشاهدة ما فاتنى، وهالنى ما رأيت، فالأفلام التى نعمل عليها لا يمكن أن تقول عليها أبدًا إنها مصرية.
لن أصدعكم بأسماء الأفلام التى أنتجتها السينما المصرية خلال السنوات الماضية، فهى متاحة ومعروفة ولم تكن بعيدة عنكم، سواء فى دور السينما أو المنصات أو حتى الفضائيات العربية، ولكننى سأتوقف فقط عند ملمح واحد ومهم من ملامح هذه الأفلام.
أعتقد أنك لن تختلف معى فى أن السينما المصرية فى سنواتها الأخيرة لم تصنع شيئًا عن البطل المأزوم بقضية اجتماعية عادية من القضايا التى نعيشها، ولكنها منحت نفسها بالكلية إلى الأبطال المأزومين لأنهم لصوص ونصابون وحرامية و«قتالين قتلة» وتجار مخدرات ورعاة لراقصات وقوادون محترفون، رجال عصابات يتحركون على الشاشة طوال الفيلم، وكأن مصر خلت تمامًا من الأبطال الطبيعيين الذين يمكن أن تكون لديهم هموم ومشاكل وأزمات عادية تؤرقهم.
وإذا قلت لى إن السينما لا تعمل على الأبطال العاديين التقليديين.
سأقول لك راجع فقط ما قدمه أحمد زكى فى فيلم مهم مثل «الحب فوق هضبة الهرم»، أو عادل إمام فى فيلم رائع مثل «كراكون فى الشارع»، أو نور الشريف فى فيلمه العبقرى «سواق الأتوبيس»، أو يحيى الفخرانى فى رائعته «خرج ولم يعد»، أو محمود عبدالعزيز فى فيلمه المثالى «الشقة من حق الزوجة»، أو فاتن حمامة فى فيلمها الكاشف «أرض الأحلام»، أو داود عبدالسيد فى ملحمته «مواطن ومخبر وحرامى»، ويمكننا أن نضرب على ما نقوله مئات الأمثلة.
أين اختفى البطل المصرى الذى يشبه من يجلسون فى قاعات العرض السينمائى، يشاركهم أحلامهم وانتصاراتهم وهزائمهم، يبكون معه ويضحكون معه ويصفقون له ويشتمونه ويمدحونه، وعندما يغادرون القاعة لا يشعرون معه أنهم غرباء؟.
هذا هو الإحساس الذى يسيطر علىّ الآن وأنا أشاهد أى فيلم مصرى.
السؤال الأول الذى يقتحمنى هو: مَن هؤلاء بالضبط؟ وماذا يفعلون؟ وهل من نراهم أمامنا يتحركون فى أفلام حركة وعنف وبذاءة يعيشون معنا ويتحركون بيننا ويعانون مما نعانى منه؟
ما الذى تريد هذه الأفلام أن تقوله؟ مع تقديرى الكبير لحالة البذخ الشديد التى نراها فى وجوه الإنفاق المختلفة!
هل يريد صناع السينما التأكيد على أننا أصبحنا مجتمعًا من غير الأسوياء، الذين لا هم لهم إلا جمع الثروات الحرام وتصفية الخصوم بعنف وبلا رحمة وكأننا نعيش فى غابة بلا قوانين أو قواعد؟.
ما الذى يمكن أن نقوله لأبنائنا؟ وما الذى يمكن أن تقوله الأجيال القادمة عندما تشاهد هذه الأفلام باعتبارها تراثًا يملكونه؟ كيف سينظرون إلينا؟ وهل سيتعاملون معنا بأننا أسلافهم الذين يجب أن يتفاخروا بهم، أم أنهم سيلعنوننا على الصورة البشعة التى نصدرها لهم؟ هل سيكون هناك من يقول لهم إن انحرافًا سينمائيًا جرى عن عمد؟ وإن مصر كانت بلدًا طبيعيًا، لكن من تصدوا للعمل السينمائى لم يكن يشغلهم تصوير المجتمع والاشتباك معه، ولكنهم مضوا مهرولين خلف أفكار وقضايا وحكايات وأبطال لا علاقة لهم بالواقع؟
أعرف أن صناع السينما الآن ينقصهم الكثير.
فلا يوجد لدينا الكاتب المهموم بقضايا واقعنا ومجتمعنا.
