الأربعاء 04 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جليس الكبار.. المترجم الألمانى هارتموت فاندريش: قراءة الأدب أصعب من قراءة تعويذة

هارتموت فاندريش
هارتموت فاندريش

- أنشر قريبًا 3 ترجمات جديدة أبرزها «أنشودة الغرباء» ليوسف إدريس

- قابلت نجيب محفوظ مرة واحدة وترجمت له «القاهرة الجديدة»

- أعمل على ترجمة مجموعة قصصية لمحمد مستجاب

- جمال الغيطانى من الكُتاب الذين أثروا فىّ خاصة بـ«الزينى بركات»

- إسرائيل وراء تحفظات القارئ الأوروبى على الأدب العربى

لا تزال الترجمة الفن الأكثر دقة وصعوبة بين صنوف الأدب العربى. فالمترجم لا ينقل معانى كلمات بقدر ما يستلهم الروح الكامنة فى الكتابة، ويستنسخها فى قالب مختلف إلى القارئ، الذى لا يعرف شيئًا عن اللغة الأصلية ولا أسرارها.

والمترجم الألمانى هارتموت فاندريش واحد من محترفى هذا الفن، فقد حمل على عاتقه، طوال عقود، مهمة نقل الأدب العربى إلى القارئ الناطق بالألمانية، ليقدم له روائع الروايات والقصص لأبرز الكُتاب العرب، وعلى رأسهم بطبيعة الحال المصريون مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس. ولا يزال عطاء المترجم الألمانى، الذى بلغ من العمر 80 عامًا، مستمرًا إلى هذه اللحظة، ويستعد لطرح عدد من أعماله المُترجَمة من العربية إلى الألمانية، ومنها أعمال للكاتبين يوسف إدريس ومحمد مستجاب. 

عن رحلته فى عالم الترجمة، وتجربته مع الأدب العربى، وأعماله الجديدة المرتقبة، أجرت «حرف» الحوار التالى مع المترجم الألمانى الكبير هارتموت فاندريش.

■ كيف بدأت رحلتك مع اللغة العربية؟ وما حكاية أول عمل عربى ترجمته؟

- تعود جذور تلك البداية إلى مزيج من الصدف. ففى المدرسة الثانوية الألمانية التى التحقت بها، كانت اللغة العبرية تُدرّس إلى جانب اللغة اللاتينية واليونانية القديمة بشكل اختيارى. منحنى ذلك أول نظرة مُعمقة على اللغات السامية، عندها كان علىّ أن أقرر أى مادة أدرسها. وبما أنه كان هناك تهافت كبير على مواد مثل الألمانية والإنجليزية والفرنسية، قررت دراسة اللغات السامية.

ومع ذلك، كان الطريق من تلك النقطة وحتى ترجمة أول عمل من الأدب العربى المعاصر لا يزال طويلًا. فخلال دراستى فى الولايات المتحدة الأمريكية تعاملت بشكل حصرى تقريبًا مع «الكلاسيكيات»، أى الأدب العربى القديم والتاريخ الثقافى العريق. وفى السنوات التى تلت دراستى، قضيت فترة فى دراسة تاريخ الطب فى العالم العربى.

لم أبدأ البحث فى التاريخ والأدب العربى الحديث إلا بعد أن بدأت التدريس بسويسرا، فى نهاية السبعينيات، وأدركت أنه لا تكاد توجد أصوات عربية متاحة باللغة الألمانية. وبما أنى مقتنع بأن الأدب يمكن أن يُعرّفك الكثير عن البلدان والمجتمعات الأخرى، لم أكتفِ بنصح الطلاب بقراءة الأدب العربى فحسب، بل بدأت أيضًا إتاحة أعمال من هذا الأدب للقراء الناطقين بالألمانية.

وتماشيًا مع النقاشات التى كانت سائدة فى أوروبا آنذاك، فى فترة أوائل الثمانينيات على وجه التحديد، كانت النصوص الأولى التى ترجمتها فلسطينية، لكل من غسان كنفانى وسحر خليفة.

