بروس لى.. لماذا أحب المصريون هذا الرجل الأسطورى؟
داخل كل منا فى أبعد مكان من النفس البشرية، خزينة مخبأة ومغلقة على كم هائل من الذكريات التى عشناها فى أيامنا الحلوة، فى أيام من الماضى منزوع منها دسم القسوة التى يزخر بها الحاضر، كانت حياة ليس فيها خيار آخر غير راحة البال وصفاء السريرة، ومتعة التفاصيل الصغيرة.
فى خزينتى أنا يحتل «بروس لى» مكانًا لا مثيل له، ولا يضاهيه فيه أحد، فقد كان هذا الشاب الصينى بملامحه المتخمة بالإصرار والتحدى، رمزًا لعنفوان مراهقتى، أقلد حركاته الخاطفة، وأتقمص دوره فى فيلم «دخول التنين» بعد أن كشف زعيم الجزيرة أمره، وأصبح لزامًا عليه القتال على المكشوف، حتى موته «الملغز» فى ريعان شبابه لم يستطع عقلى الصغير استيعابه، كنت أراهن بينى وبين نفسى أن موته مجرد حيلة للرجوع والقضاء على الأشرار الذين يحاربونه.
وبقليل من التأمل اكتشفت أن ارتباطى ببروس لى لم يكن نشاذًا فى المجتمع المصرى، فالكثيرون شاركونى شغفى به، رأوا فيه ما لم يروه فى غيره، من ممثلى السينما العالمية وحفر مكانًا متفردًا فى قلوبهم، درسوا حياته بكل دراميتها وتناقلوها بينهم وأصبحت حكايات الفتى الصينى الشاب مادة خصبة فى جلسات السمر الليلية المقدسة للكبار والصغار، فى أواخر السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات عصر ازدهار ثقافة «نادى الفيديو».. ذلك المكان السحرى الخلاب الذى كان بوستر بروس لى على «فترينته» علامة مسجلة لجذب الزبائن.
ليس عليك سوى التهام وجبة بروس لى عبر جهاز الفيديو ليلًا.. ثم اجترار أحداثه مع الصحبة التى لم تشاهد الفيلم لأيام بعدها.. لتختلط الحكاوى بين دراما الفيلم ودراما حياة بطله التى فاقت فى ثراء أحداثها خيال الكتاب والمؤلفين.
بروس لى وناصر
فى الواقع إن بروس لى كان حاضرًا بقوة فى حكاوى «قعدة المصطبة» الليلية الملتصقة بباب بيتنا الخارجى.. والتى كانت فيها متسعًا وبراحًا لنا نحن أطفال بداية التسعينيات لنجلس فى ركنها نتحدث عن مغامراتنا الخاصة وأفلامنا دون أن نكون مقيدين بمتابعة أدوار السيجا التى كان يلعبها آباؤنا على الجزء الأكبر من المصطبة.. حضور بروس لى لم يكن بأفلامه التى شاهدها أغلبنا عشرات المرات وحفظناها عن ظهر قلب بل كان حضورًا بطعم دراما حياته الحقيقية التى شدت المصريين، ودفعتهم دفعًا إلى التعاطف معه، ومعاملته على أنه ابن لهم واجه حربًا شعواء شنتها عليه هوليوود لأصوله الصينية، واستكثر عليه أهل المدينة أن يتعامل معهم من موقع الند، وليس من موقع الوافد لبلاد العم سام، يفرح بالفتات التى تلقى عليه من أصحاب البشرة البيضاء، وعليه أن يشكرهم، ولا يحاول أن ينظر أبعد من أسفل قدميه، وانبهرنا ببروس لى الذى قرر أن ينظر بعيدًا، وبعيدًا جدًا، أبعد مما تحتمله غطرسة هوليوود.. وصارت أفلامه فى نادى الفيديو عملة نادرة نتسابق عليها للظفر بإيجارها يومًا بينما أمامنا مئات الخيارات الهوليوودية لا نقربها.
لا أعرف لماذا ارتبط بروس لى فى ذهنى المراهق بجمال عبدالناصر ابن قريتنا الصغيرة فى صعيد مصر حيث كان يفتخر دائمًا أبى وأمى أنهما وُلدا على مقربة من البيت الذى ينتمى إليه الرجل قوى البأس داخل قرية «بنى مر» بأسيوط.. لفتنى ما يجمع بين الرجلين ناصر وبروس لى من مشتركات شخصية وقدرية أولها صفة مواجهة غطرسة القوة.. والقوة فى الحالتين كانت أمريكا التى كان يخاطبها عبدالناصر بمنتهى التحدى والإباء فى خطبه النارية المتحمسة.. بشكل ما تلاقت فى ذهنى تلك الجرأة الناصرية بما كنا نتداوله من حكايات عن جرأة بروس لى فى مواجهته لضغوط المنتجين الأمريكان حتى أجبرهم على احترام تجربته الملهمة فى فرض ثقافة بلده.
