بعد ترجمة «سيرة الست» للإنجليزية.. ومنع تداول «مهنة سرية»
محمد بركة.. لماذا أنا مكروه؟

- هناك من يتخذون موقفًا عدائيًا منى لمجرد أننى لست من شلتهم
- لا أتقدم إلى الجوائز لأننى لست «ترز يًا» أفصّل كتاباتى على مقاسها
- معظم الجوائز تبحث عن نصوص «منزوعة المخالب» على طريقة كتب التنمية البشرية
- ترشيحات «البوكر» محصورة فى دور نشر بعينها رغم إنتاجها الردىء
هو واحد من أبرز الأصوات الأدبية التى تخترق المسكوت عنه فى التاريخ والسياسة والموروث الفنى، وحوّل أعماله الروائية والقصصية إلى عوالم سردية غرائبية تذوب فيها الحدود بين الواقع والمتخيل، وبين المقدس والمحرم، إنه الروائى والكاتب الصحفى محمد بركة.
فى روايته الأثيرة «حانة الست»، كشف «بركة» تفاصيل محذوفة من سيرة أم كلثوم، بينما ناقش فى «عرش على الماء»، و«الفضيحة الإيطالية»، المترجمة للإنجليزية والإيطالية، ثالوثه الأثير: «الدين والجنس والسياسة»، ولم تسلم أعماله من المنع دون أسباب واضحة، لكنها حظيت بدراسات نقدية عديدة، منها أطروحة دكتوراه فى جامعة الأزهر تناولت رواياته كعينات للواقعية المصرية.
«بركة»، الذى بدأ مسيرته بالحصول على جائزة «أخبار الأدب» عام 1994 كأصغر كاتب سنًا فى حفل حضره أديب نوبل نجيب محفوظ، يواصل اليوم مشروعه الروائى الكبير الذى أنتج 13 عملًا حتى الآن.
عن عالمه السردى الذى يجمع بين سحر المشهدية وتفكيك البنى الجاهزة، وكواليس روايته المثيرة للجدل «حانة الست»، أجرت «حرف» مع محمد بركة الحوار التالى.

■ ما الذى تمثله لك ترجمة روايتك الشهيرة «حانة الست» إلى الإنجليزية؟
- هذه ليست المرة الأولى التى يُترجم لى فيها عمل إلى الإنجليزية، فقد سبق ذلك ترجمة روايتى الأولى «الفضيحة الإيطالية» التى صدرت طبعتها الأولى عام ٢٠٠٥ إلى تلك اللغة وأنجز الترجمة البروفيسور الهندى د. مجيب الرحمن، أستاذ الأدب العربى بجامعة جواهر لال نهرو.
ورغم ذلك، أن تصبح رواية «حانة الست» مترجمة ومقروءة لدى الآخر الغربى فهذا شىء مختلف ورائع لعدة أسباب، منها أن الرواية ستكون متاحة على أشهر المنصات الإلكترونية فى العالم، كما سيتم توزيعها ورقيًا فى أكثر من ١٢٠ دولة حول العالم. ولا تنسَ أن الرواية من ترجمة العزيزة د. سلوى جودة، أستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة عين شمس، وهى صاحبة الإبداع المدهش فى نقل الأدب العربى إلى العالم وتبذل جهودًا نبيلة، دون مقابل، فى هذا السياق. أتمنى من وزارة الثقافة أن تجد وسيلة ما لدعمها وتكريمها، فهى تقدم جهدًا فرديًا يوازى قدرات مؤسسات كبرى.
■ ماذا عن الناشر؟
- من حسن الحظ أن ترجمة «حانة الست» تصدر عن دار «Sulfur Editions» التى تمتلك مبادرة طموحة لنقل الأدب العربى إلى العالمية عبر فريق متخصص من المترجمين والمحررين العرب والأمريكان، بقيادة المبدع الشامل محسن البلاسى.

