الخميس 05 يونيو 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

من «راوتر شيخ البلد» للكاتب عاطف عبيد

حرف

٥٠٠٠ وجه حزين و٦٠٠ تعليق فى أقل من خمس دقائق على نشر خبر وفاة عبدالعزيز شيخ البلد على صفحة القرية على فيسبوك. وعلى الرغم من أن فيسبوك ليس به وجه شمتان فإن الأمر لا يخلو من تعليق يلمز ويغمز على سيرة الرجل؛ فقد كتب سعد التهامى معلقًا «وعِند الله تَجتمِعُ الخُصومُ»، وكتبت أم شيماء الغباشى معلِّقة هى الأخرى «دامت لمين!». على أى حالة الدفنة غدًا بعد صلاة الجمعة من الجامع الكبير فى السوق. وقبل الأذان بساعة تحرَّك النعش ناحية الجامع، مع صراخ أولاده السبعة: عثمان واثنين إخوة رجال، مع أربع بنات، كبيرتهم اسمها زينب. زادت الوجوه الغاضبة على خبر الوفاة على صفحة فيسبوك، ظهرت تعليقات أكثر صراحةً تتهمه. وقبل الأذان بدقيقة واحدة، نادى المؤذن فى مكبر الصوت: الأستاذ بكرى العلوانى مدير صفحة البلد على فيسبوك: أغلِق التعليقات بسرعة يا بكرى!

كان عبدالعزيز العيسوى فلاحًا مميزًا فى هيئته ولبسه، ويُحكى أن جده العيسوى كان شيخًا لبلدنا أيام الملك فاروق، لذلك ظل الناس ينادون عبدالعزيز بشيخ البلد. يقول عبدالعزيز عن نفسه دائمًا «أنا فلاح نقابى»، ويسارع فى كل لحظة فى إخراج كارنيه عضويته فى نقابة الفلاحين مع شوية كارنيهات عضوية فى أحزاب، منها موجود ومنها ماحدش سمع حاجة عنه خالص.

عاطف عبيد

بعد صلاة الجنازة، تحرك النعش إلى المقابر، غير أن الجنازة بمجرد أن وصلت إلى المقابر اكتظَّت بعدد كبير من المشيِّعين، وقد ظهَر من ضمن المشيعين رجال من خارج البلد.

فى المساء، كان سرادق العزاء يسد ٣ شوارع رئيسية تلتقى كلها أمام دار عبدالعزيز شيخ البلد فى الجرن الكبير. كل عائلة العيسوى فى مقدمة السرادق، يتقدمهم عثمان ابن شيخ البلد، المقرئ يستعد لتلاوة ستُنقل ببثٍّ مباشر على صفحة البلد. 

بدأ العزاء، والكاميرات مثبتة فى أركان السرادق بعناية، كان وراء ترتيب السرادق محمود العيسوى ابن عم شيخ البلد، وقد اجتهد أن يخرج العزاء بما يؤهِّله أن يرث لقب مهندس المعازى، فى عائلة العيسوى، ذلك اللقب الذى اختص به عبدالعزيز نفسه طوال عشرين عامًا آخرها كان اليوم.

انتهت مراسم العزاء فى العاشرة مساء اليوم، اقترب محمود العيسوى بفخر من عثمان ابن المرحوم. همس فى أذُنه: وصلنا إلى ٣٠٠٠٠ مشاهدة لفيديو العزاء على صفحة البلد على فيسبوك، واطمئن، كنا قافلين التعليقات وكله تمام.

اجتمع أولاد شيخ البلد فى المندرة الكبيرة بعد العزاء، ثلاثة رجال وأربع بنات، كان الكلام على أنهم فى حاجة إلى عمل صدقة جارية على روح المرحوم. وبعد كلام كثير، وأخذ وردّ... قررَت العائلة تركيب راوتر سريع على باب دارهم، يقدم خدمة الإنترنت مجانًا ودون كلمة سر، ويُكتب بجوار الراوتر على لوحة بلاستيكية: «الفاتحة والدعاء للمرحوم صاحب الراوتر». 