■ هل تجد صعوبة فى إيصال المفاهيم الثقافية إلى القراء الألمان، عند ترجمة الأعمال الأدبية العربية، خاصة فى ظل الفروق الثقافية بين الجانبين؟

- دائمًا ما تكون الترجمة مكسبًا وخسارة. فى كل جملة نترجمها إلى لغة أخرى، تضيع جوانب وتظهر أخرى جديدة، لأنه لا توجد كلمة من لغة ما مطابقة تمامًا لكلمة فى لغة أخرى. علينا التعايش مع هذا.

علاوة على ذلك، أنا مقتنع بأن العالمين العربى والأوروبى، فى حالتى الألمانى تحديدًا، ليسا مختلفين كما يُزعم غالبًا. فأولًا وقبل كل شىء نحن بشر، يعنى كائنات ذات احتياجات معينة، الأكل والشرب والإنجاب والحب، والولادة والفقدان والفرح والموت، وما إلى ذلك.

لكن هناك اختلافات جزئية فى ترتيب هذه الاحتياجات والتجارب بين العالمين العربى والغربى. فغالبًا ما نرتدى ملابس مختلفة، ونأكل طعامًا مختلفًا، ونعيش فى منازل مختلفة، وننظم عائلاتنا ودولنا بطرق مختلفة. ومن هنا تنشأ مشاكل المصطلحات.

إن عدم فهم القراء أشياء معينة، أو عدم فهمها على الفور، ليس بالضرورة خطأ المترجم، لأنه حتى فى الأعمال بلغتنا، غالبًا ما نجد أشياء لا نفهمها مباشرة. قراءة الأدب أصعب من قراءة تعويذة.

■ ما الذى يجذبك لترجمة عمل ما دون غيره لنفس الكاتب؟ 

- بالنسبة لى، الأمر كله يتعلق بترجمة الأدب. دافعى الرئيسى للتعامل مع الأدب العربى هو اهتمامى بالآداب بصيغة الجمع. وكما قلت من قبل، أعتبر الأعمال الأدبية مصادر ثرية لمعرفة المجتمعات وأفرادها. وغالبًا ما تكون الأعمال الأدبية أيضًا أجهزة رصد للتطورات التى لم تظهر بعد. وأود تقريب كل هذا بتنوعه الكبير إلى القراء الناطقين بالألمانية.

■ مَن الكاتب الذى أثر فيك بشكل شخصى أو تشعر بأن أعماله كانت الأكثر تحديًا أو متعة فى الترجمة؟

- هناك دائمًا كتب تبرز بسبب موضوعها أو أسلوبها. على سبيل المثال، «الزينى بركات» لجمال الغيطانى رواية مميزة جدًا، بسبب إطارها التاريخى ولغتها العتيقة أحيانًا، ونقدها الحكم الاستبدادى. وروايات إبراهيم الكونى، التى تقدم لنا عالمًا مختلفًا كليًا، وتميل أساليبها إلى الملاحم القديمة. وكذلك أعمال إميل حبيبى، التى تحلل وتتناول الأحداث فى فلسطين وإسرائيل بعد عام ١٩٤٨ بشكل رمزى ومرير للغاية. يتطلب كل عمل من هذه الأعمال وغيرها الكثير من الإلمام بالبيئة الخاصة بها وفهمها، والتى يصوّرها الكاتب بأسلوبه ولغته الخاصة. 

■ هل كانت لك علاقة مباشرة مع الكتّاب العرب الذين ترجمت لهم؟ هل تقابلت مع نجيب محفوظ مثلًا؟

- لم أقابل نجيب محفوظ سوى مرة واحدة فقط. لم أترجم له سوى رواية واحدة من رواياته هى «القاهرة الجديدة»، إلى جانب بعض القصص، خاصة أننى كنت مهتمًا بشكل أساسى بالجيل أو الجيلين التاليين له. فى الواقع أعرف جميع المؤلفين الذين ترجمت أعمالهم شخصيًا، باستثناء أولئك الذين كانوا قد ماتوا عندما ترجمت أعمالهم، مثل غسان كنفانى أو يحيى الطاهر عبدالله. التقيت بعضهم مرات قليلة، والبعض الآخر قضيت معهم أوقاتًا طويلة، وأخبرونى الكثير عن أنفسهم وعن كتاباتهم. كما زرت العديد منهم فى منازلهم. وبعضهم اصطحبنى إلى مسقط رأسه.