■ هل تختلف النسخة الإنجليزية عن الأصل العربى فى شىء لافت؟
- النسخة الإنجليزية تصدر مزودة بمقدمة وافية من الناشر ومقدمة أخرى من المترجمة، مع كلمة موجزة للمؤلف، وكل ذلك بهدف وضع القارئ الغربى فى خلفية سياسية اجتماعية اقتصادية عن عصر أم كلثوم بملابساته وظروفه، فضلًا عن التعريف الشامل بـ«ثومة» كأسطورة للغناء العربى.
أيضًا من المحتمل أن تتضمن النسخة الإنجليزية ألبومًا من الصور النادرة الخاصة بأم كلثوم، فضلًا عن ببلوجرافيا بأبرز الأحداث فى حياتها، والفكرة هنا تقديم منتج متكامل لقراء الإنجليزية حول العالم يليق بمكانة «ثومة» ومكانة الأدب العربى.
■ ماذا عن كلمة المؤلف؟
- النص فى النهاية هو كلمة المؤلف الحقيقية والنهائية، لكن المقصود هنا كلمة تمهيدية على سبيل التقديم، أشير فيها إلى الهاجس الذى كان يحركنى أثناء كتابة العمل. كانت تشغلنى فكرة أن تتأخر الأسطورة وتتقدم الإنسانة فى قصة أم كلثوم، ألا نتعامل بعد اليوم مع سيرتها الذاتية بمنطق «ممنوع الاقتراب أو التصوير».
لقد تواطأنا جميعًا على نسيان أو تناسى حقائق مهمة كانت أم كلثوم نفسها هى مصدرها المباشر، سواء فى حديثها المطول للصحفى محمود عوض، والذى نشر فى كتيب بعنوان «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد»، أو فى كتابات د. نعمات أحمد فؤاد عنها.

■ هل يمكن أن تعطينا أمثلة محددة على هذا «التواطؤ»؟
- الرواية متاحة ورقيًا وإلكترونيًا للجميع، وفيها الحكاية بالتفصيل، لكن يمكن أن أشير سريعًا إلى المعاملة السيئة التى كانت تتلقاها أم كلثوم من والدها الشيخ إبراهيم، الذى لم يرَ فى ابنته إلا وسيلة للتربح، فضلًا عن «التسلط الذكورى» الذى مارسه عليها شقيقها الأصغر الشيخ خالد، والاضطهاد الذى لقيته من الشيخ عبدالعزيز، شيخ الكُتّاب.
«أم كلثوم» كانت ضحية، لكنها عادت ومارست «الاضطهاد الناعم» و«العقاب الجبار» و«التلاعب العاطفى» بحق آخرين.
■ لكنك لا تزال متهمًا بـ«تشويه» صورة أم كلثوم حتى إن البعض طالب بإحالتك للنائب العام وسحب الرواية من الأسواق؟
- الرواية تنقسم إلى شقين، الأول وقائع ومعلومات، والثانى استبطان داخلى على جناح الخيال لنفسية أم كلثوم ونظرتها لنفسها وجسدها والعالم.
الشق الأول موثق بمراجع تاريخية، والشق الثانى يظهر كم التشويه الذى مارسه المجتمع بحق «ثومة». تكفى جريمة أن تعيش أجمل سنوات عمرها متنكرة فى معطف أزرق وعقال أبيض على طريقة البدو قديمًا لتبدو رجلًا ويتجنب الشيخ إبراهيم الحرج الاجتماعى.

■ يقال فى الأوساط الثقافية إنك دومًا ما تصدم قراءك بالمسكوت عنه أو المحجوب والمخفى.. هل تتعمد ذلك؟
- لا أعرف، المؤكد أننى لا أتعمد إحداث صدمة بقدر ما تأتى الأمور بشكل عفوى، ربما أكون متأثرًا بتجربتى السابقة كمحقق صحفى يستهويه الذهاب إلى مناطق بكر وحرث أرض عذراء.
لو أخذت «حانة الست» كمثال، فالرواية لا تشوه أم كلثوم، بالعكس، سعيتُ لإعادة اكتشاف إنسانيتها كبشر تغار وتتألم وتُجرح وتتحسر، خاصة أن مسلسل «أم كلثوم» الذى كتبه الأستاذ محفوظ عبدالرحمن يقدم سردية زائفة وغير صادقة لسيرتها هى ومن حولها، والتى جاءت مغرقة فى المثالية، أى أنه كان لوجه الناس وليس لوجه الحقيقة.
■ ما تعليقك على منع روايتك الأخيرة «مهنة سرية» من التداول فى السعودية؟
- خبر مؤسف للغاية، أقول لنفسى: «قدر الله وما شاء فعل»، لكنى أشعر بأسف عميق، القارئ السعودى واحد من أهم القراء العرب بالنسبة لى، من خلال تفاعله مع أعمالى الروائية، خاصة رواية «حانة الست» التى يضج فضاء موقع «إكس» بتعليقات مميزة حولها، وكذلك «عرش على الماء»، كما احتفت صحيفة «عكاظ» السعودية بى بشكل رائع.
من هنا أبدى أسفى وحزنى لقرار رفض تداول روايتىّ «مهنة سرية» و«أشباح بروكسل» داخل السعودية لأسباب رقابية.
ولا أملك سوى احترام القرار مهما كانت مبرراته، لكنى خسرت قارئًا واعيًا وذكيًا وشغوفًا بالمختلف، وعزائى أن العملين متاحان على العديد من المنصات الإلكترونية العربية الكبرى، مثل «أبجد» و«نيل وفرات» وغيرهما، لكن مطالعة النسخة الورقية تظل شيئًا مختلفًا.