التف الناس حول الراوتر المجانى، بدأ الزحام حول الدار، صبايا، وشبابًا، وطلبة، وموظفين.. واللى ماشى فى الطريق تثقل خطاه عند الراوتر، يمشى على مهله، وأصبح سماع صوت تنبيهات واتس آب وماسنجر وفيسبوك بكثرة حول الدار أمرًا طبيعيًّا جدًّا، حتى الذين وَضعوا هواتفهم المحمولة فى جيوبهم، تلتقطُ هواتفهم الشبكة بمجرد المرور قرب دار شيخ البلد، فتبدأ التنبيهات، المهتز منها والمعلن.

أصبح التجمع حول الدار أشبه بمولد عمران لا ينقصه إلا منشد ومراجيح، سكت الجيران عن الشكوى من الزحمة حول دار شيخ البلد، لأن هذه الزحمة أحدثت رواجًا سريعًا فى المَحالّ المحيطة، ولأنّ الجيران أيضًا كانوا أول من استفادوا بالإنترنت المجانى.

غير أن المولد حول الراوتر بدأ يأخذ شكلًا آخر، بدأت الدُّور المجاورة تؤجر مصاطبها لمن أراد أن يجلس فى حرم الراوتر. ويختلف إيجار المصطبة الواحدة بحسب قربها من الإنترنت المجانى. وبدأت عطيات الغجرية تضع نصبة الشاى قرب المكان، ثم ظهرت بائعة الجزر والخس، إلى أن تطور الأمر ليصبح سوقًا صباحيّة للبلد كلها، يباع فيها كل شىء حتى العصر. ثم تتغير طبيعة الموجودين من بعد العصر من طلبة الجامعة والموظفين الذين عادوا من شغلهم وناموا ساعتين، ثم تواعدوا فى الجرن الكبير ملتفين حول الراوتر.

ضاق الجرن الواسع مع كثرة الناس، وضعفت سرعة الإنترنت، ارتفعت همهمات من الموجودين حول الراوتر، ثم تجرأ أحدهم ودق البوابة الكبيرة وقال بصوت عالٍ «الإنترنت ضعيف يا ولاد شيخ البلد». من هنا تطورت عند أهل البلد فكرة الشكوى من ضعف الراوتر، حتى إن عطية ابن أم السعد الهبلة رمى طوبة فى زجاج البوابة الحديد فكسره، وخرج عثمان ابن شيخ البلد وضرب عطية، ثم وعد برفع سرعة الراوتر، مش علشان ابن أم السعد، بس علشان خاطر أبوهم يرتاح فى نومته، هلل الحضور، وبالفعل زادت سرعة الإنترنت، وفرح الناس.

حكايات فرعية مثيرة بين شخصيات ثابتة وطارئة قرب الراوتر. حتى ضعفت سرعة الراوتر أكثر من مرة، وكل مرة تنكسر فيها رقعة زجاج من البوابة الحديد حتى جاءت المرة الكبرى، انكسر زجاج البوابة كله، وامتدت أيادى الفلاحين على مقبض البوابة النحاس، خرج عثمان وإخوته من دار شيخ البلد غاضبين، تجمهر كبير حول الدار بصوت واحد.. «الإنترنت ضعيف يا ولاد شيخ البلد»، أقسم عثمان للجميع أنه لن يجدد الإنترنت، وأنه سيخلع الراوتر من مكانه. زاد صفير الصبية، حتى وصل ضابط المركز إلى دار شيخ البلد. اجتمع بعثمان وإخوته فى الداخل. قالت زينب بنت شيخ البلد: 

• لم نعد نستطيع النوم من كل هذا الضجيج حول راوتر أبى. ولم تعُد لنا طاقة بتكلفة الإنترنت كل شهر بهذا الحجم.

قال لها الضابط: 

• نحن الذين ندفع تكلفة الإنترنت، بالاتفاق مع عثمان أخيكِ. والدك كتب لنا وصية أن يظل ينقل أخبار البلد إلينا حتى بعد موته، ففكرنا فى تركيب الراوتر فى الجرن الكبير.