الخميس 20 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

مقاول الهدد.. وسياسة الصدمة

حرف

فى ذروة كوفيد ١٩، بدأ هدير الأرض يخفت، وكأنها تنوى التوقف عن الدوران، انطفأت أنوارها، أصبحت الحدائق خاوية وتوقفت المصانع. مشاهد البشر يهرعون إلى منازلهم خشية الموت الذى يترصدهم على الأبواب، كانت مرعبة، كأنما نشهد بروفة لقيامة من نوع خاص. بعد أيام من نجاح ماكينة التكنولوجيا اليورو/أمريكية فى صنع لقاحات متسرعة تخفف من آثار الفيروس الشرس، بدأت المجتمعات الغربية المتقدمة فى تخزين اللقاح تاركة باقى العالم فى عدواه القاتلة. ساعتها خرج الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريتش محذرًا من عدم نقل تكنولوجيا اللقاح للدول الفقيرة، وحذر كذلك من تخزين الدول الغربية لكميات كبيرة من اللقاح تزيد كثيرًا عن حاجتها، قال لهم إن الفيروس سيطور نفسه ويتحور فى المناطق الفقيرة من العالم ثم يصلكم حتمًا، وهذا تحديدًا ما حدث. ضاع صراخ جوتيريتش فى الفضاء الغربى الموبوء بالأنانية، ولم تستطع آلة رأس المال أن تتخلى عن منطق دورانها. فى قلب هذا الدمار الإنسانى صحيًا وأخلاقيًا، قام الرئيس الأمريكى بأداء مشهد كوميدى أسود دون أن يقصد.

كان المسرح مكتظًا بأطباء يشرحون للناس، أمام أعين الكاميرات، كيف يجب تطهير الأيدى والأجساد باستخدام محلول الديتول المخفف، ترامب يقف مستمعًا ويبدو مفكرًا بعمق، ثم ينطق فجأة باقتراح ألجم الجميع، وأصاب حاملى الكاميرا بارتعاش واضح إما هلعًا أو ضحكًا، قال: لماذا لا نجعل الناس يشربون محلول الديتول لتطهير الأجساد من الداخل؟ أنا أتساءل فقط؟.

أراد المدافعون عن ترامب أن يفسروا الموقف كمزحة، لكن كل من شاهد تعبيرات وجهه عرف أنه لم يكن يمزح، بل إن هذا تحديد مستوى معرفته بالإنسان والكيمياء والمنطق. 

يمكن فى ضوء المشهد السابق تحليل تصريحات ترامب الأخيرة، عن تهجير سكان غزة والاستيلاء على القطاع لتحويله إلى ريفييرا، تخلق آلاف فرص العمل، وتصبح منتجعًا لكل جنسيات العالم، الأغنياء فقط طبعًا. ترامب مقاول ذكى، ورجل أعمال بارع فى استخدام قواعد الرأسمالية فى عقد الصفقات وتحقيق المكاسب، لكنه جاهل بصورة مخجلة فيما يتصل بأى شىء آخر، وأقصد أى شىء: التاريخ، الجغرافيا، السياسة، الإنسان، الأخلاق، القيم ويمكنك أن تضيف أيها القارئ العزيز كل ما يخطر على بالك إلى تلك القائمة. مقترحات ترامب عن غزة بسيطة وصادقة، وكأى تاجر خردة أو مقاول هدد، سال لعابه على «عملية سقع» دخل فى وهمه أنه سيضرب بها أكثر من عصفور بحجر واحد: يرضى اللوبى اليهودى الذى يحلم منذ زمن بالتطهير العرقى للفلسطينيين، ويثبت أنه أكثر صهيونية من سلفه بايدن، ويغازل جمهوره من عوام الأمريكيين الذين لا يختلفون فى تركيبتهم العقلية والمعرفية عنه، ويمتعهم بمشهد استعراض للقوة يشبه ما يحدث فى أفلام «مهمة مستحيلة»، وهو إلى ذلك سيحقق مكاسب مالية غير متخيلة، وسيعيد لأمريكا هيبتها المفترضة ويدعم هيمنتها على العالم. بساطة عقل ترامب سياسيًا وفكريًا تتأكد كذلك فى عروضه التجارية الساذجة لضم كندا وشراء جرينلاند من الدنمارك وإقامة سور بينه وبين المكسيك على طريقة سور برلين. 