■ هل المنع يعود إلى حساسية موضوع العمل الذى يتناول قصة شاب يمتهن النوم مع السائحات الأجنبيات مقابل المال فى حين أن والده مقرئ كفيف ووالدته تمارس فعل الخيانة الزوجية؟
- لا تتوافر عندى معلومات دقيقة أو حيثيات مفصلة عن منع الرواية، لكن النص بعيد تمامًا عن الفجاجة أو الخدش المجانى للحياء.
«مهنة سرية» حظيت بإشادة نقدية واسعة النطاق، وتتوالى المراجعات لها بشكل يكاد يكون يوميًا، والجميع يمتدح ما فيها من عذوبة وشاعرية، والجنس تحول فى الرواية إلى قصيدة شعر، أفضّل التعامل معه على هذا النحو دائمًا.
■ هل أنت كاتب مشاغب؟
- لست مشاغبًا وإنما أبتغى فقط الصدق فيما أكتب، أنا كاتب مكروه لأن القارئ يكره من يقول له الحقيقة، من يوقظه من أوهامه، معظم القراء يبحثون الآن عما هو خادع ومطمئن، يريدون نصوصًا تشبه الموادة المخدرة.
أنا لا أعبر إلا عن ٥٪ مما عندى من أفكار ومواقف بسبب «الإرهاب الناعم» الذى يطارد به المجتمع والناس أى كاتب حر عبر ما يسمى بـ«الذوق العام» كحجة تحرمنا من التفكير والإبداع.

■ هل لديك إذن «رقيب داخلى» يفرض رأيه عليك حين تتناول المحرمات الثلاثة «الدين والجنس والسياسة»؟
- أكذب عليك لو قلت إننى أكتب دون أن أراعى أحدًا أو أضع فى ذهنى اعتبارات ما، نعم هناك رقيب داخلى لكنى أروّضه وأخادعه وأعقد معه صفقات مشبوهة وأقدم له رشاوى وإغراءات حتى يدعنى فى حالى ويغض طرفه عنى ولو قليلًا.
■ فيما يتعلق بالجوائز الأدبية الكبرى مصريًا وعربيًا.. لماذا لم تحصل حتى الآن على أى منها؟
- الجائزة الوحيدة التى حصلت عليها كانت جائزة صحيفة «أخبار الأدب» فى المسابقة التى نظمتها للقصة القصيرة عام ١٩٩٤، وحضر الحفل الأستاذ نجيب محفوظ، وخرجت الصحيفة بمانشيت تاريخى يقول «عشرون كاتبًا هديتنا إلى مصر». كنت أصغر المتسابقين سنًا، ٢٢ عامًا، وقدمت تلك المسابقة جيلًا جديدًا من الأدباء، منهم عمار على حسن وأشرف الخمايسى وأحمد أبوخنيجر وأمينة زيدان وهويدا صالح.
الجوائز الحالية لا أتقدم إليها لأسباب عديدة، منها أننى لست «ترزيًا» أفصّل كتاباتى على مقاس الجوائز، ولا أكتب إبداعًا حسب المواصفات والطلب، كما أن أعمالى بطابعها الحر، الصادم للبعض، لا تناسب العديد من الجوائز العربية الكبرى ذات الطابع المحافظ.
والحق أن التيار العام السائد فى معظم الجوائز العربية، وليس كل تلك الجوائز، يبحث عن نصوص طيبة وديعة مسالمة منزوعة المخالب، على طريقة كتب التنمية البشرية.