■ ما الفرق بين ترجمة رواية كلاسيكية مثل أعمال نجيب محفوظ وترجمة أعمال حديثة؟

- إنها مسألة أسلوب فردى أكثر منها فرقًا بين «الكلاسيكى» و«الحديث». لا يزال هناك كُتاب اليوم يكتبون بطريقة مشابهة لنجيب محفوظ. وفى الوقت نفسه، هناك تنوع كبير فى أساليب أدب اليوم. فإبراهيم الكونى يكتب بشكل مختلف عن محمد زفزاف أو زكريا تامر.

■ هل تُعيد قراءة الأعمال المُترجَمة بعد فترة من الزمن فتلاحظ أى اختلافات فى فهمك لها؟

- نعم، هذا يحدث. أجد أحيانًا خطأ أو خطأين. أشياء أسأت فهمها أو تلميحًا فاتنى. وأحيانًا ألاحظ أيضًا بعض العبارات باللغة الألمانية التى كنت أُفضل صياغتها بشكل مختلف.

■ ما المعايير التى تعتمد عليها فى اختيار الأعمال التى تترجمها؟ وهل تميل إلى نوع معين من الأدب أو كُتّاب معينين؟

- هنا لا بد أن أشير أولًا إلى أن المترجم ليس دائمًا هو مَن يختار الكتاب للترجمة، بل المختصين فى دار النشر، الذين يجمعون المعلومات والبيانات عن هذا الكتاب من وسائل الإعلام الدولية مثلًا، ثم يُعرض عليك الكتاب للترجمة، وإما أن تقبله أو ترفضه.

لكن تلعب عوامل مختلفة دورًا كبيرًا فى هذا القرار، هل القصة المروية مهمة؟ هل أسلوب السرد مفهوم؟ ما الأشياء الجديدة التى يقدمها النص من حيث المضمون والبنية والأسلوب، وما إلى ذلك. وتلعب هذه المعايير دورًا أيضًا، عندما أقترح أنا كتابًا على الناشر. 

■ كيف ترى تأثير ترجماتك للأدب العربى على الجمهور الألمانى؟ وهل لاحظت تطورًا فى اهتمام القراء الألمان بالأدب العربى على مر السنين؟

- أخشى أن هذا التأثير ضئيل للغاية. هناك العديد من الأسباب لذلك. فالعالم العربى لا يزال يُنظر إليه فى أوروبا على أنه ليس جارًا للقارة العجوز. أمريكا الشمالية والجنوبية أقرب إلى الأوروبيين. من المحتمل أن تُقرأ رواية تدور أحداثها فى نيويورك أو جلاسكو أو مرسيليا أكثر من رواية تدور أحداثها فى الرباط أو الإسكندرية أو صنعاء. وغالبًا ما يكون من الصعب متابعة الحبكة، لأن الناس لديهم سرديات مختلفة أو وجهات نظر مختلفة عن العالم العربى.

بالإضافة إلى ذلك، لا تزال هناك تحفظات على العالم العربى ككل، خاصة فى ألمانيا، وهى تحفظات لها أسباب تاريخية وسياسية، وغالبًا ما تتعلق بالعلاقة مع إسرائيل. ويشكل تفكيك هذه التحفظات مهمة تستغرق وقتًا طويلًا، وتلعب ترجمة الأدب دورًا مهمًا فى إنجاز تلك المهمة.

■ هل هناك أعمال أدبية عربية تعتقد أنه يجب أن تُترجم إلى الألمانية لكنها لم تحظَ بعد بفرصة؟ ولماذا تشعر بأنها تستحق ذلك؟

- هناك الكثير، ولا جدوى من سرد العناوين هنا. فكل رواية أو قصة قطعة صغيرة أو كبيرة من فسيفساء الصورة الكلية للمجتمعات العربية وهياكلها وأفرادها. ويلقى كل عمل الضوء على جانب من جوانب هذه المجتمعات. الأعمال المترجمة إلى الألمانية من معظم مناطق العالم العربى نادرة، وغزة خير مثال على ذلك. فلا توجد أى ترجمات من هناك تقريبًا، ولهذا السبب فإن المعرفة عن قطاع غزة ضئيلة للغاية.