لكن أليس من المحتمل أننا أمام سياسى عبقرى، يمارس التفاوض بأسلوب خبيث ويخفى أكثر مما يظهر، أم أننا نواجه مجنونًا تاريخيًا يشبه موسولينى وهتلر؟ أحسب أنه لا هذا ولا ذاك، ترامب أمريكى جاهل يملأه الكبر، وهو إلى ذلك تطبيق مثالى لتصورات مدرسة شيكاغو فى الاقتصاد، وبحسب ناعومى كلاين فى كتابها المهم «عقيدة الصدمة» فإن سعى هذه المدرسة لتحقيق الحرية الكاملة للسوق، قادها لاستخدام الكوارث الطبيعية، والحروب، والأوبئة وما يماثل ذلك من أزمات، لتغيير الواقع بصورة دائمة، تغييرًا يخدم رءوس الأموال المتعطشة للكسب، وإطلاق يد السوق بحرية تامة بعيدًا عن سيطرة الدولة، وهو ما يحدث بالتعاون مع السلطة السياسية بالطبع، فمثلًا؛ إذا وقع زلزال مدمر هدم مدينة بأكملها، فإن ما يراه الرأسمالى/ مقاول الهدد الأمريكى هو فرصة لتحويل كل المدارس الحكومية المجانية إلى مدارس استثمارية، وتحويل الحدائق العامة إلى مدن ملاهٍ تدر الربح وهكذا، فإن لم تقع الكوارث الطبيعية التى تسمح بتحويل الواقع على طريقتهم، سعوا إلى صناعة هذه الكوارث عبر الحروب والانقلابات والتحالف مع الأنظمة القمعية لفرض نمطهم الاقتصادى، وهو ما حدث مثلًا فى شيلى حين استعان فيها الديكتاتور الدموى بينوشيه بخبراء مدرسة شيكاغو.

ما حدث هو أن تاجر الخردة/ مقاول الهدد الجاهل، سال لعابه حين رأى غزة مهدمة، وتمت ترجمة المشهد فى ذهنه إلى فرصة تاريخية لتحويل الواقع بصورة نهائية، لكن هناك مشكلة بسيطة تكمن فى جهل ترامب بالفرق بين مدينة يحكمها، ويسكنها أمريكيون سذج يمكن خداعهم، والاستيلاء على أرضهم بعد إعادة توطينهم فى مدينة أخرى، وبين دولة محتلة يقطنها شعب عريق ذو ثقافة خاصة وتضرب جذوره فى التاريخ عميقًا، ويقاوم مشاريع تهجيره منذ عشرات السنين. ترامب الجاهل بالفرق، مقاول الهدد الذى تملكه شعور جاهل بالقدرة المطلقة، تحول دون أن يشعر أو يفهم إلى زعيم نازى فى لحظة تاريخية تشهد انهيارًا لمنظومات القيم فى الثقافات العريقة، بسبب الفقر والجهل والقمع، ما يقف حجرَ عثرة ضخمًا أمام تطور هذه الثقافات الأصيلة، فى حين تمددت قوانين الرأسمالية المتوحشة لتعشش فى رءوس الجميع، بوصفها الطريقة الوحيدة للعيش والتفاعل بين الناس والدول جميعًا.

ومع كل الفزع الذى سببته تصريحات مقاول الصدمة، أرى فى مشهد ترامب وهو يقول هذا الكلام عن غزة، وبجواره نتنياهو لا يكاد يستقر على مقعده وقد علت ملامحه نشوة تشبه النشوة الجنسية، مشهد مهم وفارق فى تاريخ أمريكا وإسرائيل والعالم. لقد وصل وهم السيطرة فى ذهن ترامب المقاول الجاهل إلى ذروة تاريخية، خاصة بعد عودته الدرامية إلى البيت الأبيض رغم ما ارتكب من جرائم، ما عزز لديه إحساس الشخص المحصن the untouchable تمامًا مثل توم كروز فى أفلام «مهمة مستحيلة». من الطبيعى لشخص جاهل مفعم بإحساس القوة المطلقة أن يقول ما يدور فى رأسه مباشرة، وأن يتمسك بتحقيق تصوراته، دون تشنج وبثقة كاملة، كأى إله يعرف قدرات نفسه. تأتى أهمية المشهد فى أمرين: التعرية، والمواجهة؛ أولًا تعرية السياسات الأمريكية أمام العالم، وتعرية طبيعة التوجه الصهيونى الاستعمارى الذى لا يختلف فى إجرامه ونازيته عن توجه السياسة الأمريكية، وثانيًا مواجهة العالم المتقدم «الأول»، المرتبك بين ادعاء التمسك بالقيم والحريات وسيادة القانون، وبين خضوعه المهين لما أوصلتنا إليه رأسمالية متوحشة، لا تحكمها أى قيمة خارج قوانين السوق. إن ترامب ببساطة إفراز عقود طويلة من سيادة نمط اقتصادى/سياسى لا يعترف سوى بالمكسب، على حساب أى شىء حتى حياة الإنسان نفسها. وهو فى الوقت نفسه نقطة التحول الممكنة لهذا النمط بما سيتسبب فيه من مواجهات عنيفة قد تنتهى بحرب كونية أخيرة.ش