ولا يوجد المخرج صاحب الرؤية الذى يجلس على فيلمه بعناية ورغبة فى أن يكون بعضًا من كلٍ يعيشه ويعانى فيه مثلما يعانى الآخرون.
ولا يوجد الفنان المثقف الذى يعرف أن عليه مسئولية فيما يقدمه، بعيدًا عن مجده الشخصى وحلمه فى أن يصبح نجمًا أسطوريًا لا يستطيع أن يهزمه أحد.
لكن أين من يجب أن يصححوا المسار؟
أين الذين من المفروض أن يكونوا مسئولين عن هذا الإنتاج السينمائى الضخم؟ كيف تسمح لهم ضمائرهم بتمرير مثل هذه الأعمال؟ وأين النقاد الذين يمارسون عملهم فى كشف العوار السينمائى الذى نعانى منه، أم أنهم أصبحوا جزءًا من آلة إعلامية جهنمية تروج للغث والتافه والمنحرف والخارج عن مجتمعنا طالما أنه يحصد الأرباح؟.
لا أستطيع أن أنكر أن شباك التذاكر عنصر حاكم، يخضع له الجميع، فطالما أن شباك التذاكر يمنح نفسه بكرم وسخاء لهذه النوعية من الأفلام، فلا بد أن تكون كل الأفلام على هذه الشاكلة الخربة، لكن فى ظل تحكمات شباك التذاكر كانت لدينا سينما حقيقية تدخل مع الواقع فى اشتباكات حادة، تحذر وتنبه وتقود المجتمع إلى أن يكون سويًا.
لقد حرص فيلم «أهل الكهف» على أن يحمل رسائل مهمة، بعضها سياسى وبعضها فكرى، وأعتقد أن أيمن بهجت قمر نجح من خلال بعض الجمل الحوارية أن يمارس نقدًا مهمًا لحالة التعصب الدينى، وأن يضع بعض الإسقاطات السياسية غير المؤذية، وكنت أعتقد أن الفيلم سيحظى بمتابعة كبيرة وإقبالًا معقولًا، لكنه للأسف الشديد تذيل قائمة الإيرادات ولا يزال يعانى.
وهنا يمكن أن تطالبنى بتوجيه اللوم الشديد إلى جمهور السينما، فالذين يصنعون الأفلام يخضعون لذوق هذا الجمهور، يعملون على موجة أن «الجمهور عايز كده».
لكن مَن أوصل الجمهور فى اعتقادكم إلى هذه الدرجة المسفّة؟
مَن لعب فى إعدادات ذوقه حتى جعله لا يقبل إلا نوعية محددة من الأفلام؟
أليس صناع السينما هم من أفسدوه وخربوا ذائقته؟
ولا يمكن أن نتحجج بأن أفلام العيد لها طبيعتها التى تناسب جمهورها العشوائى، الذى هو فى الحقيقة ليس جمهور السينما الحقيقى.
هذا كلام مردود عليه بالطبع، فما نراه ليس سمة أفلام العيد فقط، ولكن أصبح سمة أفلام السنة كلها، فنحن محاصرون بين أفلام عصابات كلها عنف وفساد وانحراف ومخدرات وراقصات وأفلام كوميدية تافهة بلا قيمة، للدرجة التى تضيق فيها وأنت تتابع أراجوزات يتحركون على الشاشة بلا هدف ولا معنى.
ما تعلمناه، وما أعتقد أنه صحيح بدرجة كبيرة، أن السينما أداة من أدوات إفاقة المجتمع لا تغييبه، لكن ما يحدث الآن أنها أصبحت الأداة الأولى فى تغييب المجتمع وتضليله وإبعاده عما يجب أن يشغله بشكل حقيقى، وكأن هناك من يتعمد أن يفعل ذلك.
يمكننا ببساطة أن نعيد كل ما يحدث أمامنا على شاشات العرض السينمائى إلى جهل وغيبوبة وقلة وعى صناع السينما، لكن هذا فى النهاية اختيار سهل، وتفسير ضحل، وتبرير سطحى لا يعبّر عن الحقيقة، فهناك من يسعى إلى تخريب السينما المصرية بوعى وتعمد ورغبة أكيدة فى إخراجنا من حسبة التاريخ والجغرافيا أيضًا.
هنا لا بد من إعادة تشكيل الصورة ورسم ملامحها من جديد، فلا بد أن يكون واضحًا بالنسبة لنا من هو المسئول عن هذه الكارثة التى نعانى منها.
قبل أسابيع فتحنا هنا فى «حرف» ملف السينما المصرية، حاولنا أن نناقش بموضوعية شديدة أسباب تراجعها وخروجها من دائرة التأثير، وهى قضية بالمناسبة متشابكة ومعقدة يختلط فيها ما هو عام بما هو خاص، ويقترب منها السياسى بالثقافى بالاجتماعى بالاقتصادى، وليس بعيدًا عنها الصراع حول الريادة والسيادة وإثبات التفوق.
قبل أسابيع نشرنا هنا فى «حرف» كتابات للمخرج الكبير مجدى أحمد على، والناقدة وأستاذة السيناريو بأكاديمية الفنون الدكتورة ثناء هاشم، والكاتب الصحفى والباحث والناقد أيمن الحكيم، وكلهم أجمعوا فى كتاباتهم على مسئولية وزارة الثقافة عما يحدث، وعلّقوا جميعًا الجرس فى رقبة الدكتور خالد عبدالجليل، الذى أطلقوا عليه وزير السينما فى مصر، وأكدوا فيما كتبوه أنه المسئول عن الانهيار الكبير الذى تعانى منه صناعة السينما فى مصر.
جمعتنى جلسة مطولة مع الدكتور خالد عبدالجليل، الذى لم ينكر هو الآخر أن السينما المصرية ليست منهارة فقط، ولكنها فى طريقها لانهيار أكبر، وجلس يعدد لى أسباب هذا الانهيار بمنهجية وترتيب مدهش.
قلت له: الآن أنا أمام رؤيتين، الأولى تقول إن هناك انهيارًا فى السينما المصرية وإنك أنت المسئول عنه، والثانية، أنت صاحبها، تقول أيضًا إن السينما المصرية منهارة لكنك لست السبب.. فى النهاية نحن أمام اعتراف جماعى بأن السينما المصرية منهارة، نحن الجمهور نريد أن نعرف من السبب؟ وكيف يمكن أن نحاسبه عما جرى؟ ثم وهذا هو المهم كيف يمكن أن نخرج من دائرة الانهيار التى تحيط برقابنا؟
إننى أرصد حالة من النقاش الدائرى التى لا تقودنا فى النهاية إلى أى شىء إيجابى، والواقع فعلًا أننا نتجه إلى مزيد من الانهيار.
وهو ما دعانى إلى طلب أن يكون هناك مؤتمر كبير يشترك فيه كل المسئولين عن السينما، فى مواجهات واضحة وحقيقية بعيدة عن المصالح الشخصية والتشابكات الذاتية، نبحث من خلاله عن الطريق الذى يمكننا أن نخرج به من هذه الأزمة التى يعترف بها الجميع ويتهرب من المسئولية عنها الجميع.
يمكن أن تتبنى هذا المؤتمر وزارة الثقافة المصرية باعتبارها المسئولة عن ملف الثقافة، ويمكن أن يتبناها المركز الكاثوليكى للسينما الذى يرأسه الأب بطرس دانيال، وإذا رفضت هذه الجهات فيمكن أن نتبنى نحن فى «حرف» هذه المبادرة التى لا نبتغى من ورائها إلا وجه السينما المصرية، وعلى الجميع أن يأتوا إلينا بإخلاص شديد، لأن الخطر ليس عابرًا بل خطرًا كبيرًا ومقيمًا.
لقد علمنا العالم العربى لهجتنا ومررنا له ثقافتنا، أصبحوا مصريين فى سلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم من خلال السينما، الآن ينسحب هذا التأثير تدريجيًا، ولا نقوم بشىء للمقاومة، بل يبدو أننا نستسلم استسلامًا مريبًا، الآن علينا أن نقاوم وإلا فلن يكون لنا أى ذكر بعد ذلك.
رغم تقديرى الشديد لمحاولة صناع فيلم «أهل الكهف» الذى يعانى من الهجر وقلة الإقبال، وتفهمى لما يفعله صناع السينما الآن، إلا أننى على يقين أن مصر تستحق سينما أفضل مما نراه ويطاردنا على شاشات دور العرض والمنصات والفضائيات.
إننا نقدر على ذلك.. إذا أردنا.
فهل نريد ذلك أم أننا سنستسلم؟
أتمنى ألا يكون قرارنا هو الاستسلام.