■ هل تغيرت رؤيتك للأدب والثقافة العربية خلال السنوات التى قضيتها فى الترجمة؟

- بالتأكيد. لكن أولًا وقبل كل شىء، فإن العمل كل تلك السنوات فى الأدب العربى وسّع مداركى ومعارفى للغاية. لقد تعلمت مثلًا أن هناك أدبًا عربيًا غير طه حسين ونجيب محفوظ، وأنه متنوع بشكل لا يصدق فى موضوعاته وأساليبه، وبالتأكيد فى جودته. كذلك تعلمت أنه ليس من المنطقى أو المفيد التحدث عن الأدب العربى كوحدة واحدة إلا على المستوى اللغوى، لأن مناطق العالم العربى وكتّابها مختلفون للغاية.

■ اذكر اسم كتاب ترجمته ولا تستطيع نسيانه أو نسيان فترة ترجمتك له؟ ولماذا؟

- عن هذا أيضًا يمكن ذكر الكثير. مثلًا قصص حسن بلاسم بوحشيتها السريالية فى كثير من الأحيان، أو قصص محمد زفزاف القصيرة برؤيتها العميقة للطبقات الأكثر بؤسـًا من الشعب المغربى، أو «طوق الحمامة»، و«البانوراما الروائية لمكة المكرمة» تأليف رجاء عالم، وقصص الطفولة الرقيقة ذات الطابع التاريخى لإدوار الخراط فى «ترابها زعفران»، والكثير والكثير.

■ مِن بين الكتّاب المعاصرين فى مصر حاليًا.. مَن منهم قرأت أعماله وتتمنى ترجمتها فى المستقبل؟

- هذا سؤال يجب أن تطرحيه على مترجم أصغر سنًا. أنا أبلغ من العمر ٨٠ عامًا، ومشاريعى المستقبلية محدودة جدًا. فى الوقت الحالى، أرغب بشكل أساسى فى العثور على ناشرين مستعدين لنشر الترجمات التى كنت أعمل عليها، أو حتى انتهيت منها على مدار الـ٤٠ عامًا الماضية. هذا يعنى أننى على وشك إفراغ جهاز الكمبيوتر الخاص بى.

■ هل تعمل حاليًا على مشروع ترجمة جديد؟

- نفس إجابتى السابقة، فأنا حاليًا أكمل أكبر عدد ممكن من الترجمات التى بدأتها منذ فترة طويلة، وأود أن أراها ككتب. ستُنشر ٣ من هذه الترجمات فى الأشهر القليلة المقبلة، وهى رواية «حياة معلقة» لعاطف أبوسيف، ومجموعة قصصية لمحمد زفزاف، والقصة الطويلة «أنشودة الغرباء» ليوسف إدريس.

على مكتبى أيضًا مجموعة قصصية لمحمد مستجاب، وقصة طويلة لحيدر حيدر، و«أقوال مأثورة فى الأدب» لخالد خليفة، وروايتان صغيرتان لربيع جابر، إلى جانب كتاب «المنام الكبير» لمحرز الوهرانى، وهو نص عن يوم القيامة يسخر فيه المؤلف من الساسة ورجال الدين، ويعيدنى إلى بداياتى، دراسة الأدب العربى فى القرون الوسطى والتراث

■ ما المختلف فى ترجمة أعمال نجيب محفوظ عن ترجمة كتّاب آخرين مثل الطيب صالح أو إبراهيم الكونى؟ 

- قد يسأل المرء أيضًا كيف تختلف ترجمة «القاهرة الجديدة» و«يوم قتل الزعيم»، وهما روايتان لنجيب محفوظ؟. فى فترات كتابة مختلفة يجلس المرء ويقرأ ويفكر فى كتابته من حيث الأسلوب ولغة النص، ومن بعد يبدأ تصور الصيغ المحتملة فى اللغة المستهدفة. هذا هو الفرق بين ترجمات الأعمال المختلفة.