الثلاثاء 03 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

العالم العجائبى لقصص راوتر شيخ البلد

عاطف عبيد
عاطف عبيد

- نصوص هذا الكتاب تُحققُ لقارئها الدهشةَ والتأويلَ غير المفرط عن عالمٍ مُختلفٍ ومُغايرٍ

- تمثل القصة القصيرة عند عاطف عبيد نوعًا من الاتكاء الأنثروبولوجى على ثقافة - المكان والناس فى ريف مصر هناك علاقة ثقافية تاريخية بين ما يكتبه عبيد وبين التاريخ والتحولات التى جرت على القرية المصرية

يعرفُ عاطف عبيد كيف يبدأ نصَّه القصيرَ وكيف ينهيه، وقد أحببتُ نهايات نصُوصه، لأنَّها تأتى من كاتبٍ يشتغلُ فى نصِّه بخبرةٍ وحنكةٍ باديتين

يحذفُ أكثرَ ممَّا يفصِّل، ويكثِّفُ أكثرَ ممَّا يسردُ، ويخفى أكثرَ ممَّا يكشفُ، فهو ابنٌ للدلالةِ الصَّامتة التى تقولُ، أو للرمزِ الذى يشِى ويعنى فى الوقتِ نفسه، ويفعل ذلك بتوقُّدٍ وذكاءٍ، خائضًا معركةً مع الذاكرةِ التى تحوى تراثَها الغريبَ والعجائبىَّ، بانيًا أسطورتَه الشخصيةَ عبر شخُوصه المُخترَعين أو الحقيقيين الذين تدورُ عوالمهم داخل إحدى قرى كفرالشيخ، و«راوتر شيخ البلد» للكاتب عاطف عبيد هو عندى كتابُ قَصصٍ وليس مجموعةً قصصيةً يضمُّ واحدًا وثلاثين نصًا تنشغل جميعًا بقريةٍ منسيةٍ فى شمال الدلتا أو يمكنُ أن تقول مثل قريتى كفر المياسرة التى تقع على شمال السماء، تتبع محافظة كفرالشيخ حيث ولد الكاتب وما زال يعيشُ فيها بين من كتبهم أو اخترعهم، وهو كتابٌ جاء فى سياقٍ واحدٍ، داخل مكانٍ واحدٍ، عبر شخُوص يتبادلون الأدوارَ أو يتكرَّرون، وقد استطاع عاطف عبيد أن يجعلهم يظهرون بوضُوحٍ على مسرحه الكاشف، مستفيدًا من كونه يعمل فى الأساس استشاريًا لنظم إدارة المعرفة والتحول الرقمى.

كما أنه يستلهمُ نصوصه من التجارب الإنسانية والاجتماعية من عوالم عاشها أو عاشت فيه طويلًا وحان سردُها، وهو بهذا الكتاب يثبتُ أنَّ القريةَ المصريةَ لا تزالُ خزَّانَ حكاياتٍ وأسرارٍ غريبة وقصص عجيبة، فيها من اللا معقول والأساطير الكثير، وأنَّ كلَّ قريةٍ مصريةٍ لها عالمُها الخاص الذى لا تنفدُ قَصصه، وأنَّ القريةَ لا تزالُ عالمًا بكرًا لم تُكتَشف بعد على الرغم من مئات النصوص التى تناولتْها، لكنَّ خُصوصيةَ كل كاتبٍ وفرادته هى ما تُميِّزُ قريةً عن سواها.

وعلى الرغم من أنَّ واقع القرية يُطلُّ بشكلٍ واضحٍ فى كلِّ نصوص الكتاب فإنَّ خيال عاطف عبيد الجامح له دورُه الأساسىُّ داخل هذا الكتاب.

والكتاب يقومُ على جناحىْ السُّخرية والمُفارقة بشكلٍ أساسىّ، يصطاد فيه الكاتب نصوصَهُ من بحرٍ زاخمٍ بالقَصص، التى تأتى بلا تعمُّد أو تكلُّف، وعلى الرغم من الإتقان الكتابى فإنَّ خيوطَ الصَّنعةِ غيرُ ظاهرةٍ لكنَّها مخفيةٌ بعنايةِ حاذقٍ فى فنِّه، كأنَّ سُنَّارته غيرُ مرئيةٍ، أو قُل كأنَّ إبرتَهُ من جسد النصِّ نفسه. ومن ثم تغيبُ المُباشرةُ، ويغيبُ صوتُ المُصلح أو المُرشد، أو الخطيب، على الرغم من الإشارات والإلماحات النقدية والمعانى والمغازى السياسية والاجتماعية التى تُطلُّ بخجلٍ مُستحْسن فى متنِ النصِّ.

وأستطيعُ أن أقولُ إن نصوص هذا الكتاب تُحققُ لقارئها الدهشةَ والتأويلَ غير المفرط عن عالمٍ مُختلفٍ ومُغايرٍ، منسىّ ومعزولٍ، حتى لو كان مثلى من أهل الريف، وبالقدر نفسه تُعرِّى وتذبحُ وتفضحُ ما هو متوارٍ، وتجعلُهُ فى مشهديةٍ كاملةٍ طوال القراءة، وهنا يلعبُ المكانُ دورَه جماليات النصِّ.

إنَّ تجاربَ الكاتب الحياتية فى هذا الكتاب تأخذُ الحيِّزَ الأكبرَ، إضافةً إلى ذكرياته التى تحضرُ بقُوَّةٍ فى كلِّ نصٍّ ولا تغيبُ أبدًا، فهو يمتلكُ مادةً خصبةً للحكى، ويُحوِّلُ ما هو مألوف ومعتاد إلى كتابةٍ فيها من العفوية والتلقائية والبساطة العميقة الكثير، تحملها رُوحٌ هى ابنةٌ للبداهة والفطرة، فالمخفى أكثر من المقول فى هذا الكتاب.

وعلى الرغم من أنَّ صاحبَ الكتاب القصصى ينبِّهُ قراءَهُ إلى أنَّ قَصصَ الكتابِ الممتعة من خيال الكاتب؛ فإنه يحضرُ بقوَّة فى الكتاب مُعربًا عن اسمه وعمله، ملتقطًا حميميةَ القصِّ، حيثُ تستشعرُ من فرطِ الألفة أنَّ هذه الكتابةَ التى تختزل الكثير من العوالم تمثلُك أو تُمثِّل بعضًا من سيرة كاتبها، أو على الأقل بعضًا مما يعرف من أسرار القرية وغرائبها وحكاياتها.

ولعلَّ بيان عاطف عبيد الكتابى الذى يخص هذا الكتاب يشير إلى كم هى هذه القصص منحوتة على جداره، يقول:

«لا تبحث فى هذه القرية على خرائط جوجل، فكل الحكايات خرابيش مبعثرة على جدار روحى، ولا تسأل عن طريقة ترتيب القصص فى الكتاب، فلا توجد خرابيش مرتبة».

اقرأ أيضًا: 

«راوتر شيخ البلد» للكاتب عاطف عبيد