■ ماذا عن جائزة «البوكر»؟
- حين توقّع الجميع أن تفوز «حانة الست» بجائزة البوكر، أو على الأقل تصعد للقائمة القصيرة، لم يحدث ذلك لأن ناشر الطبعة الأولى رفض أن يتقدم بها للجائزة لأننى تركته وأعطيت النص لناشر آخر، و«البوكر» تشترط أن تكون المشاركة بالطبعة الأولى.
مشكلة «البوكر» أن قوائم الترشيح ولجان الفرز لديها باتت منحصرة فى عدد «محدود ومحدد» سلفًا من دور النشر مهما كان إنتاجها رديئًا، مع تجاهل دور النشر الأخرى مهما كان إنتاجها الروائى عظيمًا.
وتبقى «البوكر» تجربة رائدة وفارقة، ولكن على القائمين عليها مراعاة التنوع فى دور النشر، وأن يكون معيارهم الاطلاع على الإنتاج المقدم فعلًا وليس الحكم طبقًا لاسم دار النشر الكبيرة، وهذا مهم إن أرادوا إنقاذ مصداقيتهم التى باتت على المحك.
■ ماذا عن الجوائز المصرية؟
- لم أشارك سوى مرة واحدة برواية «حانة الست» فى جائزة مصرية قبل سنوات، لكن محكمى الجائزة فى تلك الدورة حجبوا فرع الرواية ومنحوا الجائزة فى فرع القصة القصيرة، وهو ما يشكل بالنسبة لى علامة استفهام، لأن الجميع كان يتوقع فوز «حانة الست»، فإذا بهم يغلقون فرع الرواية أصلًا، فى سابقة لم تحدث قبلها أو بعدها.

■ دعنا نتطرق إلى تجربة الصحافة الثقافية فى حياتك وتأثيرها على رحلتك الإبداعية.. كيف كانت؟ وهل هناك طغيان للصحافة على الأدب فى تجربتك؟ ليتك تشرح للقراء معاناتك مع هذه الإشكالية الملغزة.
- التحقت بالعمل الصحفى عبر مؤسسة الأهرام العظيمة فى أواخر التسعينيات، وكان علىّ أن أثبت نفسى بتفانٍ، فكان العمل يستغرق النهار بكامله وأعود إلى البيت مرهقًا فى رحلة تستغرق ما يقرب من ساعة إلى ساعة ونصف الساعة. طغى العمل ومتطلبات لقمة العيش على المساحة المخصصة للإبداع حين كنت فى مرحلتى العشرينات والثلاثينات من العمر.
فى حقبة الأربعينات بدأ يحدث نوع من التوازن إلى حد ما، لكن الكفة رجحت لصالح الأدب تمامًا فى النصف الثانى من الأربعين.
■ لكن الأديب الذى يمتهن الصحافة متهم من جانب البعض بأنه يستفيد من موقعه الصحفى لتحقيق الانتشار والذيوع أدبيًا؟
- هذا صحيح تمامًا ويحدث كثيرًا، لدينا أسماء لصحفيين فى الوسط الأدبى لولا الخدمات التى تقدمها لدور النشر وأصحاب النفوذ، لكانوا ماتوا إكلينيكًا كأدباء نتيجة ضعف ورداءة ما يكتبون. القصة مختلفة معى للغاية، فقد توقفتُ عن ممارسة العمل الصحفى بمعناه المباشر والفعلى، لا سيما الصحافة الثقافية، منذ أكثر من ١٥ عامًا. وصدرت أبرز أعمالى وأنا خالٍ من أى نفوذ إعلامى.
وفى ذروة ممارستى للصحافة الثقافية بمجلة «الأهرام العربى»، لم أقم بتوظيف علاقاتى القوية بالنقاد أو دور النشر نهائيًا.
■ هل هناك من يتعمد تهميش محمد بركة؟
- لا أعرف، أحاذر تمامًا لنظرية المؤامرة وأتجنب الانزلاق تحت غوايتها، لكن المؤكد أن هناك من يتخذون موقفًا عدائيًا منى، وبشكل مجانى، لمجرد أننى لست من شلتهم ولا أسهر معهم أو أبادلهم التهانى الحارة، بمناسبة ودون مناسبة، على مواقع التواصل. الأكثر مدعاة للسخرية والتأمل والكوميديا السوداء أن هناك من يتخذ موقفًا عدائيًا منى لمجرد مجاملة شخص يسعده أن يسمع قدحًا فى كتابتى. أنا رجل بيتوتى تمامًا، كاتب وحيد وملول، لا أجيد سوى الكتابة، ولا علاقة لى بالعالم الخارجى إلا لأسباب اضطرارية بحتة. أكتب بانتظام، ومن الواضح أن ما أكتبه يلقى ذيوعًا وإشادة على نطاق واسع، ويبدو أن ذلك لا يعجب البعض.