طالع المصريون خبر موت بروس لى المفاجئ بعد ثلاث سنوات فقط من فجعتهم الكبيرة برحيل قائدهم الملهم بين ليلة وضحاها دون أى إنذار حيث رحل بروس لى فى ٢٠ يوليو ١٩٧٣ قبل ساعات من احتفالهم بثورة ناصر ورفاقه قبل عشرين عامًا.. أغلب الظن أن أحدهم فى ذلك اليوم بالتأكيد قد ربط بين الاثنين مثلما ربطت أنا بعد ذلك.
مؤخرًا وقع فى يدى كتاب «بروس لى.. أسطورة الشرق الخالدة»، وهو كتاب قيمته أعمق من كونه سيرة ذاتية ملهمة لأسطورة طفولتى وطفولة أجيال سبقتنى.. لكنه كشف لى عن رحلة هذا الشاب الذى قلب موازين كثيرة داخل البيت الأمريكى الذى انتمى إليه بالجنسية لكنه كان ملفوظًا منه بالهوية والثقافة.. الكتاب صادر عن بيت الحكمة للاستثمارات الثقافية، وهو أول كتاب يصدر باللغة العربية مترجمًا عن اللغة الصينية عن قصة حياة الرجل الأسطورى.. وصادر عن دار نشر جامعة هواتشونج الصينية للعلوم والتكنولوجيا.
الكتاب أعطى صورة مفصلة عن قرب لدراما حياة هذا الشاب الصينى الذى فرض احترام بلاده على الجميع ولم يكن مجرد ممثل فنون قتالية لكنه صار رمزًا ثقافيًا لعالم كان حتى تلك اللحظة ما زال كثير من بلدانه يرزح تحت سطوة الاحتلال فى الستينيات وهى نفس الفترة التى كان عبدالناصر ينشر ثقافته التحررية على دول العالم الثالث.
ومن واقع قراءتى لهذا الكتاب الممتع واستنباطًا لما تراكم داخل إدراكى منذ الطفولة عن تلك «الربطة القدرية» بين ناصر وبروس لى، وبقليل من التأمل، أحاول أن أحلل أصول ذلك الربط القدرى بين الزعيم المصرى والفنان الصينى الشاب.
تحدى الهيمنة الأمريكية
«لا أريد أن أبيع نفسى بثمن بخس، فلو كان أدائى لدور مرهون بإهانة نفسى أو أمتى أو فنون القتال، لفضلت أن أتضور جوعًا حتى الموت».
الجملة السابقة جاءت على لسان بروس لى منتصف الستينيات كما ذكر مؤلف الكتاب «تشانج جيه»، وهى جملة تتماهى بشكل كامل مع جمل خطابية كثيرة كان عبدالناصر يزين بها خطبه فى نفس الفترة تقريبًا.. وبروس لى يكمل: «معظمهم يريدون منى أداء رجل يجر خلفه ضفيرته وقد رفضت ذلك تمامًا فأنا لا أبالى بالأموال التى أتقاضاها مقابل أدوار فيها إهانة حقيقية».. كان بروس لى يقصد هنا محاولة هوليوود دفعه فى نفس الطريق والقالب الجامد لصورة الرجل الصينى الشرير ذى الضفيرة فقط الذى ينتصر عليه الرجل الأبيض فى نهاية الفيلم وهى الصورة التى كان يحارب لتغييرها.. والمدهش أنه نجح بالفعل، بل إنه قام بعملية تغيير جذرى فى الثقافة الأمريكية المبنية على التفرقة العرقية التى راح ضحيتها الكثير من المواهب العظيمة.. وكان من نتاج ثورة بروس لى فى هوليوود أننا وجدنا نجومًا بعد بروس لى بقيمة جاكى شان وجيت لى اللذين خرجا من عباءته.. ووجدا الطريق ممهدًا أمامهما لاحتلال الأفيشات الهوليوودية بعد أن قضى بروس لى وحده على غطرسة صناعها المسيطرين على مقدرات مدينة السينما العالمية، لكن بروس لى ذهب أبعد من تخيلات هؤلاء بعد أن أصبحت صورته على أى أفيش أو برومو لفيلم شهادة ضمان لنجاحه فى كل أرجاء العالم.. مغيرًا معادلات السوق فى العالم كله، وفارضًا شروطه على المنتجين حينها.
عبدالناصر أيضًا واجه غطرسة أبناء العم سام، فقد كان شعاره الدائم «ضد الهيمنة الأمريكية».. وهو ما قوبل بمقاومة أمريكية شرسة باستخدام آليات اقتصادية وسياسية مثل الانسحاب من تمويل مشروع مصر القومى الأهم فى تلك المرحلة وهو السد العالى، حتى تجبر ناصر على الرضوخ للشروط التعجيزية للبنك الدولى وتعيده إلى حظيرتها، ولم ينسَ المصريون حينها أن عبدالناصر أبى الاستسلام لذلك الأمر، وملحمة بناء السد بعد ذلك معروفة للجميع وتشهد للحقبة الناصرية بالكثير من الإنجازات التى خففت من وطأة النكسة بعد ذلك.
الموت المفاجئ والغامض
مواقف الحياة لم تكن وحدها هى وجه التشابه بين البطلين، بل كانت مشاهد الموت متقاربة لدى الزعيم المصرى والبطل السينمائى الصينى، فكلاهما أحاط الغموض بموته الأسطورى.. كلاهما مات فى ذروة نشاطه وقوته.
فموت عبدالناصر كان مفاجئًا للعالم كله وليس للمصريين فقط، حيث كان فى قمة نشاطه وفى سن مبكرة لم تتعدَّ الثانية والخمسين، وكان خارجًا لتوه من قمة عربية طارئة دعا إليها لوقف الاقتتال بين أبناء الدم الواحد، الجيش الأردنى والمقاومة الفلسطينية فى عمان، إذن كان ناصر فى قمة عنفوانه، وإن كان يعانى من بعض المتاعب الصحية الطارئة بحكم الضغط الذى فرضه عليه منصبه ودوره العروبى الكبير، لكنها متاعب لم تكن ترتقى لتكون قاتلة.. الأمر الذى فتح باب تكهنات كثيرة تنام وتصحو مع كل إحياء لذكراه.
وياللعجب تقريبًا كان ذلك نفس سيناريو وفاة بروس لى الشاب الذى لم يتخطَّ الثالثة والثلاثين من عمره ويتمتع بعنفوان لا يضاهيه فيه أحد. عززت ذلك العنفوان ممارسته للرياضة. كما أنه كان يجلس متربعًا على قمة هوليوود، وينظر إلى أفق المستقبل المشرق الذى يلوح وينبئ بسيطرة طويلة من الفتى الصينى على مقدرات مدينة السينما العالمية فى فئة الأفلام القتالية.. لكن بروس لى فاجأ الجميع ومات، فى يوم ٢٠ يوليو ١٩٧٣، وتعددت الروايات حينها ولم يغلقها حتى ما أفادت به التحقيقات النهائية بعدم ثبوت الشبهة الجنائية.
استمرارًا فى الغرابة بين الربط القدرى بين عبدالناصر وبروس لى هو أن أصابع الاتهام فى موت الاثنين الغامض أشارت فى بادئ الأمر إلى جهة واحدة، هى بلاد العم سام، حيث قال أنصار عبدالناصر أن أمريكا وأدواتها الصهيونية هى أكثر المستفيدين من اختفاء أكثر زعيم عربى تمرد على سيطرتها وخرج ببلاده عن حظيرتها وأجبرها أن تنظر نظرة إكبار للمشروع الناصرى القائم على التحرر وعدم الانقياد لفكرة التفرقة على أساس الجنس واللون.. وهو بالضبط ما تحقق مع بروس لى الذى أجبر هوليوود أقوى سلاح أمريكى للسيطرة على العالم أن تعترف بشاب صينى أتى من أقصى الشرق وتجلسه على أعناقها بعد أن كان فكرة تصدر ممثل صينى لأفيش هوليوودى من رابع المستحيلات، لذلك لم يكن غريبًا أن يذهب أكثر عشاق بروس لى إلى أن أيدى الأمريكان ملوثة بدم ابن هونج كونج، لأنهم لم يستسيغوا فكرة أن يؤدى ممثل صينى دور البطولة فى مدينتهم، وقوَّت هذه الفرضية الحرب الباردة التى كانت تلقى بظلالها على العالم آنذاك بما تعنيه من عداوة بين الشيوعية وكانت الصين أحد أضلعها، والرأسمالية وكانت الولايات المتحدة ممثلة لها.
التأثير بعد الموت أقوى
تستمر الأقدار فى الربط بين ناصر وبروس لى حتى بعد وفاتهما، حيث إن تأثير كل منهما استمر بعد أن واراهما التراب، واستمرت روح التحرر الوطنى التى «نفخها» ناصر فى صدور شعوب العالم الثالث مشتعلة، وساعدت على أن تنال الكثير من هذه الشعوب حريتها، بعد أن استمدت جرأة الدفاع عن الحق، فى وجه طغيان دول الاستعمار الذى كانت أمريكا نفسها من نتاجه.
بالمثل كان موت بروس لى هو البوابة التى دخل منها نجوم صينيون إلى ساحة هوليوود، أمثال جاكى شان وجيت لى، ليتصدرا أفيشات أفلامها، فى محاولة من أباطرة المدينة لملء فراغ كبير تركه بروس لى وكأنه بموته قد هزمهم جميعًا وأجبرهم على تغيير معادلاتهم القاسية القائمة على التفرقة العنصرية والتحيز بغض النظر عن الموهبة.. باختصار بروس لى ألقى حجرًا كبيرًا فى بحيرة هوليوود الراكدة.
مستر كاراتية وناصر 56
فى عام ١٩٩٣ ظهر فى مصر فيلم اسمه «مستر كاراتيه» للمخرج العبقرى محمد خان، أرخ هذا الفيلم لظاهرة نوادى الفيديو فى الثمانينيات والتسعينيات التى اجتاحت القاهرة وكانت أفلام بروس لى هى الزاد الأكبر لتلك النوادى، قصة الفيلم تدور حول «صلاح» الشاب الريفى الطيب الذى اضطرته الظروف إلى الانغماس فى زحام المدينة، لكى يرث عمل والده المتوفى فى أحد الجراجات، لكن الشاب الذى يغوص فى زحام المدينة يجد ضالته فى محل الفيديو الصغير الذى تعمل به «نادية» التى يحبها ويتزوجها فى نهاية الفيلم، ويبدأ فى التهام أفلام بروس لى ليتعلم منها الكاراتيه بعد أن أصبح مغرمًا به، ويجد نفسه فجأة فى مواجهة رجال العصابات والنفوذ، ويكون ما تعلمه من بروس لى عبر شرائط الفيديو، وصارت مشاهدته له عبر تليفزيون القهوة هو زاده الذى يواجه به هذه العصابة ويصارع رجال «أبوالوفا» زعيم العصابة الغامض ويتغلب عليهم جميعًا بفضل بروس لى.
الفيلم يظهر بشكل واضح، ما قلته سابقًا من تعلق المصريين ببروس لى، والذى ظهر فى مشاهد الفيلم حيث يجلس الناس مشدوهين أمام الفيديو فى المقهى الصغير وعيونهم معلقة بشاشة التليفزيون الصغير المتصل بالفيديو، ورأينا حماسهم الشديد وتشجيعهم لبروس لى أثناء معاركه فى الفيلم، أما المفارقة التى حملت ربطًا قدريًا آخر بين ناصر وبروس لى فقد حملها بطل فيلم مستر كاراتيه المتأثر ببروس لى عندما جسد بعد ثلاث سنوات فقط دور الزعيم المصرى فى الفيلم الأيقونى «ناصر ٥٦» عن قصة التحدى الأعظم لتحدى عبدالناصر لغطرسة أمريكا بتأميم قناة السويس وعدم الاستسلام لضغطها بإيقاف تمويل السد، وكأن الأقدار أرادت أن تثبت لآخر لحظة مدى الارتباط بين الرجلين فى أذهان المصريين.
وبالعودة إلى هذا الكتاب القيم فإن أهم ما فيه بجانب دقته المتناهية فى سرد معالم حياة بروس لى من المهد حتى الوفاة أنه يركز على الفلسفة التى طورها بروس لى، والتى كان لها تأثير كبير على جمهوره ومعجبيه حول العالم.. وأكد الكتاب أن بروس لى لم يكن مجرد مقاتل ماهر، بل كان فيلسوفًا له أفكار عميقة حول الحياة، والتطور الذاتى، والتحكم فى النفس، وفرض الثقافة بمرونة عبر تجاوز القيود المجتمعية والشخصية التى قد تواجه الإنسان وعليه حينها ألا يستسلم مثلما فعل بروس لى تمامًا الذى واراه التراب يوم ٢٠ يوليو ١٩٧٣ وعاشت فلسفته وازدهرت وآتت ثمارها إلى